تزخر الصحف اليومية المغربية بأخبار “صاخبة” تتصدر صفحاتها الأولى، ومع ذلك فإن زائر هذا البلد لا يسعه سوى ملاحظة الهدوء الذي يسم الحياة الداخلية. فحتى الحملات التي دأبت أغلبية الصحف على شنها ضد رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران قد خفت وتيرتها مقارنة بعام مضى، وذلك بعد أن أبدى الرجل صموداً في موقعه بالحفاظ على تناغمه مع القصر وعلى تواصله مع الأحزاب، كما جمع بين هدوء الأعصاب والرد على مهاجميه من النواب أو سواهم بطريقة مباشرة ولاذعة.
من المعلوم أن بنكيران يمثل حزب الأغلبية “العدالة والتنمية” وهو حزب إسلامي معتدل، وقد نجح هذا الحزب في الحفاظ على مسافة ملموسة مع ما يسمى “الحركة الإسلامية” خارج بلاده، ونأى بنفسه عن الأعاصير التي تضرب هذه الحركة، بما منحه صفة وطنية مستقلة، وما يسترعي الانتباه حقاً أن حكومة بنكيران الائتلافية لم تجنح من قريب أو بعيد إلى أسلمة مظاهر الحياة المغربية التي ما انفكت تتسم بطابع مدني، وبتنوع ثقافي واجتماعي حيوي وعلى درجة كبيرة من الوئام بين مكوناته .
إما الأخبار الصاخبة على صدر صفحات الصحف فلا تتعلق بحروب “داعش”، أو بالتطورات في أوكرانيا، إذ إنها تدور حول شؤون محلية محضة، وإن كانت لا تخلو من طابع سياسي كخبر حول استيلاء ابن لزعيم أحد أكبر الأحزاب على أراض تتبع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والخبر يستند إلى استجواب قدمه نائب من حزب العدالة والتنمية إلى وزير الأوقاف، وخبر كهذا يندرج في الصراع المفتوح بين الأحزاب قبل نحو سنة من الانتخابات النيابية التي لم يجر بعد تحديد موعد نهائي لها بينما تجري الاستعدادات لانتخابات محلية في خريف هذا العام، وهذه الانتخابات تشكل بروفة للانتخابات النيابية . ومثله خبر يتعلق بمراجعة قانون التقاعد الذي تنشغل به النقابات المهنية وبعض الأحزاب وهو ذو صلة بالانتخابات أيضاً.
يتحدث إعلاميون هنا عن ضعف أصاب الأحزاب في السنوات الأخيرة ومنها “حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” بقيادة إدريس لشكر الذي يواجه انشقاقاً كبيراً في صفوفه، وكذلك في “حزب الأصالة والمعاصرة” الذي يصفه معارضوه بأنه حزب إداري حكومي، صعد بسرعة في السنوات الخمس الماضية وما لبث أن شهد تراجعاً . وواقع الأمر أن درجة التسييس تشهد انخفاضاً متواتراً في هذا البلد الذي يتمتع بتعددية حزبية ونقابية وبحكومة تشكلها الأغلبية وفق تعديلات وقعت عام 2011 على الدستور المغربي . التعديلات الدستورية تمت كاستجابة لموجة ما تسمى “الربيع العربي” التي قادتها في المغرب حركة 20 فبراير/شباط . وقد مرت الذكرى الرابعة قبل أيام لنشوء هذه الموجة بهدوء شديد، وبغير اهتمام سياسي وإعلامي يذكر، فالمغاربة يفكرون بيومهم وغدهم لا بأمسهم، والقبض على ثلاثة أفراد ينتمون لحركات تكفيرية متطرفة كما وقع قبل أيام هو أكثر أهمية من استذكار هبّة فبراير، ومع ذلك فإن الصحف تتسع لنقد الماضي.
مآلات “الربيع العربي” عززت من ميل الحياة السياسية المغربية للاعتدال، وأضعفت من تسييس الأجيال الشابة، التي تقبل بكثافة ويومياً على متابعة المباريات الرياضية المحلية والإفريقية والأوروبية في مئات المقاهي التي تزخر بها كل مدينة مغربية . وإلى جانب متابعة المباريات هناك من يراهنون على المباريات بطريقة الجداول المنظمة التي يقبل بعضهم على شرائها وتعبئتها وهي ظاهرة لا وجود لها في دول المشرق (سوى في لبنان أيام هدوئه) وإلى المراهنة على النتائج المتوقعة للمباريات هناك مراهنات على سباق الخيل، وحتى على سباقات خاصة بالكلاب . . وهذه من مظاهر الحياة الأوروبية في هذا البلد، الذي يجمع بين صيغ الحياة التراثية والعصرية في انسجام مدهش لا نظير له في بقية العالم العربي . أما القضايا السياسية التي تثير الاهتمام الداخلي فتتعلق مثلاً بالعلاقات مع فرنسا وعودة التعاون القضائي بين البلدين، وتطورات مهمة المبعوث الدولي لقضية الصحراء، وتقارير منظمة العفو الدولية حول أوضاع السجون، فيما تخلو بعض الصحف الرئيسية من أي خبر عربي أو دولي . وذلك تطبيقاً لمقولة إن الصحف لا يمكنها منافسة الفضائيات أو مواقع التواصل الاجتماعي في تداول مثل هذه الأخبار، فيما تنعقد المنافسة الفعلية والمتاحة حول الشؤون المحلية، ولا تخلو هذه الأخبار من جرأة وشفافية في تداول أخبار وتقارير حول قضايا جنائية يتورط فيها على سبيل المثال رجال شرطة ومسؤولو أمن، ومنها على الخصوص قضايا الرشوة . وهو ما جعل وزير الاتصال مصطفى الخلفي يفاخر بالمستوى الذي بلغته صحافة بلاده خلال العام الماضي معتمداً على معايير دولية في التقييم كالتي تعتمدها “اليونسكو” وعلى تقارير منظمات حقوقية دولية بارزة منها “مراسلون بلا حدود” . . ومع ذلك ولدى تناول تقرير الوزير لا تتردد صحيفة بارزة بالاستشهاد بتقرير لجمعية دولية أخرى يذكر أن العام الماضي شهد تراجعات على وضع الحريات الإعلامية .
قبل نحو عشر سنوات فقط كانت الصحافة السائدة في المغرب هي الصحافة الحزبية، وما زالت هذه الصحافة تصدر، ولكن مع تراجع ملحوظ لحضورها، وتستميت للبقاء أمام صحافة مستقلة ناشطة يمتلكها رجال أعمال يحسنون مواكبة العصر والاستثمار في الإعلام، فيما يلجأ أحد الأحزاب الكبيرة للاستعانة بخبراء أمريكيين من “المعهد الديمقراطي” لإدارة حملته الانتخابية وذلك في ظروف التحولات الاجتماعية التي تنخفض فيها درجة التسييس.
*كاتب أردني/”الخليج”