إن كان من حسنات لحادثة اعتقال، والتحقيق مع الصحفي الفرنسي “إيريك لوران”، وشريكته في التأليف و”الإجرام” “كاثرين غراسيي”، فهي أنها قد ألقت مزيدا من الضوء على منطقتين مضيئتين أصلا، رغم إصرار أفراد “قبيلة الإثارة الإعلامية” على إحاطتهما بالظلال الدائمة، ونعني بهما: عقم صحافة الإثارة، ومنعة المؤسسة الملكية المغربية تجاه الابتزاز.
ولو بدأنا بالأسهل والأكثر وضوحا، ونعني بها السقوط الأخلاقي المريع، ليس للوران وغراسيي فحسب، بل لكل من يشاطرهما إدمان صحافة الإثارة ورفع شعار “الكشف عن الأسرار” هنا وهناك، في جهد لم يقدم للمواطنين في أي بلد أي فائدة تذكر، سوى التلهي لبعض الوقت بقصص وشائعات، لا توجد غالبا وسيلة تثبت واحدة من صدقها، أو على الأقل يغرق فيها القليل الصادق في بحر المبالغات والأكاذيب. إن “لوران” الذي كتب في أسرار كل شيء في كوكبنا، من عاصفة الصحراء في العراق، إلى محادثات “السلام” الفلسطينية-الإسرائيلية، حرب كوسوفو، حروب بوش…الخ، قد وضع موضع الشك –وقد كان دوما كذلك-، مصداقية جميع المعلومات الواردة في كتبه، بعد محاولته لابتزاز الملك محمد السادس، ونزع “المصداقية” الموهومة كذلك عن جميع ما ورد في كتابه الأخير “الملك المفترس” من “حقائق مفترضة” تلقفها وروج لها مرتزقة البوليساريو وأولياء نعمتهم، بل وصادر بغبائه، ما كان يمكن لكتابه الذي اعتقل بسببه هو وزميلته في الإثارة والإجرام أن يجلبه من مداخيل، بنفس الطريقة السابقة. لكن يبدو أن من “دفع” له ثمن تأليف ونشر الكتاب الأول، لم يكن من الكرم لدرجة مناسبة، ففكر أن يقبض ثمن ما لم ينشر بعد أن لم يعد مغريا قبض ثمن ما ينشر.
إن “الارتزاق” في عالم الصحافة هو أمر قديم قدم الاستبداد ولوبيات المصالح، كما أن “خرافة” الصحافة المستقلة سقطت منذ زمن بعيد، وليس هناك من أوهام تجاه استمرار مدرسة الإثارة في الصحافة، طالما بقي هناك طلب على هذه السلعة من أشباه المتعلمين والمثقفين. أما ما يهمنا هنا، ونحن ندافع عن شرعية انتمائنا لهذا الجسم الصحفي المنكوب بالأمراض، أن حادثة اعتقال صحفيي فرنسا الكبيرين، تثبت أن لا حصانة لأي صحفي مجرم، وأن كل من استحب قذف الناس بالباطل دون حجة أو دليل عليه توقع تبعات فعله. كلمة أخيرة لمن يعنيهم الأمر: كفوا عن الإشادة بأخلاق ومهنية وشجاعة ومصداقية الصحفيين “ذوي العيون الزرقاء”، “اللي فرعتولنا راسنا بيها”، واسألوا لوران وغراسيي!!.
المنطقة الأخرى، تتعلق بالسلوك الحضاري للمؤسسة الملكية، والتي اختار سيدها أن يطرق أبواب القانون مثل أي مواطن شريف يتعرض للابتزاز، دون أن تغريه سلطته وسطوته وما يأتمر بأمره من قوة وأجهزة ونفوذ، بمعالجة القضية “بطرق أخرى” (كما يفعل ذلك من هم دونه سلطة في مناطق أخرى من العالم عموما، ومنطقتنا العربية على وجه الخصوص). لقد أضيفت حادثة الأمس إلى سوابق أخرى مشابهة قام فيها الملك محمد السادس باللجوء إلى القضاء، محليا ودوليا، لتكرس نهجا وتؤسس لسلوك يرسم حدود ردود الفعل تجاه أية مخالفة قانونية تتعرض لها المؤسسة الملكية أو من هم دونها من المسؤولين في المغرب، وهو لعمري فعل غاية في التحضر، يسجل للرجل بمداد الفخر.
ما غاب عن لوران وغراسيي، أن من لم ترهبه أكاذيب “الملك المفترس”، لن يخاف من أية أكاذيب أخرى، لسبب بسيط: ثقته بالمكانة التي يحظى بها لدى مختلف فئات شعبه، وإيمانه بمتانة روابط المحبة التي تجمع الملك والشعب. بكلام آخر، ليس لدى الملك محمد السادس ما يخافه أو يخجل منه، حتى يخشى أن يقوم لوران وشريكته في التأليف والإجرام بكشفه.
إن ملكا، يعلم الناس حجم ما يخصص له من أموال من ميزانية الدولة، ويمكن لأي صحفي مبتدئ أن يتابع ببساطة حجم ثروته الشخصية وأسهمه في الشركات المختلفة، وهو الأمر الذي لا يوجد له نظير بالمطلق في عالمنا العربي كله، لن يخضع للابتزاز. إن ملكا يمارس هوايته وسط المصطافين من أبناء شعبه في عرض شواطئ الحسيمة، لن يخضع للابتزاز. إن ملكا يتابع الناس في الشوارع جميع زياراته الخارجية، بل ويلتقطون معه “السيلفي”، لن يخضع للابتزاز. إن ملكا يجوب البلاد طولا وعرضا يتابع أمور الفقراء من رعيته ويصر على تجاوز البروتوكول ومصافحتهم والحديث معهم، بدل الاستقرار في رفاهية قصره في العاصمة، ومتابعة مشاريع مرؤوسيه “على الورق”، لن يخضع للابتزاز.
أخيرا، لعل حادثة صحفيي فرنسا، تجعل أفراد قبيلة صحافة الإثارة، في بلادنا على الأقل، أكثر حياء وتحفظا، وهي تسعى لإدخال الناس في أدق التفاصيل الشخصية التافهة لمشاهير السياسة والفنون والرياضة والأعمال، وتنشغل بدلا من ذلك بدورها التنويري الرقابي الأصلي الذي ابتعدت عنه كثيرا، بسبب السعي المحموم لمسؤولي وسائل الإعلام تلك، للتحول بدورهم إلى “نجوم” مثل الذين يكتبون عنهم، ولو “بابتزاز” أفراد لوبيات المصالح والنفوذ هنا وهناك، الذين يوجد لديهم الكثير مما يفضلون إخفاءه.