جاءت النهضة إلى السلطة، عقب سقوط النظام الديكتاتوري السابق وولادة ديموقراطية ناشئة، أي ليس في ظرف انتقال طبيعيّ. والمقصود هو ظرف انتقالٍ للسلطة التنفيذيّة من تيارٍ سياسيّ أو حزبيّ إلى آخر، كما يجري عادّة في البلدان العريقة بالحياة الديموقراطيّة، حيث تشكّل جملة الأعراف والدساتير والقوانين والقيم العامة والعقود الاجتماعية، الضابط والحكم والمؤشّر لطبيعة ذلك الانتقال. فما جرى في تونس ليس تغييراً في القائمين على السلطة والشؤون العامّة فحسب، بل إن المجلس الوطني التأسيسي الذي انتخب في 23 تشرين الأول 2011، وكانت حركة «النهضة» تمتلك فيه الأغلبية (90 مقعداً من أصل 217)، أصبح مطالباً بإعداد دستور ديموقراطي لدولة مدنية، باعتباره المطلب الاستراتيجي الذي كانت تنادي به الثورة التونسية. بيد أن حركة النهضة تعاملت مع الإعداد للدستور الجديد للجمهورية الثانية، والقوانين والقيم والعقود العامّة التي تنظّم مظلّة الحياة العامة في تونس، انطلاقاً بالضبط من أيديولوجيتها السياسية، ووعيها الخاصّ، كحركة تعتبر نفسها جزءاً لا يتجزأ من حركة «الإخوان المسلمين»، تريد بناء الدولة الإسلامية بالتدرج من خلال توخي استراتيجية «التمكين».
المزيد: حركة النهضة تدعو السلطات التونسية إلى استقبال اللاجئين السوريين
خلال ممارسة حركة «النهضة» للسلطة، انكشفت مجموعة من الحقائق لمكونات المجتمع المدني الحديث، ومجمل الأحزاب الديموقراطية والرأي العام التونسي و «الاتحاد العام التونسي للشغل»، بوصفه العمود الفقري للمجتمع المدني في تونس، منها:
أولاً، إن «النهضة» تريد تغيير طبيعة المجتمع التونسي المعتدل والوسطي، والمنفتح على الحداثة الغربية، والمتبني للعلمانية والليبرالية. إذ كشفت لنا التطورات السياسية خلال السنوات الماضية من حكم الإسلاميين، أن الحركة أفسحت في المجال لنشاط المجموعات الإرهابية، وعبدت لها الطريق لكي يكون لها موقع قدم على الأرض التونسية، واستخدمتها في نطاق حربها على المعارضة اليسارية والليبرالية والقومية. ومما زاد من حدة هذه الحالة الانفلات الأمني الذي تمر به تونس، وتغلغل الإرهاب في المدن والأرياف والجبال، لا سيما في المحافظات المهمشة والفقيرة، وفي أحزمة الفقر بالعاصمة. فكانت النتيجة أن ساد الانقسام في المشهد السياسي التونسي، بين سلطة الائتلاف الحاكم الذي كانت تتزعمه حركة «النهضة» على مجمل العملية السياسية، ومحاولتها المحمومة من أجل الهيمنة على مفاصل الدولة التونسية، وبين المعارضة الليبرالية والعلمانية التي تناضل من أجل إنجاز أهداف الثورة التونسية، المتمثلة في بناء دولة وطنية ديموقراطية تعددية.
ثانيا: إصرار الحركة على تغيير مجلة الأحوال الشخصية التي تعتبر أهم مكسب في تحرر المرأة التونسية، بل تشكّل جوهر العقد الاجتماعي للدولة المدنية التونسية. فـ «النهضة» كانت تريد تغيير فصلين يشكلان جوهر هذه المجلة. أولهما يتعلق بالتبنّي، حيث تريد الحركة استبداله بمبدأ «الكفالة»، والثاني هو تعدّد الزوجات، على اعتبار أن الإسلام لا يمنع تعدد الزوجات ولا يفرضه. وكان هذا الموقف يناقض ما أكدته حركة «النهضة» في خطابها السياسي للمعارضة العلمانية والليبرالية في مرحلة مناهضة ديكتاتورية بن علي، حيث كانت تؤكد في أدبياتها أنها تؤمن ببناء الدولة المدنية، وتحترم مجلّة الأحــــوال الشخصية والقوانين المدنية التونسية، وتعتبر أنّ تعدد الزوجـــات من «العدل المستحـــــيل». فكيف يحق للحركة، وهي الفرع من الكل، أن تغير العقد الاجتماعي المدني التونســــي، الذي يعتبر ركنا أســــاساً من الدولة المــــدنية التونســـية؟
ثالثا: إن حركة «النهضة» التي كان لها شبق سلطوي كبير، لم تميز بين السلطة والدولة. فإذا كانت الانتخابات الديموقراطية قد منحتها ممارسة الأفعال والحقوق المنوطة بالسلطة التنفيذية، فإنه لا يمكن لأي طرف سياسي إسلامي أو سواه أن يغير من طبيعة الدولة المدنية التونسية وأجهزتها المختلفة. فـ «النهضة» التي توخت استراتيجية السيطرة على مفاصل الدولة، كانت تريد تغيير الهيكل الأساس الذي قامت عليه الدولة التونسية الحديثة منذ عهد ما بعد الاستقلال، مستقوية بتمجيد امتلاكها الشرعية الانتخابية، التي في حقيقة الأمر لم تكن تتجاوز الـ20 في المئة. فالخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه «النهضة»، أنها بامتلاكها السلطة التنفيذية، يمكن لها أن تغير في مؤسسات الدولة المدنية الحديثة، وبالتالي الهيمنة على الفضاء العام، الذي يتشكل من معطيات أساسية، من المساواة بين الجنسين، والمساواة بين جميع الأفراد على أساس المواطنية، وحرية التعبير وإبداء الرأي والنشر والتجمهر وتأسيس المؤسّسات إلى الحريات الجنسيّة والشخصية والعقائدية، التي على أساسها يتمّ التفاعل بين جموع المواطنين التونسيين ولا يمكن مسّها أو الانتقاص منها بأيّ ظرفٍ من الظروف، وتحت أيّ تفسير خاصّ سياسيّ أو ثقافيّ أو دينيّ للمعاني. فهذه الحقوق مكتسبة ومشرعنة عبر نضالات طويلة، ساهمت وتعاضدت من أجلها مفاعيل الحركة الإصلاحية التونسية منذ القرن التاسع عشر، والحركة الوطنية الحديثة بكل مكوناتها الدستورية والعروبية واليسارية والنقابية.
المزيد: الغنوشي: فجر ليبيا يعتبر خط الدفاع الأول عن تونس
إن حركة «النهضة» التي يرفض بعض قيادييها تصنيفها ضمن الأحزاب الإسلامية لاعتبارات يرونها موضوعية، اعترفت بأخطائها أثناء تجربة حكومة الترويكا بين نهاية 2011 ونهاية 2013، وشخصت أسباب فشلها في تحقيق نجاح كاسح في انتخابات 26 تشرين الأول 2014، باتت تدرك جيدا أنه لا بد من ترتيب بيتها الداخلي والحسم في ملفات ظلت تؤجلها وترحلها وفي مقدّمتها التحول بشكل نهائي نحو حزب مدني ديموقراطي سياسي يوضح علاقته بالدِّين ويحسم علاقة السياسي بالدعوي.
فهل سيكون المؤتمر العاشر لحركة «النهضة» أول مؤتمر مضموني بعد 1986، باعتبار أن كل المؤتمرات التي انعقدت في المهجر لم تتناول المسائل المضمونية وكذلك المؤتمر التاسع الذي انعقد في 2012، بحيث يحسم بشكل نهائي في عملية تحول الحركة إلى حزب سياسي تونسي وطني يجسد القطيعة مع حركة «الإخوان المسلمين»، ويتبنى المفاهيم والقيم والأعراف المتعلقة بالجمهورية العلمانية، أو الدولة الديموقراطية التعددية، التي ينفصل فيها مجال السياسة عن مجال الدين، ويتبنى منطق الحداثة بكل منطوياتها الفكرية والسياسية؟
* كاتب وصحفي/”السفير”