مستقبل إدارة السلطة في العراق مابين الفيدرالية واللامركزية

الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية لدولة ما هي التي تحدد طبيعة النظام السياسي فيها، فالنظريات السياسية والقانونية وحتى الدساتير والقوانين إذا لم تكن تعبيراً عن حاجة فعلية لمجتمع الدولة فأنه من الصعوبة أن تحقق نجاحا أثناء التطبيق العملي.
دستور العراق الدائم لسنة 2005، نصّ في مادته الأولى على ان (جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق)، إلا إن الواقع العملي يؤشر وجود تباين واضح مابين التوصيف الدستوري والقانوني لنظام الحكم وشكل الدولة في العراق وبين ما استقرت عليه العادات والأعراف السياسية والتوافقات مابين الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي العراقي.
التأمل في نظام الحكم السياسي في العراق بعد 2003 يعطي مؤشراً واضحاً على عدم تطبيق النظام البرلماني ولا النظام الفيدرالي بشكل كامل وخالص، بل لجأت الكتل السياسية إلى الالتفاف على ثوابت النظام البرلماني والنظام الفيدرالي والأخذ بصيغ تعتقد الكتل السياسية إنها تتناسب مع الظروف الداخلية للعراق، مما أخلّ بمتطلبات وأسس وثوابت النظامين البرلماني والفيدرالي وهذا انعكس سلباً على آلية تطبيقهما، ولهذا اختلف فقهاء القانون والسياسة في تحديد طبيعة النظام السياسي للعراق فوصفه البعض بأنه نظام مختلط في حين وصفه آخرون بأنه نظام برلماني تهيمن عليه السلطة التشريعية بينما يصفه فريق ثالث بأنه قائم على فكرة التوافقية والمشاركة بين كل الأطراف، ونورد هنا بعض الملاحظات التي تؤكد غياب أسس النظام البرلماني والفيدرالي في العراق كما يأتي:
1. إن النظام البرلماني يفترض وجود أغلبية برلمانية تقوم بتشكيل الحكومة ووجود أقلية برلمانية معارضة تراقب وتحاسب أداء الحكومة وهذا غير موجود في البرلمان العراقي.
2. إن مهمة البرلمان مراقبة أداء الحكومة وضبط انحرافاتها ومنعها من الاستبداد، لكن ما يحصل في العراق هو إن البرلمان عاجز عن أداء هذه المهمة لان جميع الكتل البرلمانية ممثلة في الحكومة وبالتالي لا مصلحة لها في محاسبة الحكومة.
3. لا تستند العلاقة بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية إلى أسس النظام الفيدرالي، لان صلاحيات إقليم كردستان تفوق صلاحيات الأقاليم حتى وصفه البعض بأنه فوق الإقليم واقل من الدولة.
ورغم إن المادة الأولى من الدستور قد أكدت النظام الفيدرالي إلى إن تعقيدات الدولة العراقية وطبيعة سلطاتها تؤكد وجود واقع مختلف تماماً عما رسمه الدستور فالعراق ليس دولة فيدرالية لأنه يضم إقليما واحداً وعدد آخر من المحافظات غير المنتظمة في إقليم خاضعة للسلطة المركزية بشكل كامل، ولا هو دولة موحدة لان وجود إقليم كردستان وتمتعه باستقلال شبه تام ينفي عن العراق صفة الدولة الموحدة.
إن هذه الحقيقة تجعل من النظام السياسي العراقي نظاما نادرا قلَ إن نجد له مثيلا في دول أخرى، ولعل ما يزيد من تعقيدات القضية إن عملية تحديد طبيعة النظام السياسي العراقي وصياغة دستوره لم تكن محلية ووطنية خالصة بل أنها تأثرت بإملاءات وإرادات خارجية إقليمية ودولية.
مستقبل النظام السياسي العراقي يطرح أمامنا تساؤلات عدة منها: هل تلوح في الأفق إمكانية تغيير نظام الحكم السياسي وشكل الدولة في العراق من خلال تعديل دستوري؟ وكيف سيكون نظام الحكم الجديد؟
وفي حالة عدم القدرة على إجراء تعديل دستوري يغير النظام السياسي في العراق، فما هي الإجراءات الممكن تطبيقها لتلبية مطالب المحافظات بالمزيد من الصلاحيات؟
إن محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة تضعنا أمام عدة تصورات مستقبلية عما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في العراق بعد 11 سنة من عملية التحول الديمقراطي وما يمكن أن يتغير من آليات الإدارة والحكم لضمان تحقيق الاستقرار في العراق وتوفير الخدمات لأبناء المجتمع العراقي، ومن أبرز هذه التصورات:
1. إن إمكانية تعديل نظام الحكم من برلماني إلى نظام آخر كأن يكون رئاسي أو مختلط من خلال تعديل دستوري هي مستبعدة تماما لأسباب عديدة أهمها غياب التوافق الوطني على هذا التغيير.
2. رغم أن تشكيل الأقاليم في العراق مكفول دستوريا وقانونيا وفقا للمادة الأولى من دستور 2005 وقانون تكوين الأقاليم رقم 13 لسنة 2008، ومع إمكانية أن تكون الفيدرالية حلاً للمشاكل السياسية والإدارية التي يعاني منها العراق، ولكن احتمال السماح بتشكيل أقاليم جديدة في العراق يبدو ضعيفا في المستقبل المنظور لاعتبارات عديدة في مقدمتها التخوف من التقسيم وعدم توافق الأطراف السياسية العراقية ووجود إرادات دولية معارضة للفيدرالية في العراق.
3. في ظل صعوبة التوسع في تشكيل الأقاليم في العراق يتم طرح بديل أكثر واقعية وأكثر استجابة لحاجات المحافظات وهو نظام اللامركزية الإدارية الذي نجد الأساس القانوني له في قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم 21 لسنة 2008 الذي نص في أحد مواده على إن (الحكومات المحلية مسؤولة عن كل ما تتطلبه إدارة الوحدة الإدارية وفق مبدأ اللامركزية الإدارية).
ونحن نعتقد إن العراق مقبل على تطبيق نظام الإدارة اللامركزية كون هذا النظام ينطوي على الكثير من المزايا والايجابيات، إذ تتمتع الحكومات المحلية فيه بقدر من الاستقلال في ممارسة اختصاصاتها بإدارة المؤسسات المحلية في الوقت الذي تحتفظ الحكومة المركزية بإدارة المؤسسات الوطنية العامة.
ايجابيات نظام الإدارة اللامركزية
ينطوي نظام الإدارة اللامركزية على عدة حسنات منها:
1. يجسد هذا النظام مبادئ الديمقراطية في الإدارة من خلال اشتراك الشعب في اتخاذ القرارات وإدارة المؤسسات والمرافق العامة المحلية.
2. التخفيف من عبء البيروقراطية والروتين الإداري المسبب لتأخير انجاز المشاريع وتوفير الخدمات بسبب كثرة المخاطبات مابين الحكومات المحلية والحكومة المركزية.
3. يتيح للحكومة المركزية التفرغ للقيام بمسؤولياتها الأكثر أهمية في رسم السياسة العامة للبلد وحفظ مصالحه الاقتصادية والسياسية والأمنية.
4. تحقيق العدالة في توزيع الموارد المالية وتوفير الخدمات مابين المحافظات بما يتناسب مع النسب السكانية للمحافظة.
5. تؤدي اللامركزية الإدارية إلى قيام المجالس المحلية المنتخبة بمهامها بشكل أكثر سرعة وإتقان، بسبب حرص أعضائها على كسب ود مواطني محافظاتهم والحصول على تأييدهم في الانتخابات اللاحقة.
6. الحد من الترهل الوظيفي والإداري من خلال إلغاء الوزارات التي يتم نقل مهامها الى المحافظات..
التحديات المحتملة لنظام الإدارة اللامركزية
يمكن أن يواجه نظام الإدارة اللامركزية أثناء التطبيق مشكلات تتمثل في:
1. احتمال نشوء صراع بين الحكومات المحلية والحكومة المركزية لان الحكومات المحلية غالبا ما تقدم المصالح المحلية على المصالح الوطنية.
2. نقص الخبرة والكفاءة لدى الهيئات اللامركزية مقارنة بهيئات الحكومة المركزية وبالتالي قد تواجه الهيئات اللامركزية صعوبة في انجاز مهامها.
3. الخوف من تحول مجالس المحافظات إلى معرقل لأداء الهيئات اللامركزية بسبب تدخل أعضاء هذه المجالس في عمل هذه الهيئات لدواعي المصلحة الشخصية والحزبية.
4. غياب المعايير التي تتسم بالوضوح والشفافية في اختيار القيادات الإدارية في المحافظات، والخشية من اختيار هذه القيادات على أسس حزبية ومحاصصاتية بعيدا عن عوامل التخصص والكفاءة.
5. نقص القوانين والتشريعات وعدم صلاحية الكثير من القوانين القديمة التي مازال العمل مستمرا بها، إذ أن تطبيق نظام الإدارة اللامركزية يحتاج إلى مجموعة من القوانين التي توضح الأسس الكفيلة بنجاح هذا النظام.
متطلبات التطبيق
إن تطبيق نظام الإدارة اللامركزية يستلزم اتخاذ خطوات مسبقة تمهد له وتضمن نجاحه ومن هذه الخطوات:
1. رسم خارطة طريق واضحة ومفصلة تحدد الصلاحيات والمهام والخدمات المطلوب إدارتها من قبل الحكومات المحلية.
2. توفير البنى التحتية من أبنية ومستلزمات وكوادر وظيفية مؤهلة لغرض الاستعداد الجيد لتولي المهام المطلوبة.
3. قيام الحكومة المركزية بالتنسيق مع الحكومات المحلية للقيام بنقل المهام والصلاحيات بشكل تتابعي لا دفعه واحدة مع استمرار الحكومة المركزية بمراقبة أداء الحكومات المحلية.

*مركز المستقبل للدراسات والبحوث

اقرأ أيضا

بمجلس النواب.. أخنوش يستعرض تدابير تعزيز البنيات التحتية لتحقيق الإقلاع الاقتصادي

يستعرض رئيس الحكومة عزيز أخنوش، اليوم الاثنين، بمجلس النواب التدابير الحكومية الكفيلة بتعزيز البنيات التحتية لتحقيق الإقلاع الاقتصادي.

رفع السرية عن المستفيدين من الصفقات العمومية

بحضور دولي وازن.. البرلمان يحتضن ”مؤتمر المستقبل”

ينظم البرلمان المغربي بمجلسيه، بالتعاون مع مؤسسة “لقاءات المستقبل” ومجلس النواب ومجلس الشيوخ في جمهورية …

مشاريع قوانين حول اتفاقات دولية هامة على طاولة لجنة الخارجية

أحيلت مشاريع قوانين يوافق بموجبها على اتفاقات مبرمة بين المملكة وعدة بلدان وكذا مؤسسات دولية، على لجنة برلمانية.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *