إيمانويل ماكرون

بعد إعلان الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والإمارات، فرنسا ماكرون أمام مفترق طرق!

بقلم: هيثم شلبي

مداد كثير سال وسيسيل مستقبلا في الكتابة حول الحدث المفصلي المتمثل في الإعلان عن “الشراكة الاستراتيجية المبتكرة” بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية المتحدة. واقع تفرضه الطبيعة المتشعبة لاتفاقيات التعاون الموقعة بين البلدين، والمجالات التي تغطيها، وآثارها الممتدة من الأوضاع المباشرة للبلدين، إلى محيطهما الإقليمي والقاري، بل والدولي! شراكة بمثل هذا الشمول من الطبيعي أن تحظى بمتابعة واهتمام العديد من دول العالم ذات المصلحة مع المغرب والإمارات، وكذا مع الدول -الأفريقية بالخصوص- التي ستتأثر بمشاريع هذه الشراكة. وعليه، راقبنا كيف سارع الإعلام الجزائري إلى الهجوم الشديد و”المسعور” على اتفاقية يفترض أنها شأن سيادي للدولتين الموقعتين عليها، بينما اكتفت باقي الدول، لاسيما فرنسا بمتابعة الموضوع دون تعليق. ولأننا تعودنا على عدم التعامل مع الجزائر كدولة، وذلك بسبب طبيعة نظامها الوظيفي، وهيمنة فرنسا على جنرالاتها الحاكمين الذين ارتضوا لعب دور “الوكيل” للسيد الفرنسي، بعد الاستقلال الصوري لهذا البلد، فسنحاول الاكتفاء هنا بتسليط الضوء على موقف النخبة الفرنسية، وتحديدا معسكر ساكن الإليزيه الرئيس ماكرون، لمحاولة استقراء طريقة تعامله المحتملة مع الواقع الجديد الذي ستكرسه هذه الشراكة الاستراتيجية.

لقد جرت عادة وسائل الإعلام الفرنسية، وتحديدا تلك المرتبطة بجناح الرئيس ماكرون، وكذا النخبة الفرنكوفونية في المغرب وغيرها من مستعمرات فرنسا السابقة، على “تسطيح” الأزمة التي تعيشها العلاقات المغربية الفرنسية، بردّها إلى خلافات شخصية راجعة لطبيعة قائدي البلدين تارة (كما عبر عن ذلك الكاتب الفرنسي الطاهر بن جلون)؛ وتارة أخرى إلى عدم انتقال فرنسا من موقف الترحيب العام بمبادرة الحكم الذاتي، إلى مرحلة تبني هذه المبادرة باعتبارها الأساس الوحيد لحل مشكلة الصحراء تحت السيادة المغربية كما تفعل دول أوروبية كثيرة وعلى رأسها إسبانيا وألمانيا، هذا إذا لم يمتلك جرأة اتخاذ موقف شبيه بموقف الولايات المتحدة التي تعترف بمغربية الصحراء؛ بينما تذهب منابر أخرى إلى تحويل عدد من مظاهر هذه الأزمة إلى مسببات، من قبيل أزمة التأشيرات وغيرها. ولا تدرك هذه النخب، أن “اللف والدوران” حول الأزمة بدل امتلاك الشجاعة لمواجهتها، لا يؤدي إلى شيء سوى إطالة أمدها، وتشتيت الجهود التي كان يجب أن تنصب على محاولة إيجاد حلول جذرية لهذه الأزمة الحقيقية -غير المسبوقة- بين البلدين.

أما خارج معسكر الرئيس ماكرون، فتخرج أصوات “مختلفة” لمسؤولين سابقين، على اطلاع بدقائق علاقة بلادهم مع مستعمراتهم السابقة (بحكم مناصبهم السابقة)، تقدم قراءات وتقديرات مختلفة لما هو سائد في أروقة الإليزيه، ومنها ما قاله كزافييه دريانكور، سفير فرنسا السابق في الجزائر، حول “الغرق” المحتوم لنظام العسكر في الجزائر، وضرورة قطع الحبل الذي يربط الجمهورية الخامسة الفرنسية به، قبل أن يغرقا معا!! قراءة أخرى للواقع قدمها الرئيس السابق للمخابرات الخارجية الفرنسية آلان جويي، الذي اعترف بأن بلاده يتم استبدالها بالمغرب في جميع الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية، وذلك سياسيا وأمنيا واقتصاديا، في إشارة واضحة إلى ضرورة أن تقوم فرنسا بالتعامل مع هذا الواقع بالاعتراف به بداية، والتعامل بناء عليه تاليا.

الحقيقة أن مياه كثيرة جرت أسفل جسر العلاقات المغربية الفرنسية، وهناك جيل مغربي جديد لا يشاطر مواطنيه الفرنكوفونيين نظرتهم المعجبة بفرنسا، وهناك وعي ينتشر كالنار في الهشيم بين المؤثرين المغاربة على وسائل التواصل الاجتماعي والمواطنين العاديين على السواء، ينبه إلى تراث العداء المستحكم من قبل المستعمر السابق وبلادهم، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وليس وليد البارحة؛ جيل يؤمن بأن فرنسا هي المسؤول الأول والأخير عن العداء المستحكم بين جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، وبين المغرب؛ وهي كذلك من يقف وراء تجميد اتحاد المغرب العربي، مع تكفل نفس الجنرالات بتفتيت جميع أواصر التعاون أو التواصل بين بلدان وشعوب المنطقة المغاربية؛ ناهيك عن المسؤولية التاريخية المباشرة عن تفتيت المملكة الشريفة بفصل صحرائها الشرقية وإهدائها لجنرالات فرنسا في الجزائر؛ والمحاولات المتكررة لمحاصرة المغرب داخل حدود جغرافية ضيقة تعزله عن التواصل مع محيطه الطبيعي في غرب ووسط أفريقيا.

وهنا، فمن “السذاجة” الاعتقاد أن مجرد قول جملتين لطيفتين تجاه مقترح الحكم الذاتي، كفيل بجعل النخب المغربية تصدق أن فرنسا قد اقتنعت أخيرا بضرورة الانتقال من موقع العداء للمغرب إلى موقع الصداقة، دون أن يصاحب هذه الاعتراف الواضح بسيادة المغرب على صحرائه، سواء مباشرة أو عبر مبادرة الحكم الذاتي، اعتراف مماثل بأحقية ممارسة المغرب لريادته في غرب القارة الأفريقية وواجهتها الأطلسية، بل والتعهد بعدم معاكسة الجهود المغربية لبناء هذا التكتل القاري، أو تكسير جهوده لتأسيس علاقات تعاون جنوب -جنوب، في إطار المبدأ الراسخ “رابح- رابح”. أضف إلى ذلك، أن المغرب -عكس جنرالات الجزائر- لا يبحث عن اعتذار لفظي من فرنسا عن جرائمها خلال الحقبة الاستعمارية، بل بتراجع عملي عن الآثار التي ترتبت على هذا العداء، والمساهمة الحقيقية في إزالة آثاره!!

ويجد الرئيس ماكرون وفريقه أنفسهم الآن، وأكثر من أي وقت مضى، مطالبين بالإجابة على الأسئلة الصعبة السابقة، لاسيما بعد الإعلان عن الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والإمارات، والتي ستجيب على سؤال التمويل الذي سيسهل ترجمة المشاريع الاستراتيجية المحلية ذات البعد والأثر الأفريقي الواضح. أسئلة لا توجد سوى ثلاثة إجابات محتملة عليها: إما الاعتراف بالواقع بلغة واضحة لا تلعثم فيها! ودفع جميع الفواتير المستحقة من أجل تحسين العلاقة مع المغرب جذريا، حتى لو اضطر للتضحية بالجزائر (إذا عجز عن إجبار جنرالاته فيها على التضحية بمرتزقة البوليساريو وفتح صفحة جديدة بينهم وبين المغرب)؛ أو الاستمرار في محاولة التذاكي واتخاذ خطوات صغيرة، إعلامية بالأساس، لا تسمن ولا تغني من جوع؛ أو التمادي في العناد والمكابرة -النابعة من الاستعلاء المصاحب لشخصية المستعمر الأبيض المؤمن بتفوقه العرقي- وتصعيد حالة العداء للمغرب ومصالحه المحلية والقارية استنادا على أموال جنرالاته في الجزائر، وبقايا نفوذ النخب الأفريقية المرتبطة به.

ولمعرفتنا بوجود حدود لقوة ساكن الإليزيه، في نطاق توازن القوى داخل الدولة الفرنسية العميقة، يبدو السيناريو الثالث مستبعدا، على الأقل بشكل سافر وواضح، لوقوف اليمين الفرنسي عموما (الجمهوريون كمثال) وراء ضرورة دفع ثمن التحسن الحقيقي في العلاقة المغربية الفرنسية، نتيجة حسمهم لحقيقة أن المغرب هو أكثر فائدة بما لا يقاس من نظام عسكري جزائري، بدأ العد العكسي لإعلان وفاته منذ ثلاث سنوات على الأقل! أما بخصوص السيناريو الأول، وإن اكتسب -كما قلنا- مناصرين بشكل متزايد، فإن فهم طبيعة وعقلية ونفسية الطبقة التي يمثلها الرئيس ماكرون (الاستعمارية التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض) يجعل من الصعب توقع أن يقوم ماكرون نفسه بدفع الأثمان المطلوبة لتحسين العلاقة مع المغرب بشكل حقيقي؛ ليبقى في النهاية الخيار الثاني، المتمثل في استمرار محاولات التذاكي غير المجدية من قبل الريس ماكرون داخل وخارج فرنسا، لتخفيف محاولات استفزاز المغرب، وتقديم ترضيات لفظية له، على أمل أن تسهم المهارات اللفظية لسفيره في المغرب، في الإيحاء بتحسن العلاقات المضطرد بين البلدين، في انتظار خروج ماكرون من الإليزيه عام 2027! وهنا، يطرح سؤال ملح نفسه: هل تحتمل المصالح الفرنسية استمرار التوتر في العلاقة مع المغرب لمدة ثلاث سنوات أخرى قبل أن يأتي ساكن أخر إلى الإليزيه؟! الإجابة المنطقية هي بالنفي طبعا، الأمر الذي يفتح الباب أمام توقع “تدخل” باقي أجنحة الدولة العميقة لدفع ماكرون للنزول عن “شجرة” العداء للمغرب، والتوائم مع الواقع الجديد، بشكل من الأشكال!!

ختاما، فإن تحسن العلاقة بين فرنسا والمغرب ينطلق من اعتراف النخب الفرنسية المؤثرة بالانتهاء التام لحقبتها الاستعمارية عموما، وبانتفاء فرصها في مواجهة خمسة لاعبين كبار يتنافسون لوراثة تركتها في أفريقيا: الصين والولايات المتحدة وروسيا والمغرب وتركيا، ناهيك عن قوى أقل حضورا كالإمارات، والتي بتحالفها مع المغرب، يتفوقان على التأثير التركي والروسي، بل وتجعل البلدين معا قطبا يوازي القوتين العظميين: الولايات المتحدة والصين، بل هي مرشحة للتفوق عليهما لأسباب عدة ليس هذا مجال شرحها. ومن أجل المحافظة على ما تبقى من مصالحها في مستعمراتها السابقة-أي فرنسا- عليها أن تتحالف مع أحد الأقطاب الخمسة، والذي يبدو منطقيا أن يكون الحلف المغربي الإماراتي، بسبب تعذر إمكانية التحالف مع الأقطاب الأربعة الأخرى. فهل تحسن النخب المتحكمة في هرم السلطة الفرنسية الخروج من ترددها، وتعترف بالواقع الجيوستراتيجي الجديد في القارة السمراء، وتتصرف على أساس هذا الإدراك؟ الأيام وحدها هي التي ستحمل الإجابة!

اقرأ أيضا

الجزائر وفرنسا

بعد أن بات في عزلة تامة.. النظام الجزائري يحلم بالتقارب مع فرنسا

بعد أن أغرق النظام العسكري الجزائري البلاد في عزلة تامة بسبب حربه القذرة ضد الوحدة الترابية للمملكة، لم يعد أمام الكابرانات إلى العودة للتودد لباريس، كما فعلوا مع مدريد،

وزير الأوقاف يكشف عدد المشرفين على التأطير الديني لأفراد الجالية المغربية

بلغ عدد المشرفين على التأطير الديني لأفراد الجالية المغربية الذين تم إيفادهم إلى تسع دول، 372 سنة 2024، كما تم إيفاد بعثات علمية من القراء والوعاظ المؤهلين والمشفعين إلى كل من فرنسا وبلجيكا وايطاليا واسبانيا وهولاندا ورومانيا والسويد والدنمارك وكندا، وذلك لتأطير أفراد الجالية المغربية.

خبير فرنسي: المغرب يحظى بإعجاب كبير من النخب الفرنسية المهتمة بمستقبل إفريقيا

أكد مدير وكالة (أفريكا بريس باريس)، ألفريد مينيو دي كامباني، أنه "لا يوجد بلد في إفريقيا اليوم يحظى بنفس الإعجاب الذي يحظى به المغرب من النخب الفرنسية المستنيرة والمهتمة بمستقبل القارة الإفريقية".