تأتي تصريحات الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، حسين العباسي، أخيراً، لتصب مزيداً على نيران الأزمة الاجتماعية المتأججة في تونس، ولم يكن تلويحه بإمكانية اندلاع ثورة اجتماعية، إلا إشارة إلى الحد، الذي بلغه التصعيد الذي يمارسه اتحاد الشغل، أكبر منظمة عمالية في البلاد، الأمر الذي أثار جملة من التساؤلات عن مستقبل التوافقات الاجتماعية في البلاد، وهل تسير الأمور نحو مواجهة بين حكومة الحبيب الصيد الضعيفة والعاجزة، والنقابات العمالية التي تحولت إلى قوة نافذة مطلقة السراح، تمارس كل أشكال الاحتجاج، وترفع لواء المطالب الاجتماعية التي لا يمكن إنكار عدالتها، ولكن، من دون نفي مدى الإجحاف، الذي تلحقه بالاقتصاد الوطني والاستقرار الاجتماعي، إذا استمرت على وتيرتها الحالية.
وما يمكن ملاحظته أن الإضرابات لم تتوقف منذ حكومة الباجي قائد السبسي سنة 2011، وشهدت تصاعداً لافتاً زمن حكم الترويكا، حيث تنوعت الإضرابات، وشملت غالبية القطاعات العمالية والوظيفية، ومست مجالات حيوية، أثرت أحياناً بشكل سلبي على أداء أجهزة الدولة نفسها، بداية من إضرابات عمال النظافة التابعين للبلديات، وصولاً إلى رجال التعليم، بأصنافهم المختلفة (ابتدائي وثانوي وجامعي)، مروراً بقطاعات الصحة والنقل والأشغال العمومية وقطاعات المناجم والاتصالات، وغيرها.
وبعيداً عن منطق التوصيف لحركة الإضرابات المتتالية في تونس ما بعد الثورة، فإن قراءة المنطق الداخلي للتحركات النقابية تكشف عن جملة من الدلالات المهمة، أبرزها أن جانباً كبيراً من الإضرابات تميزت بعشوائيتها، وعدم واقعية مطالبها، أحياناً، ويمكن تفسيرها بتراكم المظالم، التي تعرضت لها الشرائح العمالية طوال حكم الرئيس السابق، وقد وجدت هذه الفئات المختلفة في ضعف سلطة الدولة بعد الثورة فرصة لتحقيق بعض مطالبها، الأمر الذي أفضى إلى استخدام سلاح الإضراب أداة للتعبير عن الاحتجاج أحياناً (إضراب الجهات للمطالبة بالتنمية)، أو للضغط على السلطة، لإجبارها على الاستجابة لمطالب فئوية.
وفي قراءة المسوغات، التي ساقها الأمين العام لاتحاد الشغل، حسين العباسي، في حواره مع “العربي الجديد”، يمكن أن نلاحظ تأكيده على أن جوهر الأزمة الاجتماعية، والتي تؤدي إلى تصاعد الإضرابات، يكمن في تفاقم عجز القدرة الشرائية لدى العمال والموظفين، في ظل التضخم المتراكم، بالإضافة إلى تراجع الحكومات المتلاحقة عن تفعيل الاتفاقات المبرمة مع سابقاتها، من دون أن يغفل تحميل رجال الأعمال مسؤولية جزء من الأزمة، فهم يسكنون أبراجاً عاجية، حسب قوله، ويستغلون العمال، مستفيدين من الكم الهائل من الامتيازات، وخصوصاً فساد القوانين. وقد أثارت التصريحات ردود فعل حادة من منظمة الأعراف، حيث أكدت رئيسة اتحاد الصناعة والتجارة، وداد بوشماوي، أنه “لا يحق لأي شخص أن يقدم لنا دروساً، وغير مسموح لأي شخص أن يزايد على وطنيتنا”، لتصل إلى القول، وبشكل ينبئ بتوتر غير مسبوق بين المنظمتين، “نحن قوة في البلاد، ويمكن استعمال هذه القوة، لكننا نرفض استعمالها لوطنية المنظمة”.
وتشي هذه التصريحات المتنافرة بانقضاء فترة التوافق التي سادت زمن الحوار الوطني، وفي أثناء حكم الترويكا، حيث ظهر جليا حينها أن كُلاًّ من المنظمتين تنسقان لتحقيق أهداف محددة، أفضت، في النهاية، إلى إسقاط حكومة الترويكا، ووصول حكومة التكنوقراط، برئاسة مهدي جمعة، غير أنه، ومنذ تشكيل حكومة الحبيب الصيد، بدا واضحا أن اتحاد الشغل الذي يعتبر نفسه شريكا في اللعبة السياسية، بل ولاعبا مركزيا فيها، خاب أمله في الحكم الجديد، ولم تتحقق حساباته، التي راهن عليها. وعلى الرغم من تصريحات العباسي، التي أكد فيها على دور اتحاد الشغل في إنقاذ تونس من مصير شبيه بالسيناريو المصري، أو حتى السوري، أو الليبي، فإن الأمور لم تكن على هذا النحو، أو بالبساطة التي صورها عليها العباسي، فقد كانت تونس حينها تعرف نوعاً من توازن الضعف بين القوى، فلم يكن أي طرف قادراً على القيام بانقلاب، وإلغاء بقية الأطراف، ولم يكن الحوار الوطني سوى نتاج منطق الضرورة، فرضته ظروف التعايش السياسي بالإكراه، من دون أن يعني هذا استنقاصاً من دور الاتحاد أو أهميته، غير أن التلويح بثورة اجتماعية، أو فوضى تخرج عن سيطرة الجميع هي في الواقع رسالة سياسية مبطنة، لأطراف محددة داخل قطاع الأعراف، وإلى أقطاب الحزب الحاكم الجديد “نداء تونس”، مفادها بأن الاتحاد ما زال اللاعب الرئيسي، وأنه قادر على خلخلة التوازنات الهشة، وإعادة تركيب العلاقات الحزبية ضمن مشهد سياسي، ما زال يبحث عن استقراره.
حمى الإضرابات، التي تعرفها تونس اليوم، وبأبعادها المختلفة، وعلى الرغم من خلفيتها الاجتماعية، التي لا تنكر في ظل تردي الوضع الاقتصادي، لا تنفي وجود عوامل سياسية حادة، ليس أدناها الحضور القوي لمجموعات اليسار في اتحاد الشغل وحالة التجاذب القوي بين أجنحة حزب نداء تونس الحاكم، بالإضافة إلى حسابات كثيرة، متعلقة بما بعد حكم الباجي قائد السبسي، الذي فقد الكثير من بريقه الإعلامي، وظهر عاجزاً عن السيطرة على الوضع العام، وهو الذي خاض الانتخابات بشعار استعادة هيبة الدولة، بالإضافة إلى أداء حكومي مهزوز، جسَّمَهُ فشل وزراء كثيرين (كالخارجية والتربية والسياحة والبيئة والاستثمار الدولي والصحة) في تقديم أداء مقنع، بل أبدعوا في خلق الأزمات، عبر تصريحات غير مسؤولة. مشهد قائم على الاحتقان الاجتماعي والاضطراب الحكومي وفوضى الأحزاب، قد لا يجد له حلا إلا عبر إطلاق حوار مجتمعي شامل، لوضع أسس توافقات شاملة للسنوات الخمس المقبلة.
*كاتب وباحث تونسي/”العربي الجديد”