بقلم: ذ. بنعيسى احسينات
منذ إنشاء الجامعة العربية سنة 1945 والتساؤل يثار حول التكامل الاقتصادي العربي أو الوحدة العربية. غير أن الخطوات الاقتصادية التي قطعتها البلدان العربية المختلفة.
تتسع هوتها بدل التقارب والتلاحم والتكامل. ويبدو أن الاختلافات السياسية والاجتماعية كانت عوامل هامة في زيادة إرباك التعامل، إذ من الغريب أن يلمس الإنسان أن التعامل الاقتصادي بين البلدان العربية، والدول المعروفة بعدائها للعرب ووحدتهم لم يتناقض. ولعل أقرب مثال على ذلك هو الصراع ضد الصهيونية وحلفائها، وما ترتب عليه من قطع البترول عن بعض الدول ثم إعادته إلى طبيعته بعد رفع الأسعار، وإبقاء الجزء الأكبر من الاحتياطات النقدية المترتبة على ذلك في البلدان التي ما زالت هي مصدر الدعم بل تعزيز البقاء لإسرائيل.
ولكي ندرك الأهمية الحاسمة التي يرتضيها استخدام العرب لثوراتهم القومية في صراعهم ضد أخطار السيطرة الخارجية، وعلى رأسها خطر إسرائيل، نقدم أبلغ دليل يصعب في الواقع العثور عليه بسهولة، وخاصة على لسان إسرائيلي صهيوني.
كتب ” أبيابان ” في مقال بجريدة ” دفار ” في سنة 1968:
” فجيراننا يتفوقون علينا في كل شيء ما عدا الناحية العسكرية، إنهم يتفوقون علينا في عدد السكان وفي أراضيهم الشاسعة، وفي مدى تمثلهم، وفي غنى ثروات أراضيهم، وفي قدرتهم على التأثير في الميزان الاستراتيجي الدولي… فلماذا لا يستطع العرب تحويل مزاياهم الهائلة إلى قوى دافعة تقلعنا من موقعنا؟ لأنهم منقسمون فيما بينهم حول استخدام ثرواتهم من جهة، ولأنهم اتبعوا أساليب غير معقولة. لذلك فإن قدرتنا على الصمود ليست طبيعية، فهي تتطلب نشاطا سياسيا بهلوانيا واستغلال ثرواتنا العلمية والمادية “.
من خلال هذا النص، ومن خلال الواقع العربي، يظهر جليا مدى انقسام الدول العربية فيما بينهم، ومدى إتباعهم لأساليب غير معقولة التي لا تؤدي، بأي وجه، إلى التعامل الاقتصادي المتكامل قصد استغلال ثوراتهم الهائلة من أجل مواجهة العدو من جهة، والتخلف والتبعية من جهة ثانية، وقيام الوحدة العربية المنشودة ثالثا.
وقد يبرر البعض نقص التعامل بين البلدان العربية، بأنه التشابه في اقتصاديات تلك البلدان، وهو ما يعنيه البعض بالمنافسة. إن القول بتشابه الاقتصاديات العربية، وبالتالي الادعاء بتنافسها كسند لرفض فكرة الوحدة الاقتصادية قول مردود، لأن الدول العربية ما زالت في مراحلها الأولى للتصنيع، ومشروعاتها صغيرة نسبيا، إلى جانب انخفاض حجم الطلب كنتيجة طبيعية لانخفاض متوسط الدخل والإنفاق. ومع ذلك، فإن أمامنا أمثلة واضحة لفاعلية التكتلات الاقتصادية والتعاون. وعلى سبيل المثال دول السوق الأوروبية المشتركة. وحتى لا نذهب بعيدا نعطي نموذجا من الوطن العربي. نأخذ على الخصوص مثل الدول المنتجة للبترول، حيث أن الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة، أي حرب أكتوبر، سلطت أضواء كاشفة على مصادر القوة الهائلة التي يمتلكها العرب. وهذه المصادر دفعت بها للمرة الأولى في سياق موحد، أثبت فعالية جديرة بالاهتمام، أدهشت العالم بأسره بقدر ما أدهشت العرب أنفسهم، بحيث نجد أن البترول العربي يشكل بلا شك مركز الدائرة ومحور القوة الجديدة بلا منازع. ذلك أنه بفضل الثروات البترولية الهائلة وما تؤمنه في المستقبل القريب والبعيد، استطاع العرب، ولأول مرة، تحطيم القانون الحديدي الذي أخضع البلدان المتخلفة طويلا للغرب الرأسمالي، وجردها على الدوام من المقومات الأولية لاستقلال حقيقي اقتصاديا كان أم سياسيا.
ورغم استمرار عملية حضر البترول من طرف الدول المنتجة له، استطاعت، على الأقل، أن توحد سياسيها البترولية بشكل، مع الأسف، لم يستمر طويلا. وقد ضمنت بذلك أسعارا أفضل مما كانت تحصل عليه في مرحلة تفككها. وهذا المكسب الإيجابي الذي حققته الدول البترولية، أعاد بعض الاعتبار إلى المنطقة العربية، ورفع من ميزان قواها الذي أثر تأثيرا بليغا في العلاقات الخارجية، وخاصة مع الدول الغربية واليابان لفترة من الزمن على الأقل. لكن قبل وبعد الحرب الأخيرة على العراق، عرفت الدول البترولية ارتفاعا غير مسبوق في مكاسبها المادية نتيجة ارتفاع أسعار البترول، ورغم ذلك فهي لم تساهم في تنمية ومساعدة الدول العربية، بقدر ما تساهم في أداء فواتير الحرب على العراق، وفواتير حمايتها وحفظ أمنها للدولة الغازية، وشراء الأسلحة وتضخم الأرصدة المجمدة في الأبناك الأمريكية والدول الغربية، والوقوع تحت رحمة أمريكا الغازية باعتبارها تتحرك خارج الشرعية الدولية.
إذن، فالقول بالوحدة الاقتصادية العربية أو على الأقل، التنسيق الاقتصادي العام بين الدول العربية ليس بدعة، وهي تشغل بقعة متماسكة في مركز استراتيجي متوسط في العالم. ولقد خضعت لظروف مادية متشابهة في تاريخها الطويل، وتجمعها لغة واحدة ودين واحد، ولا أبالغ إذا قلت: تجمعها أهداف واحدة أيضا، تتلخص في الاستقلال الاقتصادي والسياسي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وحتى لا تغرينا متاهة التعميم، نحدد الظروف والإمكانات المادية للمرحلة القادمة للتكامل العربي أو التنسيق الاقتصادي، بهدف تحقيق قدر أكبر من التكامل الذي يمكن من طريقة تحقيق الأهداف العامة في الاستقلال والتنمية، ومواجهة الضغوط الاقتصادية والسياسية التي لا مفر للتعرض لها نتيجة الوضع العربي المادي بشكل عام.
وحتى تكون الصورة واضحة عند مناقشة موضوع الموارد العربية والتكامل الاقتصادي، علينا أن نعطي صورة للإطار العام الذي يعيش فيه المجتمع العربي والتيارات السائدة فيه، وتلك التي تحيط به، فتؤثر فيه أو تتأثر به، لأن عدم إدراك هذا الوضع يعني أننا نهيم في فراغ أو نسعى إلى مثاليات لا تعبر إلا عن أماني أو مصالح فئة أو مجموعة ما.I. المشكلة الاقتصادية العربية والحاجة إلى التنمية
ينعكس مظهر المشكلة الاقتصادية في العالم العربي بشكل عام، في انخفاض نصيب الفرد في الإنتاج، وانخفاض دخله بالتالي، بما يترتب عليه تدني مستوى المعيشة وارتفاع معدلات البطالة بشتى أنواعها، وضعف التغذية والارتفاع النسبي في معدل الوفيات، وانخفاض متوسط العمر، وما يعاني ذلك من إهدار لقدر كبير من الطاقة البشرية، التي كان يمكن أن تكون ذات فعالية أكبر لتطوير أسلوب الحياة، والتقدم في سلم الحضارة، لو أحسن استغلال الموارد العربية وتوزيعها.
يقدر نصيب الفرد العربي من الإنتاج القومي في المتوسط أقل بكثير من عشر نصيب زميله في الدول الصناعية المتقدمة. ومع ذلك هناك تفاوت ضخم في المتوسط بين كل دولة عربية وأخرى. بل وبين فئات كل مجتمع على حدة، فينخفض الدخل في المتوسط، على سبيل المثال، إلى أقل من 100 دولار في العام في اليمن، ويصل إلى أكثر من 4000 دولار في الكويت، وذلك قبل الارتفاع الكبير في الأسعار.
لا يرجع انخفاض الناتج القومي في البلدان العربية في المتوسط إلى فقر تلك البلدان، وإنما يرجع في الأساس إلى اختلال التوازن في توزيع الموارد وتشتتها، في شكل بقع يكاد يحيط بكل منها بسياج من صنع الأوضاع القائمة الموروثة أو تربطها خطة عامة. وحتى تكون الصورة أكثر وضوحا، يمكن أن نذكر بعض الحقائق:
– يقدر عدد سكان العالم العربي بأكثر من 180 مليون نسمة، يشكلون حوالي % 3,6 من مجموع سكان العالم، ويعيشون في مساحة تقدر بعشر مساحة المعمورة، وتترابط الدول العربية في وحدة متصلة من الأرض، في بقعة تتميز بمركزها الاستراتيجي المتوسط بين الشرق والغرب وبين العالمين، القديم والجديد، وتطل أجزاء كبيرة منها على المياه الدافئة، ولا تفصل بينها حواجز وعوائق جغرافية أو حضارية (وإن تباينت مستويات المعيشة)، بل يضمها تاريخ مشترك ولغة واحدة ودين واحد وهدف، لا نغالي إذا قلنا، واحد.
– وتتوفر في العالم العربي الإمكانات المادية، ولا تعوزه الطاقة البشرية، وهي التي يمكن، عن طريق تفاعلها، تحقيق التنمية وإحراز التقدم. وليس هناك من حرج في أن تعدد بعض هذه الإمكانات التي ندركها جميعا، وذلك للتذكرة والتأكيد، بأن ما يعوزنا هو السياسة الموحدة، وإرادة التنظيم التي يسودها تفهم عام للحاضر ومشاكل المستقبل، والثقة في أن نمو العالم العربي ككل، هو الضمان الوحيد، ليس لنهضته فحسب، وإنما لأمنه أيضا، لأن التباين الذي نلمسه بين الدول العربية والفردية في اتخاذ القرارات الاقتصادية، تؤدي إلى إضعافها بشكل عام، مهما كانت القرارات السياسية التي تتخذ. لأن القرار السياسي السليم هو الذي ينعكس عن إدراك اقتصادي مدروس.
– فإذا رجعنا إلى الخامات المعدنية، نجد مثلا أن خام الحديد والزنك والقصدير يتوفر في دول المغرب العربي ومصر، والفسفاط في المغرب الأقصى والصحراء المغربية والأردن ومصر، والمنجنيز والطلق في مصر، والكبريت في العراق، والبترول في السعودية ودول الخليج العربي والكويت والجزائر وليبيا. وتكثر الأسماك في شواطئ البلدان المطلة على المحيط الأطلسي وعلى الخليج العربي والمحيط الهندي. وتكثر الثروة الحيوانية في السودان والصومال. ومن المحصولات الزراعية، نجد القطن الطويل التيلة يزرع بكميات وافرة في مصر والسودان واليمن. كما تزرع محاصيل المناطق الحارة والمعتدلة في مختلف أجزاء الوطن العربي (الذي يمتد من خط الاستواء إلى خط عرض 537,5 شمالا) من أرز وقصب السكر، إلى الخضر والفواكه، إلى الحبوب والبذور الزيتية بمختلف أنواعها.
وبالرغم من أن بعض هذه الموارد يستغل استغلالا شبه الأمثل في بعض المناطق، كمصر نتيجة للضغط السكاني وتوفر الكفاءات الفنية فيها، فإننا نجد أن بعضها الآخر يستغل بطريقة استنفادية خطيرة، يخشى من أثرها في المدى الطويل، وذلك نتيجة لتحكم الشركات الاحتكارية فيها، كالبترول في السعودية ودول الخليج وأقطار أخرى بترولية. بينما نجد أن الموارد الأخرى لا تستغل إلا بالقدر الضئيل، ولا ينعكس أثرها على مستوى الحياة إلا بشكل باهت، كالثورة الحيوانية في السودان والصومال. وذلك نتيجة ضعف المواصلات.
ويمكن أن نلمس تفاوتا واضحا في التمركز السكاني، وضيق المساحة المزروعة في بعض المناطق، وقلة السكان وانتشارهم في مساحات شاسعة غير مستغلة في مناطق أخرى.
والمحصلة النهائية لهذا الوضع هو ما نلمسه من وجود تباين في علاقة الدول العربية، بعضها البعض، وفي علاقتها بالعالم الخارجي. فنجد مثلا أن صادرات الدول العربية فيما بينها ضعيفة جدا بالمقارنة مع الدول المتقدمة اقتصاديا.
ويبدو من دراسة الميزان التجاري للدول العربية مع الخارج، أنه حقق فائضا مهما، إلا أن الوضع الاقتصادي العام في الدول العربية لا يمكن القول بأنه تحسن بدرجة ملموسة، لأن الزيادة في ميزان دول الفائض كانت تتحول في الغالب إلى استثمارات لتنشيط الأوضاع اقتصاديا واجتماعيا في الدول المتقدمة. بينما كان على الدول التي تواجه عجزا، وهي في الغالب التي تعمل جاهدة لتحقيق قدر ما من التنمية، أن تغطي هذا العجز بتسهيلات ائتمانية وقروض من الدول ذات الفائض. ويثور الجدل حول انخفاض معدل التنمية في الدول العربية، والذي يتراوح بين أقل من 1 % و 6 % سنويا. وينسب ذلك في الأساس إلى قلة الاستثمارات في الوقت الذي تشير فيه إحصائيات صندوق النقد الدولي إلى أن الاحتياطات النقدية لعشر دول عربية فقط بلغت وتبلغ ملايين وحدة من حقوق السحب الخاصة، أي ملايين من الدولارات. كما تشير تلك الإحصاءات أيضا إلى أن قيمة مساهمة الدول العربية في صندوق النقد الدولي، بلغت ملايين وحدة من حقوق السحب الخاصة. بينما لم تتعد مسحوباتها من الصندوق في مجموعها مبلغ ضئيل جدا من الوحدات من حقوق السحب الخاصة.
فالمشكلة الاقتصادية للعالم العربي إذن لا يكمن في فقره في الموارد أو الإمكانات، بقدر ما هي في سوء توزيع هذه الموارد والإمكانيات من ناحية، وعدم وجود خطة عامة لحسن استغلالها من ناحية أخرى.II . تراكم الأرصدة النقدية العربية وإمكانية استغلالها بين الدول العربية
قبل أن نتناول مسألة التراكم النقدي العربي والمشاكل المترتبة عنه وبسببه، وإمكانيات استغلال هذا التراكم في مشاريع عربية مشتركة، علينا أن نعطي صورة للإطار العام الذي يعيش فيه المجتمع العربي والتيارات السائدة فيه وعلاقته بالقوى الإمبريالية الرأسمالية المتوحشة. لأن عدم إدراك هذا الوضع يعني أننا نهيم في فراغ أو نسعى إلى مثاليات لا جدوى منها.
إن دخول البلدان العربية في السوق العالمية كمنتج للمواد الأولية وممول لها، يجعلها تصبح خاضعة بشكل مباشر لسيطرة ولرقابة الاحتكارات وتحت رحمتها. فالرأسمالية الإمبريالية قامت منذ تجزئة العالم العربي، بربط أجزائه بآلاف الروابط والقنوات التي لا يمكن أن تنقطع لوحدها بفعل من تطور تلقائي، بحيث أصبحت تدور في فلكها، شأن دول العالم الثالث. وعلى حد تعبير سمير أمين: “إن اقتحام النظام الرأسمالي للمعمورة، خلق مركزا ومحيطا: رأسمالية المركز ورأسمالية المحيط. المحيط يكدح لصالح المركز ويستورد تناقضاته ومشاكله.”
إن المراد من تمزيق الوطن العربي من طرف الإمبريالية العالمية هو قصد نهب ثرواته من جهة، وإضعاف القوى المنتجة، وبالتالي استمرار التخلف والتبعية من جهة ثانية. إن اغتصاب فلسطين هدفه، ليس تجزئة الوطن العربي فحسب، بل تأبيد أوضاع التبعية الكولونيالية القائمة وما يترتب عن ذلك من استثمار للتجزئة، وهكذا..
وعلى حساب هذا، فالأمة العربية تواجه اليوم مخططا، تشترك فيه الامبريالية والصهيونية والرجعية، في سبيل القضاء على هوية المنطقة القومية، من أجل إقامة غزو استعماري استيطاني فيها، لنهب ثرواتها وحرمانها فرصة دخول مدنية القرن 20 و 21، لإبقاء الأمة العربية أسيرة الفقر والجهل والحياة البدائية، قصد جعل المواطن العربي مواطنا من الدرجة الثالثة والرابعة على أرضه وفي بلده.
فإذا أخدنا الأمة العربية كوجود طبيعي بعيدا عن تدخل السلطات وطبيعة الأنظمة القائمة، فهي غنية، بل متخمة بالغنى، سواء عنينا بذلك الثروات المادية الطبيعية أو البشرية أو المالية. فالبترول والأرصدة الضخمة المجمدة والتجارة الخارجية تعتبر كلها أسلحة بتارة، ولكنها عندما تصل إلى الأيدي المسئولة، إما أنها تتعطل أو أنها ترتد إلى نحورنا !!..
وواضح أننا حتى نستفيد من هذه الإمكانات الضخمة، ومن ثم وضعها في خدمة أهداف البناء الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، لابد من وجود حد أدنى للتعاون العربي. فهل أمكن ذلك حتى الآن؟
لقد دفع واقع العلاقات الاقتصادية العربية أحد الباحثين ( برهان الدجاني ) في تفضيل استعمال كلمة ( تعامل ) بدلا من كلمة ( تعاون ) ، لأن الكلمة، على حد تعبيره: ” تخدع أحيانا، ولأن المضمون الوسع لكلمة تعاون غير منطبق على واقع الحال فيما بين الدول العربية “. والحقيقة أن ذلك لا يقتصر على الجانب الاقتصادي، بل هو يتعداه إلى كافة الجوانب الأخرى.
وقد يعود فشل الأمة العربية إلى كون قراراتها لا تعرف الطريق إلى التطبيق. في هذا الصدد، ويقرر الباحث العربي ” برهان الدجاني ” المذكور أعلاه، حقيقة طالما لمسناها وعانينا منها ولا نزال، في فقرة التي أنقلها رغم طولها، يقول: ” تبدي الدول العربية إجماعا، على ضرورة وجود اتفاقات ومؤسسات ورموز وطقوس، تتضمن في ظاهرها معاني الوحدة والتعاون؛ كميثاق جامعة الدول العربية، وميثاق الدفاع المشترك، والتعاون الاقتصادي، واتفاقية الوحدة الاقتصادية… ولكن ما أن تنشأ هذه كلها حتى تفرغ من كل مضمون وتشل كل حركة. وما أن تتم عملية التفريغ والشلل حتى تحمل هذه الاتفاقات والمؤسسات مسئولية الفشل الناجم عنها، ويبدأ البحث عن بدائل لها جماعية أو ثنائية، ينتهي الأمر بها إلى حيث انتهت سابقاتها.. ولو درسنا خط التغير لوجدناه دائما ينطلق من نقطة الأمل العالي إلى نقطة الخيبة الكاملة. ”
تلك الجملة، ” من نقطة الأمل العالي إلى نقطة الخيبة الكاملة “، ما أصدقها، إنها تختزل مصائر كل الطموحات العربية الكبيرة حتى الآن ولكن لماذاالجواب في منتهى البساطة، لأن الوطن العربي ليس للعرب، بل هو للامبريالية العالمية في معظمه، وللطبقات والفئات الحاكمة والمتحكمة فيما يتبقى من ذلك. كيف يمكن أن توضع خيرات وإمكانات الوطن العربي تحت تصرف الملايين العربية الفقيرة المستغلة؟ هل بالمهادنات المعقودة بين الأنظمة، أم بالتماس الصدقات والرشاوى؟
كل هذا كان قبل هزيمة 65، ربما ما بعد ثورة 1948. فهل تغير شيء بعد ذلك وحتى الآن؟ ما أشبه اليوم بالبارحة! الحقيقة المؤسفة أننا ما زلنا حيث كنا، وربما تراجعنا كثيرا بمنطق التطور. ولقد صدق محمد أمين العالم في ” فلسفة الباب المسدود ” يقول: ” فالشتات الفكري والتخليط الفكري والانتقائية الفكرية والميوعة الفكرية والتسطيح الفكري هو بعض ما يتسم به فكرنا العربي المعاصر”. وهذا وما زالت الأجهزة والمؤسسات الرسمية حيث كانت، بل أنها تسجل كل يوم تراجعات هامة في هذا المجال، وما زال المفكرون المسموح لهم بالتعبير، يخشون التوجه العلمي الصحيح فيما يفكرون به أو يطرحونه من أفكار. وذلك لأن الرؤية السياسية يلفها الضباب الكثيف باستمرار، فتتلاشى الخطى وتضيع الأهداف ويختلط الصديق بالعدو ويستمر الأمر الواقع، بل يتفاقم إلى أبعد الحدود. ورغم أن الجميع يصرخ أن الولايات المتحدة هي العدو الأول، إلا أننا ما زلنا ننتظر منها الحل. وهكذا يتعبون أنفسهم لفهم الموقف الأمريكي، متجاهلين أن مواكبة السياسة الأمريكية للأماني الصهيونية هي مظهر للموقف الامبريالي العالمي وليس سببا له. وأن التطابق بين المصالح الامبريالية والصهيونية، ينفي أن تغير أمريكا موقفها. وأن الغرب ليس حكما في النزاع، بل هو طرف فيه. والقضية لن تحل مع الغرب ومن خلاله، بل ضده..
لقد أقام الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ضجة ولا يزال على عائدات العرب النفطية، وأن هذه العائدات تتضخم يوما عن يوم، وهذا يؤدي طبعا إلى تركيز ربع أو ثلث المال العالمي في منطقة واحدة، أي الشرق الأوسط. والأصح أن نقول: إن هذا المال سيرتكز في أيدي أمة واحدة، أي الأمة العربية.
وإذا تابعنا مناقشات الغرب والأمريكان حول الموضوع، وجدنا أكبر الرؤوس فيه تصرح بإلحاح غريب، منذ وقت بعيد، بأن العرب مهما فعلوا فلن يستطيعوا أن يستهلكوا المال الذي سيحصلون عليه من عائداتهم النفطية. كأن من المفروض بالنسبة لأمة غير غربية أو أمريكية أن تظل تدور في حلقة العوز والفاقة والقروض، دون أن يتوفر لديها من دخلها شيء من الاحتياط، تستعين به على تدبير أموالها، لا في لحظتها الراهنة فقط، بل وفي مستقبلها الآتي أيضا.
هذه المناقشة تنتهي إلى أن الغرب بما في ذلك أمريكا، يعطي لنفسه حق الوصاية على شؤون الكون والإنسانية والعالم والطبيعة والتاريخ. فهو إذ يستنكر الدخل الكبير الذي منحته الطبيعة بفضل الله تعالى لأمة من الأمم في موقع جغرافي معين، بل إنما يستنكر توزيع الطبيعة لثروتها، وهو إذ يحاول أن يحرم العرب من حقوقهم في استعمال أموالهم الناتجة عن الاستقلال، باستغلال ثرواتهم الطبيعية لصالحهم، فإنما ينتحل لنفسه صفة الألوهية التي تقضي على أمة من الأمم بالفقر، وعلى أخرى بالتشريد، وعلى ثالثة بالاستيطان في أراضي الغير، وعلى رابعة بالغزو والاحتلال بدعوى القضاء على أسلحة الدمار الشامل والديكتاتورية والإرهاب.
إن فكرة الغرب عن نفسه، بما في ذلك أمريكا، بأنه مسئول عن الحضارة والمصير الإنسانيين، وبالتالي فإنه له الحق في التدخل المباشر وغير المباشر كلما سارت الأمور في غير المسار الذي رسمها لها. إن هذه الفكرة لا تعود بنا فقط، إلى القرن الماضي، حين استعمر الغرب العالم بدعوى أنه وصي على الإنسانية إلى أن تتحضر، بل تعود بنا أيضا إلى عصر أقدم بكثير، حين وجد الغرب أن مهد المسيح يقع في الأراضي العربية (فلسطين)، فشن حربا طالت إلى مائة عام، والتي عرفت بالحروب الصليبية. إلا أن هذه الحروب كانت في القرون الوسطى، باسم مهد المسيح، وفي النصف الأول من القرن الحالي، باسم أرض الميعاد، وفي الربع الأخير من هذا القرن وبداية القرن الموالي، تشن الحرب على العرب باسم ” مهد البترول” هذه المرة، مما يوحي بأن الغرب بما في ذلك أمريكا، يستمر في خط واحد، هو خط العداء التاريخي للعرب والمسلمين.
إذن نحن حيال منطق استعماري كامل، ولكن مقسم إلى مرحلتين، هما: مرحلة التحكم بالاستعمار، ومرحلة استعمال العائدات وإقامة قواعد عسكرية لحماية وضمان مصادر الطاقة النفطية في العالم العربي فيما بعد. ولقد أحاطوا استعمال العائدات النفطية العربية بحجج عديدة، منها محلية ومنها عقائدية:
– فالمحلية منها هي تلك التي تقول أن جوهر المشكلة يكمن في ضعف الطاقة الاستيعابية للدول العربية المنتجة للبترول، أي أن هذه الدول، بسبب ضعف بنياتها الاقتصادية والصناعية والسكانية تعجز مهما فعلت عن أن تنفق كامل دخلها من البترول. وهذه الحجة الإقليمية تسقط إذا ما عوضت بمنطق قومي؛ فإذا كان كل من الكويت وليبيا مثلا لا يبلغ تعداد سكانها حوالي ثلاثة ملايين نسمة فرضا، فإن مصر لوحدها تبلغ حاليا حوالي سبعين مليونا، وأن اليمن مثلا أفقر بقاع العالم وأكثرها تخلفا، وأن سوريا تجابه انفجارا سكانيا ونفقات المجهود الدفاعي المفروض عليها يتجاوز تجاوزا كبيرا إمكاناتها البشرية والمالية.. فإن قال الغرب: إن مصر غير السعودية، وإن سوريا غير ليبيا، وإن اليمن غير اتحاد الإمارات.. أجبناه بأن هذه المناطق الجغرافية تتبع كلها أمة واحدة، وأن البترول ملكية قومية مثلما أن أرض فلسطين ملكية قومية، أي لا يحق لجهة واحدة أن تنفرد بها أو أن تقرر مصيرها.
– أما الحجة العقائدية فلا تقل عن الحجج الإقليمية المحلية تهافتا، وإن كانت تفوقها عدوانية. وقد وردت على لسان ” كيسنجر ” وزير الخارجية الأمريكية آن ذاك، القول التالي: ” إن الفشل في إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية قد يؤدي إلى انفجار في بناء السياسة الغربية، وبالتالي إلى وصول الشيوعيين في بعض الدول “. وفال أحد مساعدي كيسنجر: ” إن وزير الخارجية الأمريكية ليس قلقا بشأن الديموقراتيات السياسية في الغرب، بما فيها الولايات المتحدة، بل هو قلق في حال استمرت وتصاعدت الأزمة الاقتصادية على الديمقراطية في العالم الثالث… ”
نفهم من هذا الكلام ولو أنه قديم / جديد، على أنه ليس على العرب فقط أن يتخلوا عن حلمهم في إنشاء دولتهم القومية المتطورة المتقدمة، بل وأن يدعموا النظام الرأسمالي الغربي/ الأمريكي الذي استعبدهم وأباح أراضيهم للحركة الصهيونية، ولم يعلن أي تراجع عن مواقفه تلك أبدا، بل تمادى في دعمه وحمايته للكيان الصهيوني بشكل مكشوف للجميع.
وحينما رفع سعر البترول في سنة 73 وأخذت أرصدة الدول المنتجة له تتضخم فتوالت اجتماعات كبار المسئولين في الدول الغربية / الأمريكية لتحديد طريقة توزيع هذه الأموال المتزايدة قبل أن تجد طريقها إلى مجالات لا يرضاها القائمون على سياسة واقتصاديات تلك الدول. وتشير الصحف إلى عرض كيسنجر آن ذاك، يقضي بإنشاء مؤسسة في شكل بنك للتسويات يستقبل حوالي 25 مليار دولار سنويا من الأموال العربية في البنوك الأمريكية والأوروبية، ليعاد توزيعها بين الدول المتقدمة صناعيا، والتي تواجه عجزا في موازين مدفوعاتها، ويتم الإشراف عليه عن طريق حكومات تلك الدول. كما تشير أيضا إلى اقتراح آخر لوزير مالية أبريطانيا، يتلخص في تكوين رصيد سنوي قدره 30 مليار دولار من فوائض الأموال العربية، ليشرف على توزيع التسهيلات منه الصندوق النقد الدولي. وفي نفس الوقت نلاحظ أن الحملة لا تتوقف ضد الدول العربية المنتجة للبترول وتحملها مسئولية المشاكل المالية العالمية ومشاكل الغلاء، بل مشاكل كل المجتمعات التي تجتاح بعض أجزاء العالم النامي.
إزاء كل هذه الضجة المفتعلة المستمرة إلى يومنا هذا، وما تصبو إليه في سبيل امتصاص الأرصدة النقدية العربية المتراكمة، تكررت مطالبات الاقتصاديين العرب لسنوات طويلة بضرورة وجود خطة عامة للتنمية العربية، للقضاء على التعارض الاقتصادي الذي كان يخشى من نتائجه مع الوقت، ولضمان وجود قدر أكبر من الاستقرار الاقتصادي وارتفاع مستويات المعيشة. غير أن هذه المطالبات كانت تنتقد بأنها غير عملية أو أن الهدف منها هو امتصاص الفوائض المتراكمة لدى بعض البلدان العربية، والتي كانت تجد طريقها إلى البنوك الأجنبية في شكل حسابات جارية أو ودائع قصيرة الأمد. وهكذا فشلت محاولة الاقتصاديين.
إلا أن هذه الأرصدة النقدية العربية ذات الفائض الكبير ما زالت في بحثها عن مجالات الاستثمار في الغرب وأمريكا، والذي يرتكز على الخصوص على شراء الأراضي والمنتجعات السياحية والعقارات في الدول الغربية / الأمريكية، وإلى حيازة أسهم بعض الشركات وشراء فنادق ضخمة من الدرجة الممتازة، وصفقات المشبوهة كصفقة اليمامة السعودية للأسلحة مع أبريطانيا أخيرا وغيرها، التي تقدر بالملايير من الدولارات…
ليس هناك مجال سرد أخبار لمختلف الصفقات الغير المضمونة للأرصدة العربية، سواء منها القديمة والجديدة والحالية، وإنما ما يهمنا أن نشير إليه هنا، لا الاحتفاظ بالأموال العربية النفطية في شكل أرصدة نقدية مقبول في الدول الغربية / الأمريكية، ولا الدخول في صفقات لشراء عقارات أو أسهم بعض الشركات الذي يلقى الترحيب اللازم، بالرغم من تأكيد بعض المعلقين الماليين بأن وجود الأموال العربية في الدول الأوروبية ولأمريكية هو عنصر هام للاستقرار المالي، إلا أن تحولها إلى قوى شرائية، يمكن أن يصيب اقتصاد تلك البلدان بالدمار.
حقيقة أننا لا ننسى أن هناك مشروعات للاستثمار في الدول العربية والنامية، كما أن هناك بنوك وصناديق قد تكونت للتخفيف من أثر ارتفاع أسعار البترول ولضمان استمرار التضامن بين دول العالم الثالث، وإنه قد قدمت معونات وقروض فعلا من الدول العربية البترولية في هذا المجال، غير أن ما قدم حتى الآن لا يتناسب، سواء مع ما تتحمله تلك الدول من أعباء نتيجة ارتفاع أسعار البترول أو بالموازنة مع ما يجد طريقه إلى الاستثمار في الدول المتقدمة صناعيا، مهما دعا بعض المعلقين إلى القول: إن الدول البترولية تقوم بشكل لا إرادي بإعادة توزيع الموارد، لصالح الدول المتقدمة على حساب تلك النامية (المتخلفة).
من خلال ما تقدم، هل يمكن أن نقول: إن الأرصدة العربية في أوروبا وأميركا، والأموال المستثمرة في مشروعات في الدول الغربية وفي أمريكا أنه في مأمن؟ وهل تتمتع بضمانات لازمة؟ الحقيقة كما هي واضحة وجلية من خلال ما تتناوله الصحف الأجنبية ذاتها عن الصفقات الوهمية والتلاعبات واستثمارات المشبوهة وغيرها، توضح شيء واحد هو العمل على امتصاص المزيد من الأموال العربية وأرصدتها قصد الحفاظ على تمزيق الوطن العربي على الدوام، من أجل تأمين اقتصادها وهيمنته بشكل دائم ومستمر.
بقي للدول المنتجة للبترول ذات التراكم المالي في الدول الغربية أن تدرس موقفها من وجهة مصالح أجيالها في الحاضر والمستقبل، والعمل على ضمان الاستقرار لهم الذي لا يتم بشكل منعزل عن باقي الدول العربية التي تعتبر بمثابة الدرع لها ومصدر القوة الذي ترتكز عليه.
فكم سيكلف تطوير دولة عربية فقيرة كالصومال؟ وكيف يمكن تلافي العطش في السودان التي تملك أكبر مساحات الدول العربية من الأرض؟ وما ثمن المصانع المنتجة للتكنولوجيات الحديثة والأسلحة من طائرات وصواريخ مضادة للطائرات وللدروع وغيرها؟ وما هي تكاليف البحث العلمي وتكوين المهندسين والعمال الفنيين لمثل هذه المصانع؟ بل كيف نقضي على الأمية التي تنخر الأمة العربية الذي يزيد عدد الأميين على حوالي 80 مليونا من أبنائها؟ وما تكاليف تطوير موارد المياه في الجزيرة العربية أو في الصحراء الليبية؟ ولماذا لا تشرع الدول الزراعية مثل سوريا والسودان ومصر والمغرب بمكننة الزراعة وتصنيع المنتوجات الزراعية؟ أو ليس بإمكان هذه الدول أن تنتج من الحبوب واللحوم والخضر والفواكه والألبان ومشتقاته ما يسد حاجة دول الخليج المنتجة للبترول، بدلا من أن تظل تحت رحمة وسيف الغرب والأمريكان الذين يهددونهم باستمرار بحرب التجويع منذ عهد ” فورد ” أحد رؤساء أمريكا؟ وماذا يفهم المتحدثون الغربيون والأمريكان من تعبير ” الطاقة الاستيعابية للدول المنتجة للبترول” ؟ هل يفهمون هذه الطاقة على أنها مجرد شراء ثياب وأطعمة وأفلام ورحلات، وهواتف نقالة آخر صيحة ومواد التجميل والمخدرات وغيرها..؟ فإذا كان هذا هو مفهوم الطاقة الاستيعابية لديها، فهو فهم محقون، أما إذا كان مفهومها إنشاء شبكة مواصلات بالسكك الحديدية ومطارات في بلاد تمتد على 12 مليون كلم2 أو إنشاء أسطول تجاري عربي باعتبار أن البلاد العربية تمتد على طول الساحل الجنوبي للبحر الأبيض وعلى كل شواطئ البحر الأحمر، فإن الغرب وأمريكا بعيد عن المنطق السليم بعد السماء عن الأرض.
من خلال هذه التساؤلات يظهر جليا إمكانيات استعمال واستثمار تراكم الأرصدة النقدية لدى الدول العربية المنتجة للبترول في الدول العربية الأخرى، إلى جانب استغلالها واستثمارها في قلب الدول ذات الفائض المالي.
فالقدرة الاستيعابية متوفرة في الوطن العربي. فأمل الشعوب العربية هو إيجاد البناء التحتي الوحدوي، بالتركيز على التكامل الاقتصادي العربي، في إطار التضامن الحقيقي، وتشغيل الفوائض النقدية البترولية بصورة خاصة، في المشاريع العربية المشتركة. ويعبر هذا الاتجاه عن متطلبات المرحلة التاريخية التي تمر بها الأمة العربية. يقول تقرير الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة في البلدان العربية المنعقد في بيروت في 19 يناير 1975، رغم قدم هذا التقرير، لكن الوضعية العربية المأساوية تقتضي العودة إلى ما قيل، فما أشبه اليوم بالبارحة، يقول التقرير: ” .. إلا أن الضمانة الكبرى للمحافظة على الأموال العربية لا تكون إلا باستثمار القسم الأكبر منها داخل الوطن العربي. وهذا يتطلب بالدرجة الأولى تعزيز التعامل الاقتصادي الجماعي العربي، بدل التعامل الثنائي والتأكد على المشاريع العربية المشتركة.”
وإذا كانت هذه المشاريع هي الأساس المتين للتقدم الحثيث نحو الوحدة العربية التي تناضل من أجلها، فإنه لا بد من التأكد أنه لا يمكن أن نقنع أنفسنا بأنها هي وحدها قادرة أن تفعل فعلها في التاريخ العربي، تاركين للتطورات السياسية أن تقود إلى خطة معاكسة.
فالتضامن العربي السائد حاليا والذي يقوم على أساس القبول بالتسوية في إطار التبعية والتطبيع، سوف يقود في آخر الأمر إلى تثبيت التجزئة تثبيتا نهائيا. فحين تتحدث الصهيونية عن تقديم ضمانات لسلامة العدو وأمنه، فإنه ينبغي أن نتذكر أن العدو لا يصر على ضمانة من الضمانات، مثل إصراره على أن ينسي العرب إلى الأبد أنهم ينتمون إلى أمة واحدة، وإنهم يطمحون إلى إنشاء دولة واحدة. ولا نقول هذا من قبيل التهويل، وإنما نقرأه ونطالعه في كل ما يقوله العدو عن مستقبل أمتنا. يكتب ” نسيم رجوان ” أحد المنظرين الصهاينة في كتاب ” من الفكر الصهيوني “. يقول: ” إنشاء إسرائيل دولة دينامية على طراز غربي، في وسط العالم العربي، كان ضربة شديدة القسوة للكبرياء والاعتزاز العربي، فكان لا بد للقومية الضيقة والتطرف والتعصب من إحراز نصر محتوم، وما لبثت أصوات العقل والاعتدال أن صمتت بالتعسف والتحكم غالبا، وسادت روح الثأر ولم يعد يرضى العرب ما هو أقل من وحدة عربية شاملة وشرق أوسط عربي بكامله. واليوم بعد ربع قرن من الاضطرابات والصراع، هناك دلائل تشير إلى أن الفترة العنيفة من البعث العربي تقارب نهايتها “.
ينتهي كلام ” نسيم رجوان ” لكي نطرح على أنفسنا هذا السؤال: أصحيح أن الفترة العنيفة من البعث العربي أخذت تقارب النهاية؟ أصحيح أن الأمة العربية يمكن أن تتخلى عن أملها العظيم في إقامة المجتمع العربي الديمقراطي الموحد؟” فالعرب اليوم أكثر حاجة من الأمس والغد إلى تضافر الجهود، وتوحيد الصف وصفاء الطوية وتجنب الحزازات السياسية والحسابات الضيقة؛ كل هذا كفيل بتعبيد الطريق نحو تحرير الأمة العربية وبالتالي تحرير فلسطين. لكن ما يلاحظ وللأسف أن السلاح الاقتصادي الفعال، المعول عليه مع إسرائيل تتفنن الأنظمة العربية اليوم في استخدامه فيما بينها، في حين تسرح سلع أعدائها وتمرح في أسواقها دون أن ترتفع للشعوب قضية.