« Je suis Français » (أنا فرنسي)، عبارة دأب الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة على ترديدها عند استقباله للرؤساء الفرنسيين وكبار المسؤولين في بلاد الأنوار.
عبارة، بالرغم من المد والجزر الذي يطبع علاقات بوتفليقة والجزائر مع فرنسا، إلا أنها تلخص شعور الرئيس الجزائري ووزير الخارجية السابق في عهد الهواري بومدين تجاه المستعمر السابق.
شعور بالإحساس بالانتماء إلى فرنسا بالرغم من تاريخها الأسود في الجزائر، ودور بوتفليقة في حركة التحرر من فرنسا، التي وصلت النزعة الاستعمارية داخلها إلى حد اعتبار الجزائر مقاطعة فرنسية والنظر إلى مسألة استقلال هذا البلد المغاربي على أنه من سابع المستحيلات.
بيد أن بوتفليقة، وكغيره من رموز النخب السياسية والعسكرية والثقافية في الجزائر والمغرب الكبير، يحمل في داخله شعورا متناقضا تجاه هذا البلد الكولونيالي، شعور تمتزج فيه الرغبة بانتزاع الاعتراف من المستعمر القديم بمعاملة البلد المستعمر على أساس الند للند، والقبول طواعية أحيانا أخرى بدور مؤثر “للأم فرنسا” في قرارات كبرى تحدد مصير البلاد والعباد.
دخول من الباب الديبلوماسي
مجلة “جون أفريك” الفرنكفونية المرموقة خصصت غلاف عددها الأخير للعلاقة التي تجمع بين بوتفليقة وفرنسا، قصة بدأت فصولها مع تعيين الدبلوماسي الجزائري ذو 26 سنة على رأس وزارة الشؤون الخارجية، منصب مكن بوتفليقة من حجز مكان مميز له في قصر الإليزيه، حيث طبع ذاكرة الرئيس الفرنسي السابق شارل دوغول وقتها، الذي طالما عبر عن إعجابه بالدبلوماسي الشاب.
طبيعة العلاقة المميزة التي جمعت بوتفليقة وفرنسا لم ترق لزملائه الجزائريين، والذين اعتبروه عميلا للمستعمر الفرنسي، خاصة وأنه عارض سياسة التأميم التي اعتمدتها الجزائر في تسيير قطاع النفط، الشيء الذي يتعارض ومصالح البلاد، ويطرح تساؤلات حول عمق العلاقة التي جمعت بوتفليقة بالرئيس الفرنسي حينها جيسكار ديستان.
إلا أنه وبعد وفاة بومدين، شهدت العلاقة الثنائية بين البلدين فصلا جديدا، غيب فيه بوتفليقة داخل مكتب مستشار الرئاسة، ما قلص صلاحياته، وسفرياته نحو قصر الإليزيه، الأمر الذي لم يستسغه بوتفليقة، ليقرر المغادرة في اتجاه بلده الثاني فرنسا، متوقعا أن تستقبله هذه الأخيرة بالأحضان.
مع وصول بوتفليقة لمدينة الأنوار، حيث استقر بأحد أفخر الأحياء الباريسية، خابت الآمال التي وضعها الدبلوماسي الجزائري الأكثر شهرة في أعين الصحافة الفرنسية، فبعد مضي ما يقارب الست سنوات على اغترابه، لم يجد وزير الخارجية السابق ما يكفي من الاهتمام من قبل المسؤولين الفرنسيين، وهو ما دفع بوتفليقة إلى العودة إلى بلده، حيث سعى لتحقيق حلمه في الظفر بكرسي الرئاسة.
سوء تفاهم !
حلم بوتفليقة يتحقق أخيرا، لكن لم تكتمل فرحة الرئيس الجديد بعد الانتقادات التي وجهتها حكومة ليونيل جوسبان الاشتراكية للظروف الملتبسة التي وصل على إثرها لدواليب الحكم، خاصة بعد تنحي كل منافسيه، واحتكاره لنتائج صناديق الاقتراع.
اتهامات لم يستلطفها الرئيس الجزائري الجديد، حيث توجه للصحافة الفرنسية قائلا “أريد أن أطلب من القصر الرئاسي غض النظر عن ما يقع في الجزائر وإيلاء المزيد من الاهتمام بالشؤون الفرنسية” مضيفا أن “الوصاية والحماية والسيادة التي تفرضها فرنسا على الجزائر غير مقبولة”.
كانت عبارات بوتفليقة كافية لتنبئ بدخول علاقته بفرنسا فصلا جديدا يطبعه فتور لم يدم سوى بضعة أشهر، ليحظى الرئيس الجزائري بالتفاتة من نظيره الفرنسي جاك شيراك، الذي استقبله بقصر الإليزيه ببساط أحمر وتنظيم حفل عشاء على شرفه عرف حضور كبار رجال الاعمال الفرنسيين، مراسيم شكلت سابقة من نوعها بالنسبة لكيفية استقبال الرؤساء الجزائريين في قصر الرئاسة الفرنسي.
مصالح دائمة .. انسجام مؤقت
زيارة بوتفليقة لفرنسا، والتي كانت الأولى بعد توليه منصب الرئاسة بالجزائر، أعادت العلاقات الثنائية بين البلدين للواجهة، خاصة بعد زيارة شيراك للمدينة الأقرب لقلب بوتفليقة، تلمسان، والتي تختزل ذكريات للرئيس الفرنسي حين كان ملازما بالجيش الفرنسي، إضافة لعودة الخطوط الجوية الفرنسية بعد ثماني سنوات ونصف من الغياب عن المطارات الجزائرية بعد حادث اختطاف طائرة “إيرباص” فرنسية من قبل أعضاء من “الجماعة الإسلامية المسلحة”.
لكن انسجام البلدين لم يدم طويلا، فمع مشارفة ولاية شيراك على الانتهاء، تبنى مجلس النواب الفرنسي قانونا يمجد الدور الإيجابي للاستعمار، قرار رأت فيه الجزائر إهانة لها، وهي التي لا تزال تعاني من مخلفات الفترة الاستعمارية.
من جانبه سارع بوتفليقة إلى رفض هذا القرار موجها أصابع الاتهام لفرنسا بارتكاب إبادة جماعية في حق الشعب الجزائري.
صدمة ساركوزي
في ظل هذه الاتهامات الجزائرية، وللتخفيف من حدة الوضع، أمر شيراك بإلغاء القانون، الشيء الذي لم يغير من نظرة بوتفليقة تجاه فرنسا، ليولي اهتمامه صوب وزير الداخلية الفرنسي حينها، نيكولاس ساركوزي، الذي خلف لديه انطباعا جيدا خلال زيارته للجزائر، ما دفع بوتفليقة للقول “الجزائر وفرنسا محكومتين بوجود علاقة مستقبلية”.
هذا التعليق المتفائل بخصوص مستقبل العلاقات بين البلدين سرعان ما ذهب في مهب الريح، ففي سنة 2008، وبعد إلقاء السلطات الفرنسية القبض على مدير البروتوكول بوزارة الشؤون الخارجية الجزائرية، بتهمة التحريض على قتل المعارض الفرنسي الجزائري علي مسيلي في 1987، دخلت العلاقات بين فرنسا والجزائر في دوامة الفتور مرة أخرى، والتي تعمقت بعد التهميش الذي طال الجزائر من طرف ساركوزي، حيث عمد هذا الأخير إلى تجاهل الجزائر سواء للتشاور معها أو دعوة رئيسها لحضور تظاهرات مهمة نظمت فوق التراب الفرنسي مثل اجتماع دول مجموعة العشرينG20 ، حيث لم يكلف ساركوزي نفسه عناء توجيه الدعوة إلى بوتفليقة.
بالنسبة لبوتفليقة، كان من المستحيل التغاضي عن مثل هذه المعاملة، فبعد تعيين هنري بارون سفيرا لفرنسا بالجزائر، أمر الرئيس الجزائري بعدم السماح لهذا الأخير بدخول التراب الجزائري إلى غاية انتخاب رئيس جديد لفرنسا.
علاقة .. تخضع للعلاج
فرانسوا هولاند، وبخلاف ساركوزي، استفاد من تجارب الرؤساء السابقين، ليعمل على إصلاح الضرر الذي تسبب فيه كل من شيراك وساركوزي في العلاقات الجزائرية الفرنسية، حيث طبع خطابه الشهير سنة 2012 ذاكرة الجزائريين، خاصة بتقديمه لاعتذار رسمي بالنيابة عن فرنسا للشعب الجزائري الذي عانى من تبعات الاستعمار، اعتذار كان كافيا ليضع بوتفليقة ثقته وآماله على هولاند من أجل بدأ صفحة جديدة في العلاقات الثنائية.
وبالرغم من تذبذب العلاقات بين البلدين، كانت فرنسا وجهة الرئيس الجزائري بعد إصابته بنوبة دماغية عابرة في 2013 حيث وضع مصيره الصحي بين أيدي أطباء فرنسيين. علاج بوتفليقة بفرنسا لم يمر دون خلق الجدل في الجزائر حيث لم يقتصر الحديث عن كم سيكلف علاج بوتفليقة في الخارج ميزانية الدولة، بل امتد إلى التساؤل حول مدى تأثير المستعمر السابق في القرار السياسي بالجزائر.
ولعل مشهد بوتفليقة وهو يجتمع برئيس الأركان قايد صالح والوزير الأول عبد المالك سلال بمستشفى فال دو غراس، بينما كان البورتريه الرسمي للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند معلقا فوق رؤوسهم يلخص لدى بعض المراقبين طبيعة العلاقة المتشابكة التي تجمع بين فرنسا وبوتفليقة وكبار المسؤولين في الجزائر.