يَفْتَخِرُ جميع الموريتانيين في نواديهم العامة ومجالسهم الخاصة منهم من “يصدع” بذلك و منهم من “يُخَافِتُ” به -حسب منسوب التأثر بالموالاة و المعارضة -بتوفر نعمة الأمن والاستقرار، خصوصا حين يستحضرون بكل حسرة وأسي وتعوذ و”أصبع في التراب غَرِيسٌ” ما تُتَخَطًفُ به دولٌ إفريقية وعربية وَازِنَةً من فِتَنٍ وحروب و قتل وأحادية وجور ودكتاتورية..
المزيد: موريتانيا: كلام في الممنوع
ويرجع الفضل في توفير نعمة الأمن والاستقرار ببلادنا في محيط “جيوسياسي مُلْتَهِبٍ” للإرادة السياسية الحالية ثم للقوات المسلحة وقوات الأمن التي يجب نظرا لحجم المخاطر و التحديات التي تواجهها أن تحظي بفائق التمويل المادي و كامل الدعم المعنوي من طرف المنظومة الوطنية أجمعها وأن يصون الساسة – معارضة و موالاة- عِرْضَهَا من التجاذب السياسي وأن تحفظ هي أيضا شرفها من خلال مزيد العَض بالنواجد علي اتقاء شبهات “المستنقع السياسي”.
لكن الأمن لا يكون مستديما إلا إذا شُد عَضُدُهُ بالديمقراطية و سنحاول في عجالة تقييم التجربة الديمقراطية الموريتانية من خلال فحص البعد النظري و مساءلة الجانب العملي.
فبخصوص البعد النظري فإن الديمقراطية الموريتانية تكاد تكون واصلة حد “المَلاَءَةِ” saturation ويمكن قياس ذلك من خلال المعايير لثلاثة التالية:
-أولا: ثراء الترسانة الدستورية والقانونية: يعتبر الدستور الموريتاني المُعَدًلُ والقوانين العضوية والنظامية المطبقة له بشهادة فقهاء القانون الدستوري من أحسن دساتير وقوانين الأفارقة والعرب و بعض دول الغرب تعدديةً وحرياتٍ حتي أنه جمع بين الاقتباس الكثير من المدرسة الفرنسية والاستئناس ولو اليسير أيضا بالمدرسة الأنكلوسكسونية من خلال منح مكانة دستورية لمؤسسة المعارضة الديمقراطية؛
المزيد: دعوة لاستفتاء شعبي لتغيير الدستور بموريتانيا
ثانيا: التضخم العددي للمؤسسات الدستورية: توجد بموريتانيا تقريبا كل المؤسسات الدستورية المتعارف عليها بدول العالم ذات التقاليد الديمقراطية العريقة من برلمان بغرفتين ومجالس بلدية وحضرية ومحكمة حسابات ومحكمة عدل سامية ومجلس إسلامي أعلي ومجلس اقتصادي واجتماعي ووسيط جمهورية…مما جعل البعض يتساءل عن الغرض من إنشاء بعض هذه المؤسسات الدستورية أهو لتأدية خدمة عمومية أم لمحاربة البطالة المتفشية؟
ثالثا: مرور قرابة ربع قرن علي التجربة الموريتانية: يبلغ عمر الديمقراطية الموريتانية قرابة ربع قرن حيث بدأت النسخة الحالية من التجربة الديمقراطية الوطنية سنة 1991 وهي فترة طويلة نسبيا كافية لارساء التقاليد الديمقراطية وتصحيح أخطاء السير و تجاوز عثرات المسار.
فالديمقراطية الموريتانية من الناحية النظرية والشكلية طبيعية وزاهية أما من الناحية العملية فإنه يَشِينُهَا ما نُلاحظه أيامنا هذه من أَوْبَةِ قاموس “بروباغاندا” الحرب السياسية الساخنة المتميزة بعدم الثقة و العنف اللفظي والقطيعة بين الشركاء السياسيين الطبيعيين و غير ذلك مما ليس من علامات صحة العملية الديمقراطية.
ضف إلى ذلك “المسار العَقَبَاَتِي” le parcours d’obstacles الذي يتخبط فيه الحوار السياسي بين الموالاة والمعارضة والذي يتحدث اليوم بعض المراقبين عن “موته” و –إن كل الموريتانيين لفراقه لمحزونون- كما يتحدث أخرون أقل تشاؤما عن توقع خضوعه لتدخل “الأمل الجراحي الأخير” لإنقاذ حياته من طرف بعض “كبار الجراحين” من قطب المعاهدة الوطنية للتناوب الديمقراطي.
إن الحالة الديمقراطية الموريتانية المتميزة بعمق التجربة ووفرة المؤسسات وغني وتنوع الترسانة القانونية من جهة والاستقطاب السياسي الحاد الواصل حد التقاطع والتدابر بين الموالاة و المنتدي الوطني للديمقراطية والوحدة من جهة أخري يجعلنا نتساءل هل موريتانيا بلاد الديمقراطية بلا ديمقراطيين؟ بصياغة أخري هل هزلت النخب الديمقراطية الوطنية من كلا القطبين واستقالت حتي علا صوت طابور “الخائفين من الحوار” من قطبي الموالاة والمنتدي ونجحوا في وضع العصي في دواليبه والرجوع إلي قاموس الحرب السياسية الساخنة؟
إن بلادنا بلاد ديمقراطية تمرنت علي الممارسات الديمقراطية وتمتلك دستورا من أرقي وأنسب دساتير المنطقة ومؤسسات دستورية قابلة للاضطلاع بمهامها ومكمن النقص في تقديري هو في استقالة النخب الديمقراطية الفكرية والمدنية المستقلة والراشدة عن دور التوجيه والترشيد حتى كاد التجاذب السياسي ينحرف عن ضوابط المصلحة والمستقبل الوطني وما جانب الصواب بعيدا من جهر بصوته قائلا إن موريتانيا بلادٌ وبيئةٌ ديمقراطية بلا ديمقراطيين أو بديمقراطيين مهزومين ومستقيلين.
* سفير سابق/”الأخبار” الموريتانية