يدرك معظم المهتمين بالشأن السياسي في كل مكان من العالم، أن هناك خللا فادحا في تصور الولايات المتحدة الأميركية لدورها العالمي، يرافقه أو يسببه خلل في تعريفها لذاتها كقوة عالمية عظمى. هذا الخلل في تصور الذات وتعريف الأدوار لا يهم الولايات المتحدة فحسب، بل هي ظاهرة تطال كثيرا من الدول المؤثرة عالميا، لاسيما من امتلكت ماض قوي وأدوار تاريخية مؤثرة، من قبيل تلك التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية (فرنسا وبريطانيا)، وروسيا (وريثة الاتحاد السوفييتي)، وقوى إقليمية أصغر لا تزال تتشبث بأطياف مجد جيوستراتيجي مضى كتركيا، مصر، إيران، وغيرها. ولا أدل على ذلك، من الصراع الدائر حول توسيع عضوية “نادي الفيتو” داخل مجلس الأمن، مع ظهور قوى دولية مؤثرة في محيطها وعلى الساحة العالمية كالهند واليابان وألمانيا والبرازيل، وبعض القوى الإقليمية المؤثرة في هذه القارة أو تلك، وهو التوجه الذي يلقى معارضة شديدة من أعضاء النادي الحاليين.
طبعا، لا يجادل إلا جاهل أو جاحد في مكانة الولايات المتحدة الأميركية على المستوى الدولي، كونها واحدة من أهم القوى العظمى، وفاعلا أساسيا في السياسة الدولية. لكن بالمقابل، فعدم إدراك الولايات المتحدة أو من يتعامل معها، بأنها ليست نفس القوى العظمى التي كانتها في مراحل تاريخية مختلفة: في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وعلى إثر انتهاء الاتحاد السوفييتي، وخلال حربها على الإرهاب، وفي أعقاب صعود المارد الصيني، ومؤخرا عقب صحوة ورثة القيصر الروسي. لقد انتهى، وربما إلى غير رجعة، العهد الذي كانت فيه هذه الدولة القطب العالمي الأوحد، وقائدة “العالم الحر”، في أعقاب تبلور حقبة اتسع فيها المشهد لثلاث أو أربع قوى دولية مؤثرة أخرى، تشاركها زعامة العالم، وإن تفاوتت طموحاتها القيادية.
هذا الخلل في تصور الولايات المتحدة لدورها، ولحدود قوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والثقافية، يجعلها تستمر في التنطع لمجالات ليست من اختصاصها، بل ويوجد أطر دولية متعددة الأطراف تتصدى لعلاج اختلالاتها، داخل وخارج نطاق الأمم المتحدة، من قبيل الحكم على أداء الدول المختلفة، لاسيما في العالم الثالث، وذلك في مجالات حقوق الإنسان، اقتصاد السوق، محاربة الإرهاب، الديمقراطية البرلمانية، حرية الصحافة، المساواة بين الجنسين، وغيرها، متجاهلة أنها واحدة من تلك الدول التي ليست فوق المساءلة في جميع هذه المجالات، وأن أداءها فيها لا يقترب من المثالية، بل وتوجد خلف العديد من دول العالم الثالث نفسها في أكثر من مجال، ناهيك عن الخلل الأكبر المتمثل في اعتمادها في إصدار أحكامها على معايير ذاتية تخص الولايات المتحدة فقط، ولا يوجد توافق دولي على إضفاء الطابع الكوني عليها.
من حق الولايات المتحدة طبعا أن تبني علاقاتها الدولية وفق رؤاها ومصالحها، ومن حقها أن تعتمد المعايير التي تشاء في هذا السياق، لكن أن تتصور أن بإمكانها الاستمرار في تقمص أدوار مدعي الاتهام والمحامي والقاضي معا، وتتصور أن ما تقوله يجب أن يتخذ صبغة دولية، فهو خلل نعتقد أن العالم عموما، وكثير من دول العالم الثالث، الضحية الأبرز لهذه الرؤى الأميركية القاصرة والمجحفة، على وجه التحديد، هي بصدد التخلص منه وتجاهله، لصالح ما تعتقد أنه خياراتها الوطنية التي تحترم خصوصيتها وتلبي حاجيات مجتمعها. ولا أدل على ذلك، من تجرؤ الكثير من دول العالم على رفض الابتزاز الذي تمارسه الولايات المتحدة مباشرة، أو من خلال الهيئات الدولية التي تمتلك فيها تأثيرا قويا، وعدم الرضوخ لتوصيفات ووصايا الأميركان في الميادين الحقوقية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ورفض تقاريرها في هذه المجالات لما فيها من جهل شنيع، وإنكار شديد للواقع، لصالح فرض رؤى أحادية افتراضية صيغت عبر تقارير هواة أو تصورات مكتبية لأكاديميين.
ولعل الأزمة الاخيرة التي سببها تقرير الخارجية الامريكية حول حالة حقوق الإنسان في المغرب، ويسببها حقيقة كل عام مع معظم الدول التي يشملها، لخير دليل على هذا التشوه الأمريكي في قراءة الواقع العالمي. ولعل نظرة واحدة إلى الفقرة الأولى من التقرير الذي يقع في أربعين صفحة، لكفيلة بتوضيح جميع ما ذهبنا إليه. ماذا يمكن أن نسمي الخلاصة الواردة في هذه الفقرة، والتي تقول بأن “المواطنين المغاربة يفتقدون القدرة على تغيير الرؤية الدستورية المؤسسة للشكل الملكي للحكم، الفساد، والتجاهل على نطاق واسع لمعايير دولة القانون من قبل قوات الأمن”!! بجملة واحدة، يحكم كتاب التقرير أن هذا الشكل الملكي للحكم غير مناسب للمغرب، وأن أهم مشاكل المغاربة هي عدم قدرتهم على تغيير هذا الشكل!!! طبعا، يتجاهل التقرير أن هذه الأحكام الدستورية هي نتاج جهد شاركت فيه جميع النخب المغربية، وحظي بموافقة شبه مطلقة من المواطنين المغاربة، في استفتاء حر عام 2011، وبالتالي، فلا حاجة لهم بأحكام أناس جهلة، مبنية على تقارير مغرضة من فئة معزولة من “الناشطين” المغاربة، الذين ينبذهم التيار العام، ولا تتفق مع مطالبهم ورؤاهم الغالبية الساحقة من المغاربة.
وهنا، نموذج لما على الولايات المتحدة أن تنتبه إليه وهي توزع شهادات حسن وسوء السلوك على من يجلسون في “أقسامها التحضيرية” للديمقراطية وحقوق الإنسان والاقتصاد الحر، والمغرب ليس واحدا منها ولله الحمد، حيث من الضروري أن تنأى بنفسها عن انتقاد ما تمارسه هي على نطاق واسع. فممارسات رجال شرطتها تجاه المواطنين السود تقيم الدنيا ولا تقعدها ولم يعد ممكنا اعتبارها ظواهر فردية معزولة لمرضى نفسيين. ونظامها “الديمقراطي” ثنائي القطب، الذي يصوت فيه ممولو الحملات الانتخابية من اللوبيات القوية، ويساق فيها المواطنين عبر وسائل إعلام متحكم فيها، لم تجد للآن بلدا واحدا في العالم يؤمن بجدواها أو يقلدها. كما أن معتقل غوانتانامو وغيرها من المعتقلات الأمريكية “خارج التراب الأمريكي” تجرد الأميركان من أهلية الحكم على سلطة القانون واحترام شروط المحاكمة والاعتقال في هذا البلد أو ذاك. أما نكبات اقتصادها الحر، والتي قادت العالم إلى أعظم كساد اقتصادي منذ العشرينات، فتفرض عليها ان تكون أكثر تحفظا في دفعها دول العالم الثالث “للانتحار” اقتصاديا. وأخيرا وليس آخرا، فالدولة التي تبيح لقواتها المسلحة أن تقصف بطائراتها حفل زفاف يضم المئات، لمجرد الاشتباه بوجود مطلوب أو إرهابي خطير بين المدعوين، حبذا لو تحلى مسؤولوها وكتاب تقاريرها ببعض الحياء وهم ينتقدون سجل حقوق الإنسان لهذا البلد أو ذاك، ويعترضون على بعض التجاوز لقوات الأمن في سعيها للقبض على مطلوبين دون إطلاق رصاص أو إرهاب أهالي، فما بالك بقتلهم.
أخيرا، وللإنصاف، فالولايات المتحدة دولة مؤسسات تتعدد فيها الرؤى والمقاربات، وتتباين الأحكام التي تتبناها هذه المؤسسات المختلفة تبعا لتوجهات أصحاب القرار فيها، وهو التباين الذي يلمسه الجميع بين وزارة الخارجية، وزارة الدفاع، مجلس الأمن القومي، الكونغرس، وجهاز المخابرات (سي أي إيه)، وغيرها. وعليه، يجب وضع ما يصدر من تقارير عن هذه المؤسسات في سياقه الصحيح، الترحيب بما يقترب من الإنصاف، والتنديد بما يجافي الحقيقة، دون أن يصاحب ذلك حالة من التهليل تجاه النوع الأول، ولا الرعب مما ورد في النوع الثاني، والسعي نحو نسج علاقات ندية، نعم ندية، مع هذه الدولة العظمى، وذلك لما فيه مصلحة الطرفين، مع الاستمرار طبعا في تحسين الواقع الحقوقي والاقتصادي والسياسي لمواطنينا بحثا عن رضاهم، لا سعيا وراء شهادات حسن السلوك الأميركية.