لفت انتباه العديد من المراقبين والمحللين السياسيين تحول في نبرة الخطاب السياسي المغربي باتجاه نوع من الصرامة في التعاطي مع مختلف المواقف الاقليمية والدولية من قضيته الوطنية والنزاع الاقليمي المفتعل حولها، خاصة بعد الخطاب التاريخي لملك البلاد محمد السادس في القمة التي جمعت المغرب لأول مرة مع مجلس دول التعاون الخليجي في الرياض بالمملكة العربية السعودية في العشرين من شهر ابريل الماضي. وقد اثار انتباه هؤلاء ان التحول في اللهجة السياسية المغربية قد ترافق مع خطوات نحو تكريس تنويع علاقاته وشراكاته الاستراتيجية مع عدد الدول المؤثرة على المسرح الدولي، مثل روسيا والهند والصين الشعبية التي زارها في الحادي عشر والثاني عشر من الشهر الحالي.
وهناك من تحدث عن حدوث انقلاب كبير، وغير مسبوق في توجهات المغرب الاستراتيجية بما يعنيه من تغيير جذري ودراماتيكي في تحالفاته الدولية التقليدية، بل هناك من اعتقد انه قد اصبح على طريق تبني مواقف استراتيجية متباينة تماماً وعلى طرفي نقيض مع مواقفه في الماضي.
غير ان هذا ليس دقيقا، في أقل تقدير، بل وقد يكون مغرضا بالنسبة لبعض الجهات التي تحاول تأليب الرأي العام الغربي ضد المغرب، مع انه لم يقم، في الواقع، الا بما تمليه عقيدته السياسية والدبلوماسية رغم ما يمكن القول حول بروز مؤشرات دالة على اعادة النظر في بعض بنودها بما يفعلها ويعطيها زخما يجعلها تتفاعل مع مستوى التحديات الاقليمية والدولية الراهنة، على مختلف المستويات، وخاصة بعدما لمس بعض التململ في مواقف بعض الدول الكبرى قد يتحول الى مواقف سلبية نهائية من قضيته الوطنية والنزاع الاقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية.
وبالفعل، فقد عرف المغرب منذ حصوله على الاستقلال منتصف خمسينيات القرن الماضي باتباعه توجها استراتيجيا في علاقاته الاقليمية والدولية قائما على الانفتاح على كل مكونات العالم، ذات الوزن والتأثير الايجابي على مسرح الأحداث الاقليمية والدولية.
وعلى الرغم من تصنيفه ضمن المعسكر الغربي، تحت قيادة الولايات المتحدة إبان مرحلة الحرب الباردة بين هذا المعسكر والمعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي، آنذاك، فإنه من الضروري عدم الوقوع في خطا اعتبار المغرب عضوا في المعسكر الغربي بالدرجة التي نجد فيها دولا اخرى داخله وداخل مؤسساته المكونة كما هو حال الدول الأعضاء في حلف شمال الاطلسي وبعض الدول الأخرى المرتبطة بشكل شبه عضوي بالولايات المتحدة على المستويات الاقتصادية والسياسية والدفاعية، بل العكس، تماماً، هو الواقع. ذلك ان المغرب قد حاول النأي بنفسه عن سياسة المحاور المتقابلة من خلال انتمائه الى عدد من المؤسسات الاقليمية والدولية ذات التوجهات غير المحسوبة بشكل مطلق على المعسكر الغربي او على المعسكر الشرقي، كما هو عليه شأن جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الافريقية ومؤسسة دول عدم الانحياز ايام صعود تلك المنظمات وتأثيرها في علاقات التجاذب والتنابذ بين المعسكرين المتصارعين.
وهذا ما يفسر كون المغرب قد احتفظ على الحد الأدنى من علاقات التعاون مع أقطاب العالم آنذاك، مثل الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي والصين الشعبية وبريطانيا علاوة على علاقاته المتميزة مع فرنسا ومختلف دول الاتحاد الأوروبي وغيرها من الدول في مختلف القارات.
هذا الموقف المتوازن، الى حد ما، هو الذي سمح للمغرب بعدم الشعور بصدمة انقلاب العلاقات الدولية رأسا على عقب مع انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر السياسي والعسكري الذي كان يمثله في نهايات تسعينيات القرن الماضي حيث كان واضحا للجميع التفرد الامريكي الغربي على مستوى توجيه العلاقات الدولية من داخل مؤسساتها الشرعية ممثلة في الامم المتحدة والمنظمات التابعة لها او خارجها، بفعل قوة حلف شمال الاطلسي وقوة تأثير واشنطن على الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال لا الحصر.
كما ان التوازن الذي ميز استراتيجية المغرب الاقليمية والدولية هو الذي جعله يشعر بأن بداية مسار بروز نظام دولي جديد متعدد الأقطاب الذي أشر عليه تنامي دور الاتحاد الروسي في العلاقات الدولية والتقدم الحاصل في التنسيق بينه وبين الصين الشعبية لن يكون الا بداية ايجابية تصب في مصلحة الامن والسلم العالميين، وبالتالي، فإن هذا الواقع يفرض العمل على تكريس هذا التوجه في العلاقات الدولية وهو امر غير متاح اذا لم يعمل على الدخول في شراكات اقتصادية وسياسية واستراتيجية مع دول العالم بغض النظر عن طبيعة تصوراتها السياسية وعقيدتها الاستراتيجية.
ان إمعان النظر في طبيعة علاقات المغرب الحالية مع دول افريقيا ضمن استراتيجية جنوب جنوب رغم عدم عضويته في الاتحاد الافريقي بسبب موقفه المعادي والموروث عن منظمة الوحدة الافريقية حول قضية الصحراء المغربية يؤكد ان هدف شراكات المغرب مع مختلف الدول الافريقية هو إعطاء زخم حقيقي لتلك العلاقات وعدم التعامل بشكل سلبي استسلامي مع هجوم خصوم ووحدته الترابية الذين رغبوا ويرغبون في عزله وقطع جذور علاقاته التاريخية العريقة مع القارة السمراء. بل اكثر من ذلك، فإن مختلف الكلمات التي ألقاها الملك محمد السادس مباشرة او تليت باسمه في مختلف لقاءاته والمؤتمرات بين القارة الافريقية وغيرها من الدول والمجموعات الدولية قد اثبتت ان المغرب يعتبر افريقيا مستقبل العالم والأمل الذي ينبغي التعويل عليه لتجاوز مختلف أزماته، على عكس بعض المواقف التي لا ترى فيها الا دولا غير قابلة للحياة او بحاجة الى مدها بمساعدات مقابل بقائها تحت مظلتها السياسية او الاستراتيجية.
ويمكن النظر أيضاً الى العلاقات المغربية الاوروبية من زاوية العمل على تمتين العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين على أسس من الشراكة المتقدمة والندية والوفاء بالالتزامات المشتركة في مجالات الامن ومكافحة الارهاب والحرص على تطبيق مختلف الاتفاقيات المبرمة بينهما على مختلف الأصعدة التجارية وغيرها. وهذا ما يفسر لجوء المغرب بين فينة وأخرى الى اتخاذ مواقف متناسبة مع المواقف الاروبية في عدد من القضايا الحيوية على شاكلة ما جرى في العلاقات المغربية الفرنسية على مستوى التعاون القضائي قبل سنتين، قبل ان يتم تجاوز الازمة بين الرباط وباريس واستئناف التعاون القضائي بينهما،وكذلك ما جرى عندما اتخذت المحكمة الاوروبية هذه السنة موقفا معادياً للمغرب من خلال دعوتها الى الغاء بعض بنود الاتفاقية المغربية الاروبية في كل ما يتعلق بمنتوجات المغرب من أقاليمه الجنوبية حيث كان الرد المغربي صارما في مواجهة هذا الموقف المعادي.
وإذا كان هناك من المراقبين من رأى في تركيز الملك على تنويع علاقات الشراكة مع مختلف دول العالم الوازنة في العلاقات الدولية مثل الهند وروسيا الاتحادية والصين الشعبية، ردا مباشرا على الموقف الذي كان للولايات المتحدة من قضية الصحراء المغربية والأزمة التي تسببت فيها تصريحات الامين العام للامم المتحدة بان كي مون في الجزائر حيث نعت المغرب بدولة الاحتلال، فإن حصر استراتيجية المغرب بهذه الواقعة ينم عن عدم ادراك طبيعة تصور المغرب للعلاقات الدولية ومحددات تحركاته في هذه المجالات والتي يمكن اعتبارها وليدة تقويم مستمر لطبيعة تلك العلاقات على قاعدة جوهرية أساسية هي تحقيق مصالح البلاد العليا وعدم المساس بالهامش الضروري من استقلاله في اتخاذ المبادرات ونسج العلاقات الاقليمية والدولية دون انتظار ضوء اخضر من هذه العاصمة او تلك.
وهذا ما يسمح باستنتاج ان رسالة المغرب على المستويات الاقليمية والدولية رسالة واحدة رغم تعدد وتنوع كيفيات التعبير عنها، شراكات وتحالفات وعلاقات ثنائية، وهي رسالة الحفاظ على الاستقرار والأمن الاقليمي والعالمي على قاعدة محاربة الارهاب والتطرف بطرق فعالة وبشكل جماعي من جهة، ومن خلال احترام القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة وعدم المساس بالشؤون الداخلية للدول والشعوب واحترام سيادتها الوطنية ووحدتها الترابية من جهة اخرى.
“إيلاف”