وقائع من قبيل استمرار ممانعة النظام السوري، وغياب التوافق بين من يملأون اليوم الفراغ السياسي في ليبيا، إضافة إلى ما جرى ويجري في اليمن قبل إطلاق “عاصفة الحزم” وبعده، تجعلني أقترب من فرضية عودة الأوضاع السياسية في البلدان العربية إلى سياقات وشروط ما قبل انفجارات 2011 وما تلاها من أحداث. وإذا كنت قد وطّنت النفس، قبل ذلك، على الآمال التي كانت ترسلها باستماتة وعنفوان مظاهرات الميادين في القاهرة وتونس وشعاراتها، وعزَّزت، لاحقاً آمالي بشكل مضطرد، كلما لاحت تباشير الانفجارات في حواضر عربية أخرى، حيث عمّت رياح الثورة، لتشمل اليمن وليبيا، ثم البحرين والأردن والجزائر والمغرب، وتحول المتظاهرون، في الساحات والميادين العربية مشرقاً ومغرباً، إلى قوة قادرة على ترتيب الملامح العامة لمجتمعات عربية قادمة، مجتمعات تصنع لنفسها أفقاً تاريخياً يختلف عن المصير الذي لَفَّتْهُ الأنظمة السابقة حول رقابها. إلاَّ أنه بدأت تنتابني، في الأسابيع الأخيرة، هواجس تشعرني بأن مجتمعاتنا بدأت تلج، في الآونة الأخيرة، دورة زمنية جديدة، أتصوَّر أنها تستوعب منجزات ما حصل قبلها، وتنفتح قسراً على معالم دروب ومآلات أخرى.
دفعني التعقُل التاريخي لما جرى إلى محاولة استيعاب بعض المتغيرات الحاصلة ضمن أفق الأطوار الانتقالية في التاريخ، كما وجَّهني إلى فهم بعضها الآخر في إطار منطق الثورات المضادة التي تتوخَّى تعبيد الطريق للَّذين يرومون العودة إلى أجواء ما قبل الحدث الثوري. وقد استوعبت، أيضاً، صور تعزيز آليات الممانعة في بعض الساحات العربية التي تقاطع فيها حدث الانفجار مع جملة من التحولات الإقليمية والدولية التي اتجهت على هامش الحدث الثوري وبمحاذاته، لتصفية حسابات أخرى، الأمر الذي انعكس سلباً على المسار الطلائعي للحدث وتداعياته، وأدخل البلدان التي حصل فيها إلى منعطفاتٍ يصعب ضبط مخارجها من دون كلفة باهظة.
قرأت في تبلور واتساع الأحداث الثورية التي تواصلت بإيقاعات مختلفة، هنا وهناك، علامات دالة على بداية العد العكسي للطور الانتقالي في الحاضر العربي. وعاينت هذه العلامات مكبراً في كل من تونس ومصر. ثم واصلت العناية بكيفيات تطور الحدث الثوري في المسارات التي اتخذها في كل من البحرين واليمن. كما تابعت تفاعلات ما جرى ويجري في المغرب والأردن، ولم أتمكن من استيعاب ما يحصل في ليبيا وسورية، على الرغم من أن صورة الوقائع التي رسمت المعالم الكبرى للحدث الثوري، في البداية، كانت تشير إلى معطيات محدَّدة وواضحة، إلا أن استمرار الممانعة جعلني أنتبه إلى أن الموضوع يتجه إلى اتخاذ مواصفات أخرى، تختلف، بشكل أو بآخر، عن التوقعات المفترضة في وقائع وأحداث مماثلة.
لم أهتم، طوال الأربع سنوات الماضية من عمر الانفجارات، بمسألة التآمر، والداخل والخارج والقوى الإقليمية والدولية وإسرائيل. ولم يكن عدم اهتمامي بما ذكرت نابعاً من عدم تقديري المسألة المشار إليها، في علاقتها بالمواقف الإقليمية والدولية التي كانت تجري أمام الجميع، بل كنت أعتبر أنها تحصيل حاصل في حدث مماثل. وقد انتصرت لما حصل في لحظات غليانه، لحظات إطاحة أنظمة ومواصلة العمل لإطاحة أخرى، وخصوصاً التي أدخلت مجتمعاتها في دوامة القهر والقتل والتهجير، محوِّلةً المدن والحواضر العربية إلى ساحات للخراب والهدم المتواصلين.
لم تعد الخيارات والمواقف التي وضَّحنا فيما سبق مقنعة في ضوء ما نعاين اليوم من تحولات جارية في أكثر من مجتمع عربي، وخصوصاً في البلدان التي حصلت فيها الانفجارات.
تدفعني مآلات الراهن في اليمن وسورية وليبيا ودول الخليج العربي إلى الانتباه إلى لزوم إعادة التفكير في كل ما جرى مجدَّداً، بهدف البحث في كيفيات إيجاد المخارج المناسبة. ولا نتصوَّر إمكانية حصول ذلك بالصورة المكافئة والمنسجمة مع ما حصل إلاَّ بإنعاش الروح الثورية وشعاراتها في مجتمعاتنا، حتى لا تحصل الردة، فيتواصل العبث بأقدارنا في التاريخ.
نعرف أن نجاح مراحل ما بعد الثورات في التاريخ لا يُعَدُّ دائماً أمراً مؤكداً. وفي ضوء ذلك، نتصور أن الأمر المطلوب والمستعجل في مجتمعاتنا يتمثَّل في الحرص على حصر المكاسب وتحصينها، ثم العمل على احتضان شرارات مواصلة الاستماتة في تحقيق بعض طموحات الثوار وتطلعاتهم، وذلك لمزيد من تهيئة الطريق المساعد في عمليات تخطِّي مآلاتنا الراهنة.
في قلب الدوامة الصانعة اليوم لمجتمعات الطوائف والقبائل والعنف، بدأت أنتبه إلى ما يجري في العراق واليمن وسورية وليبيا من حروبٍ، لا أوَّل لا ولا آخر، وتذكَّرت أن مجتمعاتٍ عربية لم تعرف الاستقرار منذ زمان، وبدا لي أن المتغيرات الجارية تعيدنا، بصورة أو بأخرى، إلى ما قبل الحدث الثوري، لكنها تعيدنا إلى المرحلة المذكورة، وسط خراب وغبار كثيرين.
هل نستطيع القول إننا عدنا إلى الأزمنة التي مهَّدت لما حصل؟ يبدو أن مؤشرات عديدة تدفعنا إلى قبول هذا الموقف، مع ضرورة الانتباه إلى أن التاريخ لا يُكرِّرُ نفسه، فإذا كنا نستشعر عودة ما إلى أوضاع نعرفها، فالمؤكد أننا لا نعود كما كنا، ذلك أننا مزودون، اليوم، بمكاسب عديدة، حصلت بفعل الثورة ومآثرها، الأمر الذي يكشف أن عودتنا إلى ما قبلها، تتم ونحن نحمل معنا دروسها وخيباتها، وضمن هذا الأفق، نلج، اليوم، دروباً جديدة قد يكون بينها وبين ماضينا تشابه ما، إلاَّ أنها تضعنا، من جديد، أمام مفترق طرق، فهل أدركنا ذلك؟
* محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه/”العربي الجديد”