بقلم: هيثم شلبي
ثمانية أعوام مرت على استعادة المغرب لمقعده في الاتحاد الأفريقي، قام خلالها بتعويض غيابه عن المنظمة القارية الذي دام ثلاثة وثلاثين عاما، وهدم ما بناه جنرالات الجزائر خلالها من تحالفات معاندة للوحدة الترابية المغربية. ثمانية أعوام شهد الحضور الأفريقي للمغرب توهجا لافتا بفضل مبدأين بسيطين اعتمدهما وبشر بهما الملك محمد السادس: تعاون جنوب- جنوب، بصيغة رابح- رابح! وتتجلى صعوبة تطبيق هذين المبدأين البسيطين، اللذين يتشدق بهما الكثيرون -دون قدرة على تنزيلهما- في كون التعاون جنوب- جنوب لطالما اعتبر مستحيلا بسبب افتقار دول الجنوب للقيمة المضافة الصناعية أو التقنية، وتشابه اعتمادها على إنتاج وتصدير المواد الأولية الخام. أما علاقات رابح- رابح، فكانت أكثر “استحالة”، لأن العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الدول المتقدمة، من مستعمري القارة السمراء القدامى والجدد، لا تعترف ولا تعرف سوى النهب والمكسب الفاحش بالنسبة للطرف الأقوى، مع ترك الفتات للدول الأفريقية!
رحلة المغرب لتنزيل مبدأيه على أرض الواقع، مرت بأكثر من مرحلة. حيث بدأت بتجديد الروابط الدينية مع دول غرب أفريقيا تحديدا، عبر “مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة”، مما رسخ مكانة المغرب كقطب روحي لهذا الجزء من القارة السمراء. ليتلو ذلك ما اصطلح على تسميته “دبلوماسية الفوسفات”، وإن كان الوصف الأفضل لها هو التعبير عن حرص المملكة المغربية على تقوية الأمن الغذائي الأفريقي. وهكذا، قام المغرب بتأمين حاجات مختلف دول القارة من الأسمدة الضرورية لتأمين القطاع الزراعي في هذه الدول، وذلك عبر بناء مصانع أسمدة عملاقة في كل نيجيريا وأثيوبيا ، مع مشاريع أصغر في كل من رواندا وغانا وتنزانيا وكينيا وغيرها، بعضها بدأ العمل وبعضها في طور الإنشاء(مع ملاحظة أنها جميعا دول أنغلوفونية، كانت داعمة تقليديا لجبهة البوليساريو)!!
بعد العمل على الأمن الروحي والغذائي للأفارقة، انتقل المغرب إلى ميدان السياسة، عبر مبادرتين خلاقتين: الأولى تأسيس “حلف جنوب الأطلسي” على غرار نظيره الشمالي، والذي يحمل طموح جمع الدول الأفريقية الواقعة على المحيط الأطلسي، لتكون مخاطبا قويا لنظيريها في الضفة الغربية: أمريكا الشمالية، وأمريكا اللاتينية. والثانية ربط دول الساحل الحبيسة (تشاد والنيجر ومالي وبوركينافاسو) بالمحيط الأطلسي، عبر ميناء الداخلة الأطلسي قيد الإنشاء، وهي المبادرة التي تلقفتها الدول المعنية بترحاب شديد، لعلمها بالطموح الذي تحمله. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد استلهم المغرب نموذجيه السابقين العابرين للدول، من أجل تبني مبادرة إنشاء خط غاز يربط قرابة 13 دولة أفريقية انطلاقا من نيجيريا وصولا للمغرب، ليصار بعدها إلى تصديره للقارة الأوروبية، وهو المشروع الذي تجاوز مرحلة التحضير والاعتماد إلى بدء التنفيذ داخل الدول المعنية، كل حسب ظروفه.
المرحلة الثالثة من المبادرات التي بوأت المملكة الشريفة المكانة التي تستحقها في صدارة الدول الأفريقية، فتمثلت أساسا عبر مبادرتين، كان أولها تأمين القارة صحيا من خلال المساهمة في تأمين اللقاحات التي تحتاجها القارة المنكوبة صحيا، وكانت أول ثمرات هذه المبادرة تأمين اختبارات فيروس جدري القردة، والذي جاء نجدة لدولة مثل الكونغو الديمقراطية، كانت تحت رحمة بعض الشركات الدولية، مقابل أسعار باهظة. ثاني المبادرتين تمثل في مشروع ترددت أصداؤه في العالم أجمع، ويتعلق بتطوير سلاسل القيمة للنقل الكهربائي، وتحديدا مزاوجة الخبرات المغربية وما تملكه من مادة الفوسفات، مع مواد النيكل والنحاس والليثيوم التي يتركز معظم مخزونها في زامبيا والكونغو الديمقراطية. مشروع سيؤمن لهذا التحالف الأفريقي القدرة على الدخول لمجال صناعة وتصدير البطاريات، والقطع مع الدور التقليدي لها كمصدر للمواد الخام الداخلة في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية. وسيلتحق بهذا المشروع في مرحلة لاحقة كلا من بوتسوانا ومالاوي وليسوتو وناميبيا، وهي دول تعترف بالبوليساريو (باستثناء مالاوي)، الأمر الذي يعطي فكرة عن أسلوب عمل المملكة المغربية لتأمين وحدتها الترابية، بعيدا عن البروباغاندا الموروثة من أزمنة أخرى، ومنهج شراء الذمم الذي ثبت فشله!!
وبرغم طموح المبادرات السابقة، وحاجتها إلى استثمارات وجهود جبارة من أجل تحقيقها، يجهز المغرب جملة من المبادرات الاستراتيجية المستقبلية، تصب في نفس الهدف المزدوج: تأمين قارة أفريقيا، وتكريس الريادة المغربية فيها، عبر العمل لا الشعارات، ويتعلق الأمر بكل من: تأمين المعدات العسكرية الأكثر احتياجا لها من طرف الدول الأفريقية، وذلك عبر التصنيع العسكري الذي بدأ يشق طريقه في المغرب. وستكون البداية مع “الدرونات” (الطائرات بدون طيار)، الذي سيكون المغرب قادرا قريبا على إنتاج أكثر من ألف طائرة منها بمختلف المهام والقدرات، مما يؤمن حاجته لهذا السلاح المهم، ويتيح مجالا لتصدير الفائض للدول الأفريقية الصديقة. يضاف إلى ما سبق مركبات النقل العسكري المدرعة بمختلف فئاتها، وهو ما ستؤمنه الشراكة العسكرية المغربية الهندية. باقي المبادرات المستقبلية الجريئة والطموحة يتعلق بتأمين حاجة الدول الأفريقية من عربات القطار من مختلف الفئات؛ سفن الصيد وبواخر نقل البضائع والركاب، وأخيرا الطائرات التجارية لنقل الركاب. وسيكون ذلك ممكنا عبر مصانع القطارات التي ستبنى خلال ورش تأهيل السكك الحديدية المغربية في أفق كأس العالم 2030؛ والمشروع الطموح لبناء السفن التجارية التي يزيد طولها عن 100 متر، والتي من المنتظر أن يمتلك المغرب منها أسطولا تجاريا يتجاوز 100 باخرة شحن قبل نهاية العقد الحالي، ليصار إلى تصدير الفائض بعد ذلك إلى الأشقاء الأفارقة. أما الطائرات فستكون البداية مع إنتاج العملاق البرازيلي “إمبراير Embraer”، الذي يشيد مصنعه في الدار البيضاء، للمساهمة في تلبية الطلب المغربي والأفريقي على طائرات نقل المسافرين.
ولا يجب أن ننسى في خضم سرد المبادرات الجريئة والطموحة الدور الذي يضطلع به القطاع الخاص المغربي في أفريقيا، وتحديدا شركات البناء والمقاولات الضخمة، التي قامت وتقوم بإنجاز مشاريع البنية التحتية الضخمة (مشاريع سكنية، طرق، موانئ، سدود، الخ)؛ إضافة إلى البنوك وشركات الاتصالات والمواصلات (النقل) وغيرها من الشركات التي أصبحت حاضرة دائما في مختلف المشاريع التي يجري تنفيذها في مختلف دول القارة السمراء.
نسوق هذا السرد، لإعطاء مثال للتفكير الاستراتيجي، والأهداف الطموحة، والجدية في التنفيذ، وهي كلها مبادئ انخرطت فيها المملكة المغربية، من أعلى قمة هرمها السياسي (الملك محمد السادس) وحتى آخر مستخدم في قطاعها الخاص، دون استعجال قطف الثمار، أو المساومة على المواقف السياسية! نموذج يشكل فرصة نادرة، ودرسا بليغا لجنرالات النظام الجزائري الذين انتهت صلاحية الغالبية العظمى منهم، من أجل القطيعة مع الأساليب الموروثة من زمن الحرب الباردة، ومحاولة إحداث تغيير يفيد الشعب الجزائري بالدرجة الأولى، عبر تلقف اليد المغربية الممدودة، وتصحيح المواقف التاريخية الخاطئة، وفتح صفحة جديدة قوامها التعاون بين دول المغرب الكبير، وفتح أبواب التنسيق بين دول الشمال الأفريقي على مصراعيها؛ فهل لا زال هناك متسع من الوقت لمثل هذا التغيير؟!