هل الأحداث الجسام التي يشهدها عالمنا المعاصر، من ثورات وانقلابات وتحولات جذرية فجائية قالبةً المشهد السائد سكوناً رأساً على عقب، لها «أصابع محركات» غير مرئية تقف وراء تحريكها بين آونة وأخرى، مراكز قوى نافذة في بنيان الدول والمؤسسات والعلاقات الدولية؟.. أم أن محركها هو محض تفاعلات عوامل موضوعية وذاتية يحتم تراكمها الكمي حدوث تلك الانتقالة النوعية الناتجة عن عملية انشطار ذرة تلكم التراكمات متجسدة فيما يمكن أن نطلق عليه بعملية «الإحلال الطبيعي» للجديد محل القديم؟
يكاد يكون هذا السؤال القضية/السلعة الوحيدة التي يشترك في الإقبال عليها و«شرائها» كل شرائح المجتمع من دون استثناء، أي أن سوقها رائجة ولا تعترف بالحدود التقليدية التي تقيمها عادةً «المنفعة الحدية» للسلعة والتي تكون سبباً في تقسيم سوق السلعة الى شرائح اجتماعية يتفاوت إقبالها عليها. فترى الاختصاصيون والعوام على حد سواء يلوكون موضوعاتها ويفتون بشأن سيناريوهاتها ومآلاتها. ولعل هذا ما يفقدها حظها في النهوض كنظرية رصينة تتمتع العناصر التي تنتظمها بالترابط المطلوب لأي نظرية علمية يزكيها قانون البناء النظري العام.
لا جدال في أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية الجارية من دون توقف في أعماق مختلف أشكال العلاقات المجتمعية، تفرض نفسها، بحكم الواقع، على البنى الفوقية المعنية بالإدارة الكلية للمجتمعات، وتجبرها على مجاراة تطورها وإن بوتيرة أبطأ كثيراً من وتيرة جريانها. وحين تتأخر وتتلكأ عن فعل ذلك فإن تضاداً حاداً سرعان ما ينشب بينهما لا يحل وثاقه سوى شكل من أشكال التنفيس والإراحة يضطر البناء الفوقي للإقدام عليه. ولكن مثل هذا التداعي الكلاسيكي لتطور العلاقة بين الأبنية الفوقية والأبنية التحتية، له خصائصه وله مقدماته الظرفية وله علاماته الفارقة، التي تختلف بالضرورة عن عمليات «الفقس» الفجائية التي تحدث دون مقدمات فتقلب البناء الفوقي رأساً على عقب.
إذاً عمليات «الفقس» الفجائية التي تحدث من دون مقدمات هي بالضبط ما نحن بصدده ها هنا، من أن بعض الأحداث النوعية الانقلابية التي يشهدها عدد لا حصر له من مناطق العالم، لا يشبه حدوثها الهطول الطبيعي للأمطار، بقدر ما يشبه عملية تصنيع هطول الأمطار. إنما – ويا للمفارقة – بقدر ما تستهوي وتستطعم أوساط عديدة لا حصر لها من النخب والعامة، تسبيب وإرجاع أحداث محلية وعالمية بعينها، إلى أعمال دسائسية مؤامراتية محبوكة، بقدر ما تكره وتستنكر أوساط أخرى موازية ما تعتبره التفسير التآمري للتاريخ.
وهذه الكراهية المكبوتة وهذا الاستنكار المُعبَّر عنه بأشكال مخاتلة من جانب القوى المتوارية، النافذة والمؤثرة، ذات السطوة العسكرية والاقتصادية والسياسية في عالم اليوم، هما بالضبط محفزاها لالتقاط اللحظة التاريخية والاستفادة من هذا «التكالب» الفوضوي والعشوائي على «قضية/سلعة» تأويل وتفسير الأحداث العالمية. فلا غرو والحال هذه، أن يكون المشتغلون والمهتمون بالشأن العالمي، شهوداً على ضراوة الحملات الإعلامية «الناعمة» المصاغة بمفردات تهكمية وزجرية مختلفة تروم طمس ما تسميه نظرية المؤامرة والهزء بها وبكل حديث يمكن أن تشي تأويلاته برائحتها، وجعلها وجعل المتحدثين بها محلاً للتندر والسخرية. وقد تصاعدت هذه الحملة المكرسة لتسخيف التحليلات المتجاوزة للسطحي من الأحداث والحط من قدرها، بالتوازي مع موجة «الثورات البرتقالية» التي «فقست» فجأة في العالم العربي والتي بادرت الميديا الغربية لإعطائها مسمى «الربيع العربي»، بقصد الإيحاء الفصيح بأن عوامل قيام هذه «الثورات» التي كانت تندلع في بقعة عربية وراء أخرى بالتتابع وبحسب مواعيد زمنية مضروبة ومحددة سلفا، هي محض داخلية صرفة لا علاقة للخارج بها لا من قريب ولا من بعيد.
تريد هذه القوى أن تقول إننا نعيش في حياة دولية ملؤها البراءة واحترام الدول لسيادات بعضها بعضا وعدم تدخل بعضها في شؤون بعضها الآخر، وهو ما لا يتفق مع وجود مئات المنظمات التي تعمل عبر العالم ليل نهار من أجل عقلنة وترشيد أنشطة عالم «البيزنس» المركب تركيباً معقداً، وتعقب تجاوزاته وانتهاكاته للقوانين السارية، من تهرب ضريبي إلى تهريب وغسل الأموال، وتهريب والإتجار بالبشر، وجرائم الفساد السياسي والمالي والإداري، واختلاق الأزمات بناءً على طلب مجموعات الضغط (اللوبيات) بهدف زيادة مخصصات وتعاقدات الدفاع، ومن أجل فرض تسويق منتجات عنوةً والحصول الحصري على صفقات وامتيازات بعينها، وصولاً إلى خلق فزاعات بشأن ظهور وباء ما لتبرير رفع النفقات ومخصصات الأبحاث في الجامعات والمعاهد، وحل مشكلة المخزون من أمصال دوائية فائضة وتسويق جيل جديد منها.
بمعنى، أنه سوف يتم اللجوء إلى هذه «التدابير الخاصة» كلما كان ذلك «ضرورياً» ليس فقط لاستمرار تأمين حصص الأسواق والامتيازات وإنما لتعظيمها أيضا. فهناك خزانات أفكار (Think Tanks)، وهناك مراكز ومعاهد أبحاث ودراسات، وهناك أجهزة أمنية ومعلوماتية تعمل على مدار الساعة في أجواء من السرية والكتمان، وهناك منظمات غير حكومية تعمل تحت الضوء، وبموجب تراخيص رسمية، في مجالات اختصاصية محددة وبعناوين «ناعمة» غير سياسية بقصد عدم إثارة الريبة والشك حول الوجه الآخر لأنشطتها.. إلى آخره من الواجهات التي قد تأخذ أشكالاً مختلفة بريئة في مظاهر أجندتها المعلنة وليست بريئة في أجندتها الخفية.
وما بين دأب القوى العاملة في حقل «التخطيط والتدبير» لصناعة الأحداث، دأبها الذي لا ينقطع على طمس معالم الطابع التآمري لأنشطتها، وخلع نعوت «الوهم والتخيلات والخزعبلات البائسة» على «مزاعم» نظريات المؤامرة.. وما بين دأب بعض القوى الأقل تنظيماً والأفقر نفوذاً، لإثبات العكس، سوف يستمر الجدل العالمي بشأن هذه القضية العالمية الشائكة التي تقف وراء صناعة الكثير من الأحداث العالمية، الكبرى والصغرى منها.
* كاتب عربي/”الخليج”