بقلم: هيثم شلبي
مع انجلاء غبار الانتخابات التي شهدتها القمة السنوية للاتحاد الأفريقي، والتي اجتهد الإعلام الجزائري في تصويرها “كمعارك” مصيرية، ودليل على علو كعب الفائز داخل القارة الأفريقية، يبدو التساؤل مشروعا: من هو الطرف الذي حقق انتصارا معتبرا على خصمه، المغرب أم الجزائر؟! علما بأن المغرب لم يكن مشدودا لخوض هذه المعارك ولا بالتوصيفات التي أصبغها النظام الجزائري وإعلامه عليها، لأنه ببساطة حقق معظم أهدافه داخل القارة السمراء وهو خارج هذا الاتحاد أصلا، على مدى ثلاثة وثلاثين عاما كاملة!! وحتى نكون أكثر تحديدا، نقول أن البلدين الجارين كانا معنيان بثلاثة انتخابات، هي من حيث الأهمية: منصب رئيس المفوضية الأفريقية، أحد مقعدي شمال أفريقيا في مجلس السلم والأمن، وأخيرا، منصب نائبة المفوض الأفريقي.
بداية، فقد كان التشنج واضحا على وسائل الإعلام الجزائرية، وبالغت بشكل لافت في تضخيم أهمية الانتخابات المذكورة، معتبرة إياها المقياس الأبرز لقياس أهمية أحد الجارين على الساحة الأفريقية، بينما الواقع يقول عكس ذلك تماما، وهو ما جعل الإعلام المغربي أكثر هدوء في التعامل مع هذه الأحداث. فبالنسبة للمغرب، المعركة الأهم التي توجه بوصلته السياسية والدبلوماسية والاقتصادية أفريقيا، هي معركة استكمال وحدته الترابية، وإقفال ملف النزاع المفتعل حول أقاليمه الجنوبية، حيث تتزعم الجزائر معسكر المعادين لهذه الوحدة، لدرجة تجعل نفس القضية (وحدة المغرب الترابية) المحدد الوحيد لحركتها الدبلوماسية، وهو الأمر الذي يدعو للاستغراب الشديد. إذ أنه من المنطقي أن تعني وحدة المغرب الترابية المغرب وليس الجزائر!! لكنه حال النظام العسكري في الجزائر، الذي لا يخضع لمنطق!
هذا الملف تحديدا، نجح المغرب ومنذ زمن بعيد، في إبقائه بعيدا عن تداول الاتحاد الأفريقي، حتى وهو خارج هذه المنظمة، وذلك عبر أشقائه وأصدقائه الأفارقة. لهذا السبب، لم تكن هذه الانتخابات، بأي حال، مصيرية بالنسبة للمغرب على هذا الصعيد، لأن لديه من القوة داخل أجهزة هذه المنظمة وخارجها ما يكفي لإجهاض أي محاولة “للتشويش” يمكن أن تصدر عنها، سواء من الجزائر أو من حلفائه القلائل المتبقين. ولعل ما يزيد من اطمئنانه، أن الواقع يقول بأن دائرة أعداء الوحدة الترابية المغربية داخل القارة السمراء قد تقلصت إلى عدد لا يتجاوز ست دول؛ مع وقوف ثلاث دول أخرى قريبا منها (يمكن تسميته بالحياد السلبي)؛ بينما اختارت سبع دول الحياد الإيجابي، الأقرب للموقف المغربي بسبب تشابك المصالح الثنائية الاقتصادية؛ وأخيرا، الاعتراف العملي للدول الأفريقية ال 37 المتبقية بسيادة المغرب على صحرائه، بل وافتتاح غالبيتها قنصليات في حاضرتي الصحراء العيون والداخلة. أما الجزائر، فهي تدرك أن أقصى طموحها حاليا هو محاولة الحفاظ على ما تبقى من معسكرها المتهالك، ومحاولة تأخير “القدر المحتوم” بطرد ربيبتها “جمهورية تندوف” من صفوف الاتحاد؛ فكيف نرى نتائج الانتخابات من هذا المنظور؟!
بالنسبة للمغرب، فقد كان معنيا أساسا باختيار حليفه محمد علي يوسف وزير خارجية جيبوتي، الذي تعترف بلاده بمغربية الصحراء وتمتلك قنصلية في الداخلة، بينما سخرت الجزائر جميع “إمكانياتها” لاختيار رايلا أودينغا، رئيس وزراء كينيا السابق، وخصم الوحدة الترابية المغربية التاريخي. وتنبع أهمية المفوض بالنسبة للبلدين، من كونه يشكل مصدر إزعاج “بيروقراطي” للمغرب من شأنه أن “يشوش” على هدف إخراج مرتزقة البوليساريو، كما سبق للجنوب أفريقية نكوسازانا دلاميني زوما (2012-2017)، أن قامت بتعطيل عودة المغرب للاتحاد الأفريقي لمدة ستة أشهر بسبب تعقيدات مسطرية. صحيح أن المفوض، أيا كان، لن يستطيع الوقوف ضد إرادة الزعماء الأفارقة في طرد البوليساريو، لكن وجود صديق للمغرب في المنصب من شأنه أن يسهل مرور الأمر بسلاسة وسرعة. ومن نافل القول أن أهداف النظام الجزائري هي نقيض ما سبق. فمن الذي فاز في “أم المعارك” بسبب أهمية المنصب على رأس الهرم الإداري في الاتحاد الأفريقي؟ المغرب.
ثاني المعارك أهمية، وإن كانت أقل أهمية بكثير، فهي اختيار أحد ممثلي منطقة شمال أفريقيا (لها عضوين) في مجلس السلم والأمن الأفريقي، والذي شغلته المغرب خلال السنوات الثلاث الماضية. ورغم تقدم الجزائر في النتيجة خلال جولات التنافس الستة، إلا أنها عجزت عن حسم المقعد لصالحها، وبالتالي تأجل الحسم إلى الشهر المقبل. لكن، وعلى غرار ما طرحناه في النقطة السابقة، يحق لنا التساؤل: ما أهمية الانتصار في هذه “المعركة” للبلدين؟! بالنسبة للجزائر، فهي محاولة للتعويض عن “كرامتها المهدرة” بسبب غيابها عن المجلس منذ 2022، وهي التي ترأسته بشكل متواصل منذ 2003 وإلى غاية خروجها. أما لو تساءلنا: وماذا استطاعت أن تفعل بهذه الرئاسة (وليس مجرد العضوية)؟ وهل تمكنت من إلحاق أدنى ضرر بالوحدة الترابية المغربية، وفي غياب المغرب؛ ستأتي الإجابة صارخة: لا شيء بالمرة!! أما بالنسبة للمغرب، فوجودها داخل المجلس يحاصر المحاولات البائسة واليائسة معا، التي يمكن لمندوب جنرالات الجزائر أن يقدم عليها، على الرغم من أن الأغلبية الساحقة لأعضاء المجلس يتوزعون ما بين صديق للمغرب، ومن يتخذ حيادا إيجابيا تدعمه علاقات اقتصادية متينة. عموما، فالخاسر من بين الطرفين سيتاح له خوض المنافسة على المقعد الآخر هذا الصيف، وبالتالي فرصة الدخول لمجاورة خصمه، لتبقى موازين القوى داخل المجلس هي صاحبة الكلمة الفصل، والتي ستكون لصالح المغرب في جميع الأحوال.
آخر هذه المعارك وأقلها أهمية، كانت تلك المتعلقة بمنصب نائبة المفوض الجيبوتي محمد علي يوسف، وقد كان في أسفل سلم الأولويات بالنسبة للمغرب، على الرغم من ترشيحه الدبلوماسية لطيفة أخرباش للمنصب (مناكفة في الجزائر ربما!)، عكس الجزائر التي اعتبرتها معركة مصيرية لتعويض فشلها في المعركتين الأهم. وينبع التقدير المغربي المنخفض للمعركة من كون صاحبة المنصب ستكون مختصة بأمور التسيير اليومي البيروقراطي داخل الاتحاد من قبيل الشأن المالي وشؤون الموظفين، بمعنى آخر، هي لا تمتلك تأثيرا سياسيا يذكر، بطريقة يمكنها تسهيل أو تعطيل مهمة طرد البوليساريو من الاتحاد. أما بالنسبة للجزائر، فكان لزما أن يصوّر نظامها أنه لم يتعرض لهزيمة ماحقة، وأنه نجح في زرع “عين” داخل المفوضية، وإن كانت منزوعة الصلاحيات السياسية، وتحت الإشراف المباشر لصديق المغرب. هذه المقاربات تفسر عدم المبالاة التي أبدتها وسائل الإعلام المغربية، مقابل حالة الاحتفال المبالغ فيها جزائريا!
ختاما، فوجود ممثلي ثماني دول داخل أجهزة المفوضية، لا يقلل بأي حال من أهمية الدول ال 46 المتبقية. فالأهمية إقليميا وقاريا ودوليا تقاس بحجم الشراكات الاقتصادية، والمبادرات السياسية الخلاقة، والمساهمة في دعم التجارب التنموية لدول القارة، وحجم تغلغل القطاع الخاص والاستثمارات لهذا البلد أو ذاك، ناهيك عن القوة الناعمة والتأثير، وغيرها من العناصر، وليس بسبب وجود موظف هنا او هناك. هذه المقاييس، هي التي حققت الريادة للمغرب على حساب كبار القارة كجنوب أفريقيا ونيجيريا ومصر وأثيوبيا. أما الجزائر، فهي خارج المنافسة تماما، لأسباب اجتهد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في شرحها لجنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، عندما برر رفض قبول عضويتهم في تجمع بريكس! لكن كبر سن من هم في دائرة القرار في النظام الجزائري، وبطء استيعابهم، يجعلهم يهدرون وقت ومقدرات هذا الشعب العظيم، في معاركهم “الدونكيشوتية” الخاسرة!!