يشهد النظام الاقتصادي العالمي تطوراً لدور الأقاليم التجارية، في خضم الصراع القائم بين الصين والولايات المتحدة على قيادة العالم اقتصادياً، مع ازدياد الاتفاقات الإقليمية إلى 253 اتفاقاً. وفي إطار تنامي الصراع بين التكتلات الاقتصادية العالمية، برزت أهمية قرار مجلس الشيوخ الأميركي مطلع تموز(يوليو)، بمنح الرئيس باراك أوباما صلاحيات لتوقيع اتفاق «الشراكة عبر المحيط الهادي»، ما شكل نصراً له قبل نهاية ولايته الثانية، ويشمل الاتفاق 12 دولة هي: أستراليا وبروناي وكندا وتشيلي والولايات المتحدة واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا وبيرو وسنغافورة وفيتنام.
المزيد: الموارد المالية للدول المنتجة للبترول وإمكانية التكامل الاقتصادي في الوطن العربي
وعلى رغم أن السبب المعلن لاختيار الدول الأعضاء هو وقوعها على جانبي المحيط الهادي في آسيا وأميركا، إلا أن السبب الحقيقي هو قطع الطريق على الصين ومنعها من الاستحواذ على الجزء الأكبر من التجارة الحرة مع هذه الدول. والاتفاق هو الأكبر في التاريخ، إذ يشمل 770 مليون مستهلك، و40 في المئة من إجمالي الناتج العالمي، وتستحوذ التعاملات التجارية لبلدانه على أكثر من ثلث حجم التجارة العالمية. لكن يبدو أن نتائج المحادثات التي انتهت في مطلع آب (أغسطس) 2015 بعد أسبوع كامل من المناقشات في جزيرة ماوي في هاواي، جاءت مخيبة لآمال الرئيس الأميركي الذي كان يأمل في جعلها واحدة من أهم إنجازاته.
يهدف الاتفاق إلى خفض الحواجز الجمركية والتنظيمية وملاءمة مختلف التشريعات من أجل تسهيل التبادلات التجارية، وبسبب الخلافات التي سيطرت على المناقشات، اتفقت الدول المشاركة على استكمال المحادثات على صعيد ثنائي لتذليل العراقيل التي تعترض إبرام الاتفاق، وتأمل واشنطن بالتوصل سريعاً إلى توقيع الاتفاق ليتسنى للكونغرس المصادقة عليه قبل الانطلاقة الفعلية لحملة الانتخابات الرئاسية والتشريعية في الولايات المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016.
المزيد: هل تتجه التجارة العالمية إلى التخلي عن الدولار الأمريكي؟
في المقابل، تبرز أهمية تكتل دول «بريكس» الذي أنشئ في 2001، واستضافت روسيا في أوفا، عاصمة جمهورية بشكيريا الروسية، في 10 تموز، قمته السابعة التي وضعت استراتيجية جديدة للشراكة بين الدول الأعضاء. وتواجه الشراكة مزيداً من التحديات التي تحد من منافستها لدول الاقتصادات التقليدية المتعارف عليها، خصوصاً أن لدى اتحاد «بريكس» المكون من خمس دول فرصة ليكون أقوى تكتل اقتصادي في العالم، فالصين لديها قاعدة إنتاجية وصناعية كبرى ويسجل اقتصادها معدلات قياسية في النمو، والبرازيل غنية بالإنتاج الزراعي، وروسيا وجنوب أفريقيا تمتلكان موارد طبيعية ومعدنية هائلة، فضلاً عن الهند صاحبة الموارد الفكرية غير المكلفة.
ووفق بيانات البنك الدولي، بلغ حجم الناتج الاقتصادي للتكتل نحو 16.5 تريليون دولار. وبلغت احتياطاته من العملة المشتركة نحو أربعة تريليونات دولار، نصفها تحقق في السنوات الثلاث الأخيرة. إضافة إلى ذلك يعمل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، إلى جانب بنك التنمية الجديد الذي أسسته المجموعة عام 2014، كبديل واضح ومنافس للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين تهيمن عليهما الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة.
لكن أين الاقتصاد العربي في خضم الصراع القائم بين التكتلات العالمية؟
إثر نكبة 1948 باحتلال فلسطين وإنشاء إسرائيل، بدأ حلم الوحدة الاقتصادية يراود العرب من المحيط إلى الخليج، بهدف الدفاع عن حقوقهم وحفظ ثرواتهم وتحصينها، والتفاعل مع الاقتصاد العالمي ككتلة واحدة وكيان واحد، في وقت لم يكن فيه العالم يضم أي كتلة اقتصادية، بما فيها مجموعة السوق الأوروبية المشتركة التي أصبحت حالياً اتحاداً يضم 27 دولة مع اقتصاد متكامل وعملة موحدة، في حين أن «الحلم العربي» لا يزال حلماً ودونه صعوبات سياسية وأمنية على رغم أهمية أهدافه الاقتصادية والاجتماعية، لبناء الإنسان العربي.
حتى أن حلم «التكامل الاقتصادي» الذي كاد ينضج في خمسينات القرن الماضي عن طريق إبرام اتفاقات كثيرة في إطار جامعة الدول العربية، تلاشى وتبدد، على رغم كل المحاولات والقرارات التي اتخذت لتحقيقه، لكن هذه القرارات بقيت من دون تنفيذ لاصطدامها بالخلافات السياسية بين الحكومات، فضلاً عن الاضطرابات الأمنية.
وفيما تتوقع تقارير أن تشهد السنوات المقبلة مزيداً من التحولات في التجارة الدولية، يلاحظ ان العالم العربي يستمر بالسير عكس الاتجاه العالمي، ليبقى من أقل الأقاليم التجارية تكاملاً، في ظل استمرار تواضع القواعد الإنتاجية والتصديرية، وضعف كفاءة التجارة، علماً بأن الحجم النسبي للتجارة العربية يعتبر ضئيلاً جداً بالمقاييس العالمية، إذ يقل إجمالي ما تصدره الدول العربية من السلع والمنتجات غير النفطية، عن صادرات دولة أوروبية واحدة مثل فرنسا، فيما التجارة البينية لا تزال في حدود 10 في المئة من إجمالي التجارة الخارجية.
اتخذت قرارات في قمم عربية متعددة منها ثلاث قمم اقتصادية ضمت الرؤساء والملوك العرب (قمة الكويت 2009، قمة شرم الشيخ 2011، وقمة الرياض 2013) لكن يبدو ان تنفيذ هذه القرارات لا بزال يفتقر إلى آليات للتكامل، وإمكانيات فنية ومادية للتنفيذ، وخبرة عالية للقيادة والمبادرة، مقارنة بالأداء الحالي لمنظومة العمل الاقتصادي العربي المشترك وآلياتها التي تقتصر وظيفتها على التنسيق فقط.
وفي خضم التحديات غير المسبوقة التي يمر بها العالم العربي، يمكن الإشارة إلى إعلان شرم الشيخ الصادر عن الدورة 26 للقمة العربية التي عقدت في آذار (مارس)، فالإعلان أكد الأهمية القصوى للتكامل الاقتصادي العربي، واعتبره جزءاً لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي العربي، وبالتالي لا خيار أمام البلدان العربية، إذا شاءت اللحاق بركب التقدم سوى إعادة ترتيب البيت العربي، انطلاقاً من تفعيل منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى تمهيداً لإقامة الاتحاد الجمركي، ثم السوق العربية المشتركة في 2020.
* كاتب وإعلامي اقتصادي /”الحياة”