خلال هذا الأسبوع تناقلت وسائل الإعلام الجزائرية خبرا مضمونه هو أن الوزير، وعضو، ثم منسق المكتب السياسي بحزب جبهة التحرير الوطني سابقا عبدالرحمن بلعياط، قد تقدم بطعن إلى مجلس الدولة ضد نتائج المـؤتمر الذي أوصل عمار سعداني إلى منصب الأمين العام لهذا الحزب منذ عدة أشهر، وحجته في ذلك هو أن ذلك المؤتمر قد تخللته خروقات مكشوفة وغير قانونية، الأمر الذي يبرر سحب المصداقية منه.
المزيد: الجزائر: خصوم عمار سعداني ما يزالون يطعنون في شرعيته
ويبدو واضحا أن الهدف الأساسي الذي دفع بعبدالرحمن بلعياط، وجماعته المعروفة في الساحة السياسية الجزائرية بالحركة التقويمية، إلى تقديم هذا الطعن لمجلس الدولة سعيا لإلغاء نتائج المؤتمر المذكور بعد شهور طويلة من انعقاده هو تهيئة الأجواء لمرحلة ما بعد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، والبحث عن المواقع التي يمكن أن تؤهل أصحابها سواء للترشح لمنصب رئيس الدولة، أو من أجل لعب الأدوار الحاسمة في اختيار مرشح حزب جبهة التحرير الوطني للرئاسيات.
المزيد: نظام بوتفليقة يضحك على الأحزاب والشعب
الجدير بالملاحظة هنا هو أن هذا التطاحن، الذي تشتعل نيرانه حول الشرعية داخل دواليب الحزب الحاكم، يحدث بشكل درامي وفي ظروف معقدة تمر بها الجزائر دون أي ردَ فعل عملي من طرف الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي يعتبر الرئيس الفعلي له.
في هذا السياق يمكن طرح مجموعة من الأسئلة التالية قصد التفكير فيها: هل يعني تقديم الطعن من طرف بالعياط وجماعته في الحركة التقويمية، مناهضة الحزب بكامله وللرئيس بوتفليقة ضمنيا؟ أم أن هذا التحرك “التقويمي” هو مجرد استمرار للخلاف التقليدي الحاد بين من يعتبرون أنفسهم أبناء شرعيين للحزب، وبين جماعة عمار سعداني التي تتهم بأنها تدعي أنها تمارس النضال السياسي باسم جبهة التحـرير، وهي في الـواقع لا تمثل سوى مصالـح النظام الحاكم وأنها تبرَر فقط استمراره في سدة الحكم في الوقت الذي احترقت كل أوراقه، وخاصة بعد موجات التمرد والفوضى التي عرفتها، ولا تزال قائمة، في جنوب البلاد.
علما أن قيادات الحركة التقويمية كانت جزءا عضويا في التحالف الرئاسي، أي التحالف مع النظام الحاكم، كما أن معظم أعضائها البارزين قد شغلوا مناصب محافظين في المحافظات ومنهم من تقلد حقائب وزارية، وعين آخرون منهم برتبة سفراء، أو أعضاء في البرلمان وفي مجلس الأمة تحت مظلة التحالف الرئاسي أو باسم حزبهم التابع للنظام الحاكم مباشرة.
ثم هل لهذا الصراع على الشرعية مضمون وطني مؤسس على المبادئ والأفكار الكبرى، أم أنه ليس إلا مبارزة شكلية من أجل الانفراد بالمواقع الحساسة في المشهد العام الذي يسيطر عليه النظام الذي تتقاسم المنافع المادية والمعنوية في ظله مع الأطراف المتنفذة فيه، وهي الجيش والأمن ورئاسة الجمهورية؟
لا شك أن فهم هذا الصراع الشكلي، على ما يسمى بالشرعية في عقر دار حزب جبهة التحرير الوطني، غير ممكن دون فتح ملف ظهور هذا الحزب إلى الوجود في عهد الاحتلال الفرنسي للجزائر، لأن هذه الخلفية هي التي تفرز الآن الكثير من التداعيات، ومنها تحويل العمل الحزبي والأحزاب إلى مجرد ديكور فضفاض لا يحل ولا يربط أصحابه أي قضية محورية في الحياة الوطنية.
إن إبراز هذه الخلفية التاريخية أمر ضروري دون أدنى شك، لأن هذا الحزب منذ نشأته لم يقم على نهج أيديولوجي وفكري موحد ومحدد المعالم، مما أدى، ولا يزال يؤدي، به إلى الاستنجاد دائما بشرعية أيديولوجيا الكفاح وليس بشرعية عقيدة أيديولوجية فكرية مدنية معينة.
إن هذا الحزب هو، أولا وأخيرا، ابن “للحركة السياسية-العسكرية ” التي أذنت بزوال الأحزاب الأخرى، أي التي قضت على الفكر السياسي في إطار عقيدة أيديولوجية محددة في عهد حركة التحرر الوطني، وفي جزء كبير من فترة الاستقلال كما يؤرخ لذلك أحد أقطاب حركة التحرر الوطني الجزائري مصطفى الأشرف.
وبمعنى آخر فإن هذا الحزب كان في بداية تشكله مؤسسا على فكرة تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي بالمقاومة المسلحة، وجراء ذلك اتخذ شكلا عسكريا بالدرجة الأولى، واستبعد من مشاغله وبنياته العمل بالوحدة الأيديولوجية الواضحة والصارمة سواء كانت يسارية، أو إسلامية، أو ليبرالية أو غيرها من المرجعيات، الأمر الذي جعل مؤرخا جزائريا له مصداقية وهو الراحل الدكتور أبو القاسم سعدالله إلى وصف تشكيلة حزب جبهة التحرير الوطني، ماضيا وحاضرا، بالفسيفساء الأيديولوجية التي تعايشت تحت مظلتها اتجاهات وتيارات أيديولوجية مختلفة ومتناقضة بطرق شتَى، منها الانتهازية العقائدية.
إن هذه الفسيفساء التي ورثت الذهنية العسكرية هي السائدة طبعا طوال مرحلة الاستقلال إلى يومنا هذا وهي التي حرَمت، أو اشتركت مع الجيش الوطني والأجهزة الأمنية في تحريم، التعددية الحزبية منذ عام 1962 إلى غاية عام 1990، وهي التعددية التي ظهرت إلى المسرح السياسي جراء الانتفاضات التي توجت بالاقتتال والعشرية الدموية.
وبخصوص هذه الذهنية العسكرية فقد كتب مصطفى الأشرف، وهو أحد الزعماء الخمسة الذين اختطفتهم فرنسا بعد الاستقلال بسنوات (وهم أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف ومحمد خيضر) “إن جبهة التحرير الوطني، بعد أن تشكلت كمنظمة سياسية عسكرية للكفاح المسلح وللحرب الثورية الجذرية، لم تهتم بتحديد بنياتها لتعمل كحزب له قيادة، وله نشاط معيَن، وله نظام مستقل يتقيَد به المناضلون، وله مذهب عقائدي للتوجيه، وله سلطة قومية عليا قائمة باستمرار فوق الجميع. ولذلك اضطرت جبهة التحرير الوطني، بعد الاستقلال، أن تفسح المجال لجيش التحرير لكي يحتل مكان الصدارة”، وهذا يعني، بكل وضوح، أن حزب جبهة التحرير الوطني في الوقت الحاضر لها جناحان قويان وهما اللذان يقرران كل شيء فيه.
أحدهما مدني مرتبط كل الارتباط بالمؤسسة العسكرية والأمنية وشغله الشاغل هو تنفيذ ما يملى من فوق، وثانيهما يتمثل في الشخصيات العسكرية التي كانت تحتل مراكز قيادية في جيش التحرير الوطني سابقا.
بناء على هذه الخلفية ندرك أن الصراع القائم حاليا بين الحركة التقويمية، بزعامة عبدالرحمن بلعياط، وبين الأمين العام الحالي عمار سعداني وجماعته، ليس صراعا عقائديا، أو بسبب تباين وجهات النظر حول الخيارات الوطنية في مجالات التنمية المختلفة، بل إن التمزقات داخل جبهة التحرير الوطني هي نتيجة للتدافع من أجل التقرب أكثر إلى أركان النظام الحاكم من جهة، ومن أجل الحصول على المغانم المتمثلة في المناصب العليا في المشهد السياسي، والنفوذ الاقتصادي والإداري وغيره من المصالح والمنافع.
*كاتب جزائري/”العرب”