لم يبالغ سعيد سعدي حينما تحدّث عن هوس النظام الذي قام في الجزائر إثر الاستقلال بكل ما هو فرنسي، ومحاولته تقليد فرنسا في نمطها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، واستنساخه خلال بناء الدولة الحديثة، لتكون الجزائر شبيهة بفرنسا في كل شيء، إلى درجة أن سعدي لم يتردد في وصفها بأنها “دولة فرنسية اسمها الجزائر”!
المزيد: السعيد سعدي: النظام الحالي في الجزائر ” بلغ نهايته”
لكن ما لم يقله سعدي هو فشل هذا الاستنساخ في الجوانب الإيجابية، واقتصاره على الشكليات وكذا الجانب الثقافي اللغوي؛ إذ لم تقلد الجزائر المستقلة فرنسا في ديمقراطيتها، ولا في اقتصادها القائم على العمل والإنتاج، ولا في تمسّكها بلغتها الوطنية والرسمية، بل احتكر نظامُها السياسي الحكم منذ 53 سنة كاملة ومنع تداوله، وكرّس اقتصادا قائما على الريع النفطي وحده وعجز عن بناء اقتصاد حديث ومنتِج برغم المداخيل الهائلة الآتية من المحروقات ولاسيما في الـ15 سنة الأخيرة..
أما على الصعيد اللغوي فهنا تكمن الطامة الكبرى؛ إذ هيمنت “دفعة لاكوست” التي كوّنها دوغول قبل الاستقلال، على مفاصل الدولة منذ 1962، وفرضت توجهاتها الفرنكفونية على الجزائريين رغما عنهم، ومارست فرْنَسة واسعة لمختلف القطاعات وشتى مناحي الحياة، وأقصت الإطارات التي درست بالعربية وهمّشتها، وجعلت الفرنسية هي اللغة الرسمية للجزائر عملياً، وإن كان الدستور ينصّ على أن العربية هي اللغة الرسمية للبلد.
وإذا كان البلد قد حقّق خطواتٍ على درب التعريب وبخاصة في المدرسة والقضاء وحتى الإدارة المحلية.. إلا أن “دفعة لاكوست”، أبت إلا أن تتصدّى لهذا المسار الطبيعي، ووجهت ضرباتٍ قاصمة لقانون تعميم استعمال اللغة العربية منذ إقرار نواب الشعب له في ديسمبر 1991، حتى تمكنت من تجميده بشكل غير معلن منذ عام 1999؛ إذ كثف المسؤولون بعدها من مخاطبة الجزائريين بالفرنسية على نطاق واسع، ودون أي شعور بالحرج، بل أصبح ذلك موضع تفاخر بينهم وطريقة للتزلّف للسلطات العليا، ولأن الناس على دين ملوكهم، فقد أثر ذلك سلباً في ألسنة الجزائريين، وتلوّثت بالرطانة الفرنسية أكثر من أي وقت مضى، حتى بات الزائر العربي للجزائر العاصمة يخال نفسه في باريس.
واليوم، وقد “تفرنست” المؤسسات والمحيط العام، مرت الأقلية الفرنكفونية إلى قلعة أخرى من قلاع العربية وهي المدرسة، فبعد أن استعصى عليها إعادتها إلى ما كانت عليه في العهد الاستعماري، وفشلت “إصلاحات” بن زاغو، تفتقت عبقرية الأقلية الفرنكفونية واهتدت إلى إمكانية ضرب الفصحى بتدريس العاميات الهجينة الملوّثة بالفرنسية مدة عامين في الابتدائي، بهدف تعويد الطفل على الفرنسية أكثر من العربية لتهيئته لدراستها في الثالثة ابتدائي، وفرضِ ذلك على الجزائريين رغما عنهم ابتداء من سبتمبر القادم.
اليوم بات جليا للمتأمل في المحيط العام، ولواقع مختلف المؤسسات والهيئات والإدارات العمومية، ولألسنة المسؤولين في مختلف المواقع، أن اللغة الفرنسية قد تسيّدت في غير ديارها وحققت مكاسبَ هائلة في عهد “دفعة لاكوست” خلال نصف قرن فقط، لم تحققها فرنسا الاستعمارية نفسها طيلة قرن وثلث قرن، ولذلك يحقّ لسعيد سعدي أن يتحدث عن “دولة فرنسية اسمها الجزائر” حتى ولو لم يكن يقصد المسألة اللغوية لأنه أحدُ عرّابي “غنيمة الحرب” في الجزائر.
*صحفي جزائري/”الشروق”