بقلم: أزراج عمر*
في هذه الأيام كثر الحديث في الجزائر بين أوساط رؤساء وقيادات أحزاب المعارضة المعتمدة وتلك التي هي في طريق الاعتماد عن سيناريوهات يخطط لها للسطو على السلطة في مرحلة ما بعد عبدالعزيز بوتفليقة من طرف عناصر تدعمها الأجهزة العسكرية والأمنية.
الأمينة العامة لحزب العمال لويزة حنون، التي يشبه حالها في هذه الأيام حال المستشار العربي الذي لا يسأل عنه إذا غاب ولا يستشار إذا حضر، قد صرحت منذ ثلاثة أيام فقط لوسائل الإعلام الوطنية، ومنها جريدة الشروق التي نشرت بعض ما جاء في تصريحاتها التي أعلنت فيها عن مخاوفها، بأن شيئا ما خطر يطبخ في الخفاء وأكدت أن “ما يحدث هو عملية للسطو على السلطة ومفاصل الدولة من طرف رجال المال والأعمال”.
في السياق نفسه أوضحت لويزة حنون أن “التحاق أغلبية أعضاء حكومة عبدالمالك سلال باللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، الذي هو واجهة السلطة الحاكمة، يدخل في إطار لعبة سياسية مخطط لها يقصد بها خلط الأوراق وتحويل الحكومة التنفيذية إلى ذراع فولاذية للنظام الحاكم”.
وفضلا عما تقدم فإن حنون انتقدت بقوة “قيام رئيس منظمة أرباب العمل بعقد جلسات ولقاءات مع سفراء وقناصل أجانب في سطو غير مسبوق على النشاط الدبلوماسي”، وهي تعني، مباشرة، المقاول الجزائري علي حداد صاحب فضائيتين تلفزيونيتين وعدة صحف يومية بالعربية والفرنسية أيضا.
لأول مرة تواجه فيها هذه السياسية الرئيس بوتفليقة بقولها “إن الإصلاحات العميقة التي نادى بها رئيس الجمهورية بشأن تعديل الدستور تبيَن بأنها مجرد كذبة بعد مرور 14 شهرا من عمر العهدة الرئاسية الرابعة”.
والحال فإن حرب المواقع في المسرح السياسي الجزائري، الغريب والفريد من نوعه، يتم برعاية وتحريك من طرف عدة أجنحة أسياسية فاعلة في المؤسسة الأمنية والعسكرية التي تدير البلاد منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، وأخرى ثانوية مساعدة وتتمثل في أحزاب “نعم للسلطة”، وفي كبار الأثرياء ورجال الأعمال المرتبطين بأجهزة السلطة مباشرة وإن كانت تتستر على ذلك.
من المعروف أن الخطوط الحمر في البلاد الجزائرية تتمثل في هذا المثلث؛ رئيس الدولة، والصحراء، والإرهاب، علما أن رئيس الدولة عبدالعزيز بوتفليقة هو عسكري أصلا وقد جاء به العسكر، أما الصحراء والإرهاب فهما مسألتان خاصتان بالأمن والعسكر أيضا، وهذا يعني أن الحكومة التنفيذية والأحزاب المشكلة لفسيفساء المشهد السياسي الشكلي في الجزائر، هي جميعا مجرد “خُضَر فوق الكسكسي” كما يقول المثل الشعبي في شمال أفريقيا.
بناء على هذا الوضع يمكن لنا القول إنه إذا كان “كوجيتو” الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، الذي أدخل الحداثة العلمية والفكرية إلى مفاصل مجتمعات أوروبا من الباب الواسع، مؤسسا على جملة واحدة وهي “أنا أفكر إذن فأنا موجود” التي تفيد في العرف الفلسفي النسقي أسبقية الفكر على الوجود، فإن الواقع السياسي الجزائري الذي زجَ بالتخلف المادي والتعبدي في جميع مفاصل الدولة، قد منح الأسبقية لثقافة البندقية والهراوة على أي نمط من أنماط الفكر المتمدن، وأنه محكوم منذ الاستقلال إلى يومنا هذا بالذهنية العسكرية التي تمنع بأساليب متنوعة الشخصيات المدنية المحضة – التي لا صلة لها بمؤسسة وذهنية أيديولوجيا الكفاح وفقا لاصطلاح المفكر الجزائري محمد أركون أو لا تنتمي جذورها أو فروعها مباشرة إلى العسكر والأمن – من الوصول إلى منصب الرئيس، وإلى رأس هرم القيادة الحقيقية حتى داخل مؤسسات مثل الوزارة والولاية والدائرة، والسفارة والقنصلية، وقطاعات إنتاج الحديد والصلب، ومحطات بيع البترول والغاز وغيرها على مستوى القطاع العام.
فالمشهد العام للبنية الذهنية السائدة والتي طورت على مراحل طوال سنوات الاستقلال تتميز بمعاداة الثقافة والفكر وبالحذر من التفكير وأصحابه، وبتأبيد الحضور الكلي والقدرة الكلية لأجهزة القوة الغليظة في دواليب صنع القرار في دوائر نظام الحكم.
إن هذه الظاهرة ليست حديثة العهد بل هي قديمة ومتأصلة في الثقافة السياسية السائدة في البلاد الجزائرية، بدءا من الصراعات الدموية التي شهدتها حركة التحرر الوطني ومرورا بثقافة العنف والإقصاء والاغتيال التي مارسها بعد الاستقلال مباشرة عقداء أمثال الهواري بومدين والشاذلي بن جديد، والذهنية الاستئصالية التي نفذها العقيد اليامين زروال، ووصولا إلى احتكار من طرف الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة الضابط السابق، في جيش التحرير الوطني برتبة كومندان، وعشيرته ومواليها الجدد.
وبالنتيجة فإن الذي يحدث الآن هو أن النظام الحاكم في الجزائر قد تمكن فعلا من إلغاء أي مشروع لبناء طور تمدين المجتمع، وبالمقابل فقد وضع أسسا صلبة لبنيات دولة الضباط وحواريهم بدلا من بناء بنيات ضباط وطن الشعب.
تكشف معظم السير الذاتية التي كتبها عدد من الضباط الجزائريين الكبار عن حياتهم ومواقعهم في حركة التحرر الوطني، منها سيرة الكولونيل الشاذلي بن جديد الذاتية، أن جميع الشخصيات السياسية المدنية الكبيرة، بما في ذلك بعض العقداء اليساريين المثقفين وذوي الانتماء الشعبي ضمن صفوف جيش التحرير الوطني أيام الكفاح المسلح ضد الاحتلال الفرنسي أو في مرحلة الاستقلال، قد زحزحت جميعا بعد الاستقلال مباشرة سواء عن طريق الاغتيال أو عن طريق إيداعها في السجن، أو بواسطة إبعادها من الساحة السياسية بوسائل العنف المزدوج الرمزي والمادي.
فالرئيس الشاذلي بن جديد قد قالها جهرا في مذكراته التي صدرت منذ أكثر من سنتين بأنه والعقيد بومدين هما اللذان أعدما العقيد محمد شعباني لأسباب كثيرة، منها موقفه المناوئ للضباط الذين حملوا السلاح يوما ضمن صفوف الجيش الفرنسي وأصبحوا في ليلة وضحاها مجاهدين وقادة ثورة، وكذا تمتعه بعوامل الكاريزما الشخصية والحصافة السياسية وبعد النظر الفكري المؤهلة له أن يكون رئيسا للدولة الجزائرية في مرحلة الاستقلال الوطني.
وفقا لاعترافات الرئيس الراحل العقيد الشاذلي بن جديد، في مذكراته المتداولة، فإنه وجماعته في القيادة العليا للجيش قد قرروا فـور انتهاء الحرب مع فرنسا الاستيلاء على الحكم واحتكاره بعد الاستقلال وعدم تركه للشخصيات المدنية.
في ظل مناخ هذا الإرث الثقيل نرى المعارضين يربطون حصان المقاومة خلف العربة بحبل من مسد، ويتحول مطلب الديمقراطية إلى مجرد وجهة نظر، أما السياسيون الذين يلبسون أقنعة الولاء فقد صاروا ينتجون خطابين اثنين فقط؛ أحدهما يتفنَن في مدح الرئيس وثانيهما يلح في طلب عفوه.
*كاتب جزائري/”العرب”