بعد أن حسمت أجنحة النظام خيارها بالسماح للرئيس عبد المجيد تبون بالترشح لعهدة ثانية، بما يعني “أوتوماتيكيا” أنه الرئيس المقبل للجزائر (لم يسبق عربيا أن فشل رئيس في التجديد لنفسه)، يمكن القول أن الرهان الوحيد أمام السلطات الجزائرية في هذه الانتخابات محسومة النتائج سلفا، هو كسب نسبة مشاركة تتجاوز ما حققته انتخابات 2019 (39.88%)؛ هذا إذا سلمنا جدلا بأن النسب المعلنة هي النسب الحقيقية، في بلد تترسخ لدى مواطنيه قناعة بأنها لم تكن كذلك في أي انتخابات سابقة. صحيح أن الرئيس القديم- الجديد تبون سيدخل قصر المرادية بالفوز بأي نسبة، حتى ولو قاطع الجزائريون قاطبة هذه الانتخابات، لكن تجاوز عتبة ال 40% يبقى هدفا مركزيا في دعاية نظام “الجزائر الجديدة”، لتأكيد تجاوزها لحراك 2019!
ورغم وجود أزيد من ثلاثين مرشحا لهذه الانتخابات، جرت العادة على تقليص عددهم إلى حوالي خمسة مرشحين، بسبب عدم جدية ترشح أغلبهم، وعجزهم عن تأمين التوقيعات ال 60 ألفا المطلوبة للترشح في 25 ولاية، ناهيك عن 600 توقيع لأعضاء منتخبين في البرلمان أو المجالس المحلية. ويمكن منذ اللحظة توقع اللائحة النهائية للمرشحين -إضافة للرئيس تبون-، والتي لن تخرج عن: عبد العالي حساني الأمين العام لحركة مجتمع السلم، يوسف أوشيش الأمين العام لجبهة القوى الاشتراكية، بلقاسم الساحلي عن التحالف الوطني الجمهوري (يضم سبعة أحزاب)، سعيدة نغزة رئيسة الكونفدرالية العامة للمؤسسات الجزائرية، وزبيدة عسول رئيسة حزب الاتحاد من أجل التغيير والرقي، مع إمكانية عجز إحدى الامرأتين عن جمع التوقيعات المطلوبة، اللهم إلا إذا استدعى “ديكور” الانتخابات الديمقراطية وجود إحداهما أو الاثنتين معا!
لكن، وهنا ورطة النظام الأولى، لا أحد من الأسماء السابقة بإمكانه “تنشيط” انتخابات رئاسية مثيرة تستطيع جلب جزء معتبر من المواطنين إلى صناديق الاقتراع. صحيح أن حركة مجتمع السلم هي واحدة من الهيئات الحزبية الكبيرة في الجزائر، لكن اختيارها ترشيح حساني بدل مرشحها “الدائم” الأكثر كاريزما وشعبية، عبد الرزاق مقري، سيحكم عليها بالاكتفاء بالمركز الثاني بعيدا جدا عن الفائز تبون. ثاني الورطات، هي اصطفاف الأحزاب الأربعة الأكثر تمثيلية في البرلمان خلف ترشيح الرئيس تبون، بينما كان رؤساء ثلاثة منها منافسين له في الانتخابات السابقة. ولا تقتصر الورطة في تفريغ الانتخابات من “أرانب” سباق وازنة فحسب، لكن لأن التحدي الآن هو نجاح تبون في تجيير الأصوات التي تمتلكها هذه الأحزاب (جبهة التحرير الوطني، التجمع الوطني الديمقراطي، حركة البناء، جبهة المستقبل) لصالحه. ولو قمنا بعملية قياس “تعسفية” على نتائج منافسي تبون في 2019، والذين أصبحوا في صفه في 2024، فيجب أن يحصل الرئيس تبون على نسبة تتجاوز 90% من الأصوات، وهي ناتج جمع نتيجة الرئيس تبون والمرشحين الذين نافسوه في الانتخابات السابقة. ومن شأن نسبة مثل هذه أن تلقي بظلال كثيفة من الشك على نتائج الانتخابات برمتها، لاسيما وأن النظام لطالما “طبّل” لحصول رؤسائه لنسب “ديمقراطية” بعيدة عن مثيلاتها في الأنظمة الجمهورية العربية.
ويبدو رهان النظام لتحقيق نسبة مشاركة تتجاوز ال 40% مبنيا على احتمالات ضعيفة، أبرزها قدرة حركة مجتمع السلم التي غابت عن الرئاسيات الماضية في جلب أصوات مناصريها وباقي الطيف الإسلامي، وكذا قدرة جبهة القوى الاشتراكية (لم تشارك كذلك في الانتخابات الماضية) على تكسير مقاطعة منطقة القبايل، ودفع الناس للتصويت في الانتخابات المقبلة، وأخيرا، قدرة زبيدة عسول على جذب جزء من جمهور الحراك الذي قاطع في معظمه الانتخابات الماضية. لكن منذ الآن، يحكم معظم المراقبين على فشل هذه الرهانات الثلاثة، أولا لأن حساني ليس الوجه المناسب لتحفيز الإسلاميين على مثل هذه المشاركة الكثيفة. نفس الأمر ينطبق على قدرة أوشيش على الرغم من “تاريخ” حزبه، لاسيما مع وجود قوى سياسية معارضة تنافسه في المنطقة (التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية) تقاطع الانتخابات، ناهيك عن تأثير حركة الماك برئاسة فرحات مهني، التي لا تعترف بهذه الانتخابات أصلا. أما عسول فمشكوك في قدرتها على جمع التوقيعات اللازمة للترشح، ناهيك عن جذب جمهور الحراك الذي لا يؤمن بكل هذه المسرحية حول “الجزائر الجديدة”!
أما ما يقوي من احتمال تحقيق هذه الانتخابات لنسبة مشاركة أقل بكثير من سابقتها، فيرجع بالأساس إلى عدم قناعة المواطنين بأن “العصابة الجديدة” تختلف بأي شيء عن “العصابة القديمة”. أما الدعاية الفاشلة حول “القوة الضاربة” والتي لا تنفك أجهزة النظام الإعلامية عن الترويج لها، فلن تجد لها أثرا طالما بقي هناك جزائري واحد يقف في طابور للحصول على سلعة أساسية، أو “يناضل” من أجل الحصول على كهرباء وماء صالح للشرب، ناهيك عن تكسير مقاطعة منطقة القبايل التي تعيش على وقع الحرائق سنويا، دون أن تتكفل الحكومة باقتناء طائرات تجنبهم هذا العذاب السنوي.
أمام هذا الواقع، يبدو أن السيناريو “الأسهل” والأكثر احتمالا للتحقق، هو الحل الجاهز والمجرب لمرات عديدة، ونقصد تزوير الانتخابات، وتحديدا، نفخ أرقام المشاركة، وهو الأمر الذي بدأت مقدماته منذ بداية العام، وستتكفل نفس وسائل الإعلام بالتغطية عليه من خلال انتقاء بعض الصور لمراكز انتخابية مكتظة في هذه الدائرة أو تلك، ناهيك عن فتح الخزائن لشراء أصوات الناس، وهو ما يشكل للنظام أقل التكاليف التي يمكن دفعها من أجل الحفاظ على صورة “الجزائر الجديدة” قائمة.
ختاما، فالانتخابات، أي انتخابات، ما هي إلا وسيلة (وليست هدفا في حد ذاتها) من أجل تجديد النخب (بينما الرئيس تبون يدخل سنواته الثمانين)، وهو نفس عمر قطبي النظام الآخرين الجنرالات شنقريحة ومهنا؛ وتمكين المواطنين من الاختيار الحر لمن يقدر على إدارة شؤونهم العامة، بنزاهة ونجاعة، وهو ما أثبتت السنوات الماضية عدم اقترابهم منه حتى، وهو السبب الرئيس الذي أنزل ملايين الجزائريين للشارع للمطالبة بإسقاط هذا النظام، الذي تديره “عصابة” وفق هتافاتهم التي ملأت الميادين، ولا يمكن لجزائري عاقل أن يثق بنية أو قدرة هذه العصابة على تغيير سلوكها المتجذر من عقود.