بقلم: رمضان مصباح الإدريسي
على الرغم من تصريح الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، أخيرا، أن الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، لايزال بقوة ذهنية قادرة على تدبير الأزمات؛ فان الجدل السياسي الحاد، الدائر حاليا في الجزائر، يؤكد أن كل الألوان الداكنة حاضرة للشروع في رسم تضاريس السلطة في الجزائر، لما بعد بوتفليقة، وان شئتم لما بعد جمهورية هواري بومدين، المؤسسة خارج الشرعية التاريخية.
ولعل رسالة رئيس الأركان، الجنرال قايد صالح إلى “أخيه” عمار السعداني، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، بمناسبة إعادة تثبيته على رأس الحزب الحاكم، من المؤتمر العاشر للجبهة، تكشف حتى عن المدرسة الفنية التي ستوكل لها هذه المهمة. وهل في الجزائر فن سياسي تشكيلي خارج الثكنات؟
كانت رسالة الرئيس بوتفليقة إلى المؤتمر، وهو، دستورياً، القائد الأعلى للجيش، ويتولى أيضا حقيبة الدفاع، سباقة إلى دعم السعداني، المثير للجدل، والمطعون في شرعية أمانته العامة، وإعادة انتخابه، من قيادات عديدة في حزب جبهة التحرير (مقاطعة أكثر من مائة عضو في اللجنة الإدارية للمؤتمر)، وقد وصل بها الأمر إلى حد اللجوء إلى القضاء لإلغاء المؤتمر، لولا أن المحكمة الإدارية رفضت الدعوى.
ويتعزّز هذا الإسناد، وهو بكل هذه النياشين العسكرية السامية، بموسم هجرة مثير، صوب حزب جبهة التحرير، في خضم الإعداد للمؤتمر، من وزراء ورجال أعمال، في إحياء ضمني للفصل 120 من القانون الأساسي للجبهة، ما قبل التعددية السياسية المعتمدة منذ 1989، والذي كان ينص على أن الانتماء إليه شرطاً لتولي مناصب المسؤولية في البلاد. على الرغم من ردود السعداني على توالي انتقادات المعارضة لقائد الأركان، الذي أشهر انخراط الجيش في تدبير الصراع السياسي، في خرق للدستور، وفي تراجع عن مبدأ حياد المؤسسة العسكرية، ولو ظاهريا فقط، الذي يعود إلى تدشين التعددية السياسية، فان عبارات مثل “ترسيم الحزب قوة سياسية أولى في الجزائر”، واعتباره “العنصر الفاعل في الساحة السياسية”، وإفراده بالبقاء “أكثر من أي قوة أخرى، حاملاً ذكريات تاريخنا المجيد ..”. عبارات تتجاوز مجرد رسالة ود من مؤسسة عمومية إلى حزب حاكم، إلى إعلان عسكري، أكثر مما هو سياسي، اختيرت له عبارات بأعالي وأسافل، بمنطوق ومفهوم، وحتى ببياضات، صمتُها أبلغ من إفصاحها. وقبل هذا حُدد له الظرف المناسب، حتى يشتغل الخطاب في أكثر من اتجاه.
ومما له دلالات لا يفهمها إلا الراسخون في الغموض السياسي الجزائري أن يصيح المعارضون للمؤتمر بعبارات، مثل “سعداني ارحل” و”دياراس ديارا س رانا معاك”. في إحالة على هجوم سابق لسعداني على مدير جهاز المخابرات (DRS)، الجنرال توفيق مدين، الذي لم يكن، حسب ما راج وقتها، على أحسن حال مع رئيس الدولة، في رئاسيات 17أبريل 2014، حسب اتهامات سعداني، سعى الجنرال لمنع الرئيس من الترشح للولاية الرابعة.
لم يخاطب الرئيس الجزائري مواطنيه منذ مايو 2012؛ ولم يعقد سوى أربعة مجالس وزارية، أما الأنشطة الخارجية فهي منعدمة تماما. وعليه، فملء الفراغ بإشهار الإمساك العسكري القوي حتى بزمام الهامش الضئيل المتروك للتدافع السياسي يكتسي طابعا دولتيا حيويا.
لا مبالغة إذا اعتبرنا رسالة أحمد قائد صالح بمثابة إشهار عقاري، يرسّم ملكية المؤسسة العسكرية في الجزائر للملعب السياسي كله، بأبطاله المتنافسين وأرانبه، وجمهوره. في هذا الملعب العسكري، لا شيء متروكا لعضلات المتنافسين ومهاراتهم، الحسم في النتائج يتم قبل اللعب.
تسليط الأضواء الكاشفة على سعيد الطالع السعداني، ما لم يحصل حتى مع القيادات الكاريزمية لحزب جبهة التحرير؛ في عز دولة العسكر؛ يخفي رجلا مهما، في هرم السياسة والدولة، لا يبلَعُه النظام، وان مَضَغَه مرارا. إنه كتلة الطموح الرئاسي المسماة، أحمد أويحيى الذي استعاد، أخيراً، بتزامن مع رسالة الجيش، رئاسة حزب التجمع الوطني الديمقراطي الموالي لبوتفليقة؛ محتفظاً، في الوقت نفسه، بإشرافه على الديوان الرئاسي.
لعل هذا الترتيب العالي في هرم الدولة استشعر قوة التنسيقية المعارضة للرئيس. ومن هنا، مبادرة الرجل بمجرد استعادته رئاسة الحزب إلى دعوة أحزاب الموالاة إلى رص الصف من جديد، وهي الدعوة التي اصطدمت، أو أريد لها، بعدم استعداد السعداني للتخلي لأويحيى عن دور القاطرة. مجرد تدافع بين ركاب على متن القطار نفسه. ومما له دلالات أن يوكل، حاليا، إلى أحمد أويحيى إدارة الأزمة بين أحزاب المعارضة ومؤسسة الجيش.
وليس من المصادفات أن يدافع، في الوقت نفسه، عن الجنرال قائد صالح والجنرال توفيق؛ معتبرا أن أيادي تعبث بأمن الدولة، تسعى لإظهار الجهازين، المخابراتي والعسكري، وكأنهما يديران اصطفافين متعارضين. وقد وصل به الأمر إلى الطعن في وطنية من يهاجم جيشا يكابد حر الشمس على حدود البلاد؛ ومن يهاجم جهازا مخابراتيا عرف كيف يحمي الجزائر في العشرية السوداء.
هل نفهم من هذا أن أحمد أويحيى هو “البابا الجديد” الذي سيلج قصر المرادية، في أي لحظة. لا تتسرعوا، ففي الجزائر العسكرية، وراء كل رجل رجل.
في معرض مرافعات أحمد أويحيى، مدافعا بغلظة عن الرئاسة والجيش والمخابرات، نفى نفيا قاطعا أن تكون لعبد العزيز بوتفليقة ميولات ملكية، حتى يفكر في توريث الرئاسة لشقيقه سعيد. هل يعكس هذا الكلام دهاء رجل يُضَمن دفاعه هجوما على موكله؛ في اصطفاف إلى جانب المعارضة التي تشحذ كل النصال لليلة السكاكين الطويلة التي قد تحبل بهكذا توريث؟
*العربي الجديد”