بقلم: هيثم شلبي
مرة أخرى، يتجدد “سعار” الأجهزة الرسمية والإعلامية تجاه الخريطة الكاملة للملكة المغربية، بل وبلغ هذه المرة حد “احتجاز” فريق كرة القدم الخاص بنهضة بركان لمدة عشر ساعات في مطار هواري بومدين، وتجريده من زيه الرياضي، بحجة احتوائه على الخريطة المستهدفة، رغم تدخل الجهة الوصية على الكرة الأفريقية، التي طالبت سلطات الجزائر بالإفراج عن الفريق والسماح للاعبيه بارتداء زيهم المعتمد من قبل الكاف، لكن عمى هذه السلطات جعلها تضرب بقرارات هذه الأخيرة عرض الحائط، مما تسبب في خسارة فريق اتحاد العاصمة للمباراة، وبالتالي لفرصة الدفاع عن لقبه، بل وسلسلة أخرى من العقوبات ستصدر على إثر امتناعه المنتظر عن لعب لقاء العودة أمام الفريق المغربي بملعبه الأحد المقبل، بنفس الحجة دائما، أنه يرتدي زيا يحمل خريطة كاملة للمملكة المغربية!!
وقد كان ممكنا لهذا السلوك “الأهوج” أن يوضع في خانة الأدلة الإضافية على “غباء” النظام العسكري الجزائري، وتدخل جنرالاته البالغ في جميع مفاصل الحياة الجزائرية، مع ما يترتب على هذا التدخل من كوارث، يعاني منها الجزائريون يوميا، منذ استقلالهم الصوري عن فرنسا؛ لكن الألفاظ التي استخدمت في تصريحات المسؤولين الجزائريين، ورددتها “جوقة” الإعلام الدعائي للنظام، تستدعي من أي مراقب لهذا المشهد العبثي بعض التوقف للتأمل.
لكن قبل ذلك، من المهم التذكير بأن الحرب المعلنة على الخريطة المغربية الكاملة بدأت قبل موقعة بركان بكثير، وكانت النتائج دائما -دون استثناء واحد- خسارة الجزائر لمنطقها المضاد؛ ورفض طلباتها بسحب الخريطة أو تعديلها (تقسيم المغرب)؛
وختاما، انسحاب ممثل الجزائر من الاجتماع أو التظاهرة التي شكلت مسرح الحدث، ومزيدا من الكسب الدبلوماسي لقضية المغرب الوطنية! وهو ما حدث بالمناسبة لمنتخب كرة اليد الجزائري للشبان بعد واقعة بركان بساعات، وكذا لمندوب الجزائر في الاجتماع الإقليمي لمدراء الجمارك عام 2021، والذي أعاد المحاولة -بغباء منقطع النظير- أمام نفس الهيئة في العام الموالي، وواجه نفس المصير: رفض طلب سحب الخريطة المغربية.. فالانسحاب!!
طبعا كان هناك توصيفات خاصة بالخريطة، وأخرى خاصة بالسلوك نفسه (لجوء المغرب إلى نشر خريطته كاملة!!) فبالنسبة للحالة الأولى، تكرر على مسامع العالم الأوصاف التالية في إعلام الجنرالات: “الخريطة المزورة (أو المزيفة)” و”الخريطة الوهمية” و”الخريطة المزعومة”، وألفاظ أخرى مشابهة.
وهنا، نعتقد أن كل واحد من هذه الاوصاف يحتاج إلى تعليق بسيط، حرصا على عقولنا أولا، ولغتنا العربية تاليا. فوصف الخريطة المغربية الكاملة بالمزورة أو المزيفة يكذبه الواقع الذي يقول بأن هذه الخريطة تعكس واقعا أصليا مجسدا على الأرض، ومستند إلى حقائق التاريخ والجغرافيا حتى قبل وجود دولة مركزية في الجزائر، بل وإن روابط السيادة المغربية على صحرائه الغربية والشرقية، المجسدة بالبيعة التي في أعناق شيوخ قبائل هذه الصحراء الشاسعة لمختلف سلاطين المغرب هو أمر اعترفت به حتى محكمة العدل الدولية، ووثقته مختلف المخطوطات، عربية وأجنبية، مما يؤكد بأن هذه الخريطة “أصلية” تماما، ولا يشوبها أدنى تزييف أو تزوير!
أما وصفها بالخريطة المزعومة، فلا يقل مغالطة، حيث إن الزعم في لغتنا هو القول الذي لا يمكن التدليل عليه أو تأكيده بالبراهين، وخريطة المغرب الكاملة هي على العكس تماما، خريطة “مؤكدة” تعكس واقعا مؤكدا.
بل وتبعا لهذا المنطق يمكن اعتبارها “منقوصة” لعدم اشتمالها على كامل الصحراء المغربية، مع بقاء الجزء الشرقي منها “مختطفا” من قبل جنرالات فرنسا، الذين تقبلوا بصدر رحب هدية سادتهم المسمومة، وتنكروا لوعودهم بإعادتها إلى وطنها الأم المغرب بعد نيل استقلالهم المزعوم.
أما دليل تأكيدها الآخر فهو تصحيح خطأ بعض الخرائط المتداولة التي تقتطع المنطقة العازلة من السيادة المغربية، مع العلم بأنها منطقة “محرمة” على عصابات البوليساريو، وضعها المغرب مطلع التسعينيات تحت تصرف قوات الأمم المتحدة في سياق اتفاق وقف إطلاق النار، وبالتالي، فوصف مزعومة لا ينطبق إلا على الخرائط المجتزأة -كليا او جزئيا-، أما الخريطة الكاملة فهي وحدها المؤكدة.
آخر أوصافهم للخريطة كان بأنها وهمية، هو أكثر ادعاءات إعلام العسكر سخافة ومدعاة للسخرية، فالأمر الوهمي هو عكس الأمر الحقيقي، والخريطة الكاملة للمغرب والمعتمدة رسميا في مختلف المحافل الدولية هي حقيقة قائمة على الأرض، وليست وهمية “كجمهورية تندوف” التي لا حدود ولا شعب ولا سيادة لها على أرض الواقع!! خريطة المغرب الكاملة هي حقيقة قابلة للتحقق من طرف أي إنسان، بمجرد ركوب سيارته والسفر عبر كامل الجغرافيا التي تضمها الخريطة من طنجة للكويرة، أما جمهورية الوهم الصحراوية فلا يوجد حقيقة مؤكدة واحدة بشأنها، فأي الحقيقتين أنصع؟!
ونأتي الآن، لحالة الجنون “الحقيقي” التي تصف اعتزاز المغاربة بخريطة بلادهم بأنه “اعتداء على السيادة الوطنية الجزائرية!!” وأنه “مس بقضية وطنية جزائرية!!” وأنه “يتنافى مع الشرعية الدولية!!” صحيح أن كل عبارة من هذه العبارات الثلاث تحتاج مقالا منفصلا، لكن سنحاول التعليق بكلمات مختصرة.
وهنا، نعيد طرح التساؤل الوارد في العنوان: كيف يمكن لخريطة المغرب الكاملة أن تتحول إلى قضية وطنية جزائرية؟!! مع ما تحمله هذه الكلمات من حمولة رمزية كبيرة.
نتفهم أن تثير خريطة المغرب المتضمنة لصحرائه الشرقية حفيظة النظام الجزائري، ونستوعب أن يعتبروها قضية وطنية، تبعا لتبنيهم مبدأ “حرمة المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار” رغم إدراكهم قبل غيرهم أنها كانت أرضا مغربية حياتها كلها، باستثناء سنوات الاستعمار الفرنسي.
نفس الأمر ينطبق على كون رسم المغاربة لخريطة بلادهم من طنجة للكويرة مس بقضية وطنية جزائرية، حيث أن هذه الأحكام لا تجوز بتاتا إلا في حال كان من ضمن الخريطة مناطق تدعي الجزائر تبعيتها لها، ولعل مثال روسيا وأوكرانيا واضح في هذا السياق.
أما اعتبار نشر المغرب لخريطته كاملة بأنه مخالف للشرعية الدولية، فعن أي شرعية يتحدثون، طالما أن هذه هي الخريطة المعتمدة للمغرب لدى منظمة التعاون الإسلامي، جامعة الدول العربية، وتعترف بها بشكل ثنائي قرابة 85% (164 دولة) ما بين معترف صريح بمغربية الصحراء، وآخر بمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، وقلة تترك للأمم المتحدة تقرير مصير الملف وتدعم عموما التسوية السلمية له.
بينما لا يتجاوز عدد المعترفين بجمهورية تندوف 3% (6 دول)، مع وجود 12% تعترف بالبوليساريو ولا تعترف بجمهوريته (23 دولة)!!
الأكثر إثارة للسخرية، هو المحاولة اليائسة لتبرير حالة “الهياج” الجزائري تجاه مغربية الصحراء، بكونها “وفاء للمبادئ”، ودعم لحق تقرير المصير وجهود تصفية الاستعمار، على الرغم من معرفة القاصي والداني للسجل “المخزي” لجنرالات الجزائر في محاولة فصل المغرب عن عمقه الأفريقي؛ وتعطيل اتحاد المغرب العربي عبر قطع التواصل بين شعوبه؛ وابتزاز النظام التونسي عبر تفجير الأماكن السياحية؛ والسعي لتفتيت مالي وجمهورية الكونغو الديمقراطية، عبر دعم انفصاليي الأزواد في الأولى، ومتمردي شرق الكونغو المرتبطين برواندا؛ هذا دون الحديث عن استهداف موكب الرئيس الموريتاني على أرض الجزائر واغتيال مرافقه؛ وجميع المهام “القذرة” التي قام بها عسكر الجزائر في غرب القارة الأفريقية تنفيذا لأوامر سادتهم في الإليزيه! فعن أي مبادئ يتحدث الإعلام الدعائي للجنرالات؟!
ختاما، فالمبدأ واضح: “العداء لا يصلح لأن يكون سياسة”! وعليه، فإن تمادي عسكر الجزائر في اعتبار “العداء لكل ما هو مغربي” عقيدة نظام، والسعي المحموم لتحويله إلى عقيدة مجتمع، لن يقود إلا إلى تسريع وتيرة تآكل ما تبقى من مشروعية لهذا النظام، ومزيد من التدهور للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في هذا البلد؛ وأن السبيل الوحيد للتعامل مع وطأة الجغرافيا والتاريخ التي حكمت على البلدين بالتجاور، لا يمر قطعا عبر “المكابرة”، بل بالجلوس سويا إلى طاولة الحوار، لتفكيك ما بينهما من قضايا عالقة، حتى لا تتحول إلى ملفات حارقة، تهدد مستقبل الأجيال فيهما، بعد أن “سمّمت” حاضرهما!!