يبدو أن العالم العربي بحاجة إلى تكرار النموذج الليبي٬ الذي عرفناه في القاعدة البحرية التي تحمل اسم «أبو ستة» كأسلوب لحل الصراعات التي انغمس
فيها طوال السنوات الخمس الماضية.
لقد فوجئت٬ وأظن أن غيري من المراقبين قد فوجئ أيًضا٬ بالمبادرة الشجاعة للسيد فايز السراج٬ رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية٬ يوم اقتحم العاصمة
طرابلس من دون جيش ولا مواكب٬ ليعلن انطلاًقا فعلًيا للحكومة الجديدة بعد أسابيع من التشكيك والتنازع والمعارك اللفظية.
طيلة السنوات التي تلت سقوط نظام القذافي أواخر 2011 تحولت ليبيا إلى ساحة صراع بين قوى محلية وإقليمية٬ وظهرت فيها دعوات للفيدرالية. وتشكلت
خلال هذه الأزمة أربع حكومات على الأقل٬ لم يسيطر أي منها على أكثر من مدينة واحدة. أما بقية المدن والأرياف فكانت خاضعة لميليشيات محلية٬ لبس
بعضها رداء آيديولوجيا٬ وانشغل آخرون بجمع المال من خلال تهريب البشر والبترول وكل شيء. وفي ظل هذه الفوضى العارمة ظهر تنظيم «القاعدة»
واستولى شقيقه «داعش» على سواحل ذات أهمية جيواستراتيجية٬ اكتشف العالم خطورتها٬ بعدما وصلت مئات من قوارب المهاجرين إلى شواطئ إيطاليا
الجنوبية.
بذل مارتن كوبلر مبعوث الأمم المتحدة المكلف معالجة الأزمة الليبية٬ جهوًدا متواصلة على مدى العام الماضي. ونجح فعلًيا في إقناع المتنازعين بقواعد
أساسية لإنهاء الحرب الأهلية٬ وحصل منهم على تعهدات صريحة بدعم الحل السياسي. كما نجح في استقطاب دعم أوروبي وأممي لمشروع الانتقال السلمي.
لكن يبدو أن كل طرف كان ينتظر حلاً لصالحه في المقام الأول. وهذا يعني بالضرورة العودة إلى مربع الحرب.
إقرأ أيضا: هاموند يعلن من طرابلس دعمه لحكومة السراج
كانت سيطرة الميليشيات المعارضة للحل السياسي على طرابلس وموانئ تصدير البترول٬ أبرز نقاط الضعف في مشروع الحل السياسي. فمن دون العاصمة
ومن دون مصادر المال٬ لن يتحمس أحد لدعم حكومة الوفاق الوطني. سعى بعض الأطراف لإقناع القوى الخارجية الداعمة لتلك الميليشيات٬ بتسهيل الحل.
وحاول آخرون إقناع حلف الناتو بتوجيه ضربات جوية ضد مواقعها لإجبارها على التراجع.
أما السراج فقد اختار طريًقا آخر. في الثلاثين من مارس (آذار) الماضي٬ ركب مع مجموعة من مساعديه قارًبا حملهم من الشواطئ التونسية إلى «قاعدة أبو
ستة» البحرية في طرابلس. فور وصوله٬ أعلن أن حكومة الوفاق موجودة فعلًيا في العاصمة٬ وأنها باشرت أعمالها. بعد هذا الإعلان بساعات قليلة٬ تجاوبت
عشرات البلديات والقوى الاجتماعية بتأكيد ولائها للحكومة الجديدة٬ كما بدأ عدد من قادة الميليشيات المحلية وجنود الجيش السابقين في التواصل معها٬ فيما
يعني الاعتراف بها كحكومة شرعية لكل ليبيا.
هذا النوع من المبادرات يوحي بالطرق التي يسلكها الشباب والمغامرون٬ الذين لا يعبأون كثيًرا بحسابات الربح والخسارة والمخاطر والاحتمالات السيئة. إنه
بعبارة أخرى حل من خارج الصندوق.
بعد ثلاثة أسابيع من تلك المبادرة٬ يشعر الليبيون أنهم قد وصلوا إلى نهاية النفق. الحكومة السابقة المتمردة بدأت تتفكك٬ والقوات المسلحة النظامية بدأت
تتشكل٬ ووزراء أوروبيون بدأوا في التوافد على ليبيا٬ تأكيًدا على الدعم الدولي لحكومة الوفاق.
النموذج الليبي الذي تجلى في «قاعدة أبو ستة» يوحي بأن أزمات العرب ومشكلاتهم باتت مستعصية على الحلول التقليدية. لعل حلولاً من خارج الصندوق٬
شبيهة لما جرى في ليبيا٬ هي التي يحتاجها العرب اليوم.
كاتب ومفكر سعودي/”الشرق الأوسط”