بعد أن تعددت العمليات الإرهابية في تونس وتنوعت، منتقلة من سفوح الجبال والمناطق الحدودية إلى أماكن العمران، ومنتقلة من استهداف الأمنيين والعسكريين إلى استهداف السياسيين والمدنيين (السياح)، تعالت أصوات مثقفين وإعلاميين وأمنيين، وعدد من المواطنين التونسيين، مطالبة بالتعجيل بإحياء قانون مكافحة الإرهاب الذي سنّه نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي سنة 2003، واستغله لتصفية خصومه السياسيين، والتضييق عليهم. وقد جرى تعديله نسبياً بعد الثورة، وتم النظر في مشروع تنقيحه، في جلسات متتالية عقدها المجلس التأسيسي سنة 2014. وينتظر أن يُعرض القانون، بشكله الجديد المعدل، على مجلس نواب الشعب للتصديق عليه. ويرى فيه مؤيدوه ضماناً لهيبة الدولة وتكريساً لسلطتها، وتأكيداً على حزمها في مواجهة آفة الإرهاب. ويعتقدون أنه كفيل بالحد من انتماء التونسيين إلى الجماعات المتطرفة، بما يفرضه من عقوبات زجرية، قاسية على كل من يشتبه في انخراطه بتنظيم إرهابي، أو تعاونه معه، أو تعاطفه مع أطروحاته الأيديولوجية. ويذهبون إلى أن القانون الجديد يسمح لرجل الأمن بالأخذ بزمام المبادرة، في تعقب المشتبه بهم، وملاحقتهم، وإطلاق النار عليهم في صورة عدم امتثالهم لأوامر الفرق الشرطية، أو العسكرية، بالتوقف. كما يسمح بمصادرة أموال الأفراد والجماعات، والجمعيات الخيرية أو الدعوية التي يشتبه أنها على صلةٍ، من قريب أو بعيد، بالجهات الموسومة بالتطرف. وتم عملياً خلال حكومتي مهدي جمعة وخلفه الحبيب الصيد، إيقاف نشاط جمعيات أهلية ومؤسسات تعليمية خاصة، وروضات قرآنية، ومنابر إعلامية، بحجة أنها تحرّض على الإرهاب، أو تساهم في نشر أفكار المتطرفين، أو توفر لهم دعماً لوجستياً، بشكل مباشر أو غير مباشر.
وتم حلّ تلك المؤسسات ومصادرة عائداتها المالية، بأمر صادر عمّا تسمى “خلية الأزمة”، وفي غير احتكام لمسار التحقيق القضائي في هذا الخصوص. وعلى الرغم من أن وزير العدل في حكومة الحبيب الصيد قد صرّح لصحيفة العربي الجديد (15 مارس/آذار 2015) بأن “قانون الإرهاب يحمي الحريات”، ولا يتعارض معها، فإن تصريح رئيس الجمهورية، الباجي قايد السبسي، لاحقاً، عقب هجمة باردو الدامية (18 مارس/آذار 2015) بأن “الحرية تنتهي عندما يبدأ الإرهاب” يثير قلقاً كثيراً لدى المراقبين والحقوقيين داخل تونس وخارجها. ويذهب ملاحظون إلى أن النظام الحاكم في تونس يسعى إلى مقايضة الحرية بمقاومة الإرهاب، وتقديم المطلب الأمني على المطلب الحقوقي، في هذا الظرف الانتقالي العصيب من تاريخ البلاد. وتزداد المخاوف، عند مراجعة مضامين القانون الجديد لمكافحة الإرهاب الذي تميز بالنص على تعويض ضحايا الإرهاب، وتمكينهم من الرعاية الصحية المجانية، وهذا إيجابي، غير أنه اشتمل على عدة ثغرات وهنات تتعلق بالتضييق على الحريات العامة والخاصة، وعدم توفير شروط المحاكمة العادلة للمشتبه بهم. فالقانون الجديد يشرّع لتوسيع مجال الرقابة الأمنية على المعطيات الشخصية للمواطنين، من قبيل التنصت على المكالمات الهاتفية، ومراقبة المراسلات الإلكترونية، وشبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت، ومنع النفاذ إلى عدد من مواقع الواب الموسومة بالتطرف. ولا تضبط مسودّة القانون الجديد إجراءات رقابية قضائية كافية، تقيّد سلوك السلطة التنفيذية، والأجهزة الأمنية في مستوى تعقبها المشتبه بهم، أو متابعتهم أو محاصرتهم. بل يبدو المراد توسيع صلاحيات رجل الأمن في هذا الخصوص. كما يعطي قانون مكافحة الإرهاب القاضي صلاحيات استثنائية واسعة، تمكّنه من عقد جلسات مغلقة وغير علنية، تقتصر على حضور القضاة والمحامين والمتهمين، من دون ممثلين عن وسائل الإعلام، أو المنظمات الحقوقية. ويبقى مدار الإشكال في قانون مكافحة الإرهاب عدم تقديمه تحديداً مفهومياً واضحاً لماهية الإرهاب، فالتعريف “كل مشروع فردي أو جماعي يهدف، بحكم طبيعته أو سياقه، إلى بث الرعب جريمة إرهابية” زئبقي/ فضفاض، يُحكم من سيطرة الدولة على المجال العام، ويحد من السلوك الاحتجاجي للمواطنين، خصوصاً أن الفصل 13 ينص على اعتبار “الإضرار بالممتلكات العامة والخاصة، أو بالمرافق العمومية، وتعطيل وسائل النقل جرماً إرهابياً”. وهو ما يفهم منه أن أي عمل احتجاجي شعبي، من قبيل المظاهرات الغفيرة، أو الاعتصامات في الساحات العامة والشوارع والطرقات احتجاجاً على سياسات الدولة الاقتصادية أو الاجتماعية، يمكن أن يدرج في حيز تعطيل الصالح العام، وتهديد السلم الاجتماعي، ويُحسب على أنه إرهاب. وفي ذلك تضييق على حرية الاجتماع والاحتجاج، ومحاصرة لدور المواطن في المجال العام.
ويستمد إقرار قانون مكافحة الإرهاب مشروعيته في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة من مسار الانتقال الديمقراطي في تونس من تدهور الوضع الأمني، داخلياً وإقليمياً، بسبب استمرار النزاع المسلح في ليبيا، وتوتر الجبهة الحدودية مع الجزائر، والخوف من ظهور نواة لداعش في تونس. لكن هذا المطلب يبقى في حاجة إلى التكيف مع مستجدات الوضع الحقوقي للتونسيين بعد الثورة. فمن غير المفيد التأسيس لمقولة “الأمن والأمان”، عبر تقويض الحقوق الأساسية للمواطنين. لأن ذلك قد يؤدي إلى التمكين للقطيعة بين المواطن والدولة، وإلى توتير العلاقة بين رجل الأمن والمواطنين، كما ينذر ذلك بعودة عصر الدولة البوليسية القامعة. صحيح أن مقاومة الإرهاب أمر ضروري، وخيار استراتيجي، لكن ذلك يقتضي تأهيل المواطن، ورجل الأمن والعسكري، والمتطرف على السواء لخدمة الصالح العام. فالقضاء على التطرف لا يكون بالاكتفاء بسنّ قوانين زجرية، بل يقتضي الأمر تشخيص الظاهرة من جميع جوانبها، والبحث في تجلياتها وأسبابها، وسبل معالجتها ثقافيا، ونفسياً، وتربوياً، واجتماعياً، واقتصادياً. ومن المجدي، في هذا السياق، التأسيس لمعادلة صعبة، تضمن مكافحة الإرهاب في غير انتهاك لحقوق الإنسان عموماً، ولمكسب الحرية خصوصاً، فأنا مواطن، إذن، أنا حر. وأنا حر، إذن، أنا موجود.
* أستاذ وباحث جامعي تونسي/”العربي الجديد”