الموقف الجزائري الرسمي، من الأحداث في ليبيا، الذي تناقلته وسائل الإعلام، منذ بداية الانتفاضة على نظام القذافي، سواء في التزام الحياد، او الرفض للتدخل العسكري، لا يسع المتابع إلا تثمينه وتشجيعه على كل حال، ولكن منطق العدل والإنصاف الإنساني، والموقف السياسي الشجاع، يقضي بأن هذا الموقف الذي تتخذه السلطة في بلادنا تجاه ما يحدث في ليبيا، لا يمثل إلا الحد الأدنى في سلم المواقف التاريخية الجادة؛ باعتباره موقفا لا يساعد على الشر، ولكنه لا يساعد على فعل الخير.
على أن الموقف المفترض من الجزائر، سلطة وشعبا، تجاه ما يحدث في ليبيا، موقف أخلاقي قبل كل شيء، تمليه العلاقة بين الشعبين الليبي والجزائري، بجميع أبعادها، القومية والدينية والثقافية والتاريخية، وليس مجرد موقف محايد فيما يقع بين الأشقاء من خلافات ونزاعات وتقاتل، لأن الحياد يمكن أن يقفه كل أحد، أما ما ينتظر من الجزائريين من مواقف، هو أن يتعاملوا مع القضية، كتعاملهم مع قضاياهم الوطنية، والمواقف الوطنية لا مجال للحياد فيها، ومن ثم فإن التجاوب مع الحدث بما يستحق من الاهتمام هو الأساس؛ بل لا يسع الجزائري إلا ذلك.
إن العالم –كل العالم- مهتم بما يحدث في ليبيا، ولكنه اهتمام المصالح، التي لا يهمها مصير إنسان العالم الثالث عموما، والإنسان الليبي خصوصا، والمصالح التي لا تهتم بليبيا إلا بالقدر الذي يؤَمِّن مستقبل الطاقة، ولو كان ذلك على حساب الشعب الليبي كله.
ولذلك فإن المطلوب من الموقف الجزائري، ان يكون في صالح المجتمع الليبي، وإذا كان ولا بد، من أن يكون هذا الموقف، في إطار قوى دولية أخرى، كما هو الحال هذه الأيام، في الحرص الفرنسي وبعض الدول الأوروبية الأخرى، التي تسعى لأن يكون للجزائر، دور في الملف الليبي، فلا أقل من ان يكون خادما لليبيا ومصالحها العاجلة والآجلة، قبل أي اعتبار آخر، وأولى أولويات المجتمع الليبي، العودة إلى الحراك السلمي، وتحييد السلاح في المسألة السياسية بينهم، وليس كما يدير سماسرة السياسة والتجار بالدم الليبي، الذين يصرون على استمرار الفتنة، باسم محاربة الإرهاب، او مقاتلة فلول النظام، او باسم حماية الدولة من الانتهازيين، كل ذلك فيه من إدامة الأزمة، أكثر مما فيه من إرادة القضاء عليها.
إن دور الجزائر في الملف الليبي، رسميا كان أو شعبيا مهم، ولكن لا نتمنى له أن يكون وفق الاستراتيجية الدولية التي لا يهمها من الملف إلا “محاربة الإرهاب” والهجرة غير الشرعية وانتشار السلاح.. كل ذلك مهم بطبيعة الحال، ولكنه ليس كل شيء؛ لأن مثل هذه القضايا التي يختلف الشرق والغرب في تشخيص مضامينها وأشكالها، قد تؤجل معالجة الملف، إلى ما لا نهاية له، بينما المجتمع الليبي مخترق من قوى دولية متنوعة، وعلى أرضه تصفى الكثير من الحسابات الإقليمية، هنا تظهر أهمية الدور الجزائري، الذي يهمه الاستقرار الليبي قبل كل شيء، لجملة من الاعتبارات.
1. أن المجتمع الليبي جار، وكل ما يقع فيه ينعكس على الجزائر سلبا وإيجابا، فضلا عن حق الجوار الذي يقتضي من الجزائر أن تحرص على استقرار الجار كما تحرص على استقرارها، وتسعى لذلك كسعيها لتحقيق شيء لها، وبلغة الاستراتيجيين، إن الحرص على استقرار ليبيا جزء مساعد على استقرار الجزائر، وكذلك تنميتها في جميع المجالات، على خلاف الأنظمة الأخرى، فإنها تنظر لليبيا، ولكل ما يقع فيها، على أنه مصدر لتصدير الإرهاب يخاف منه، وآبار بترول يخاف عليها، نربأ ببلادنا ان تسير في هذا الاتجاه في معالجة الملف الليبي؛ لأن ما يقع بين الليبيين من خلافات وتقاتل وتصفية حسابات، ليس إلا نتيجة طبيعية لعقود الاستبداد التي عاشها المجتمع الليبي خلال مرحلة حكم القذافي 1969/2011، وهذه العقود الأربعة من الحكم الفاسد، كافية لإنشاء طبقة سياسية فاسدة تؤطر الفساد في دواليب الدولة، وطبقة أخرى من المعارضة الناقمة، التي تشربت منطق الانتقام، ومن ثم فإن ما يقع من مفاسد هذه السنوات التي أعقبت الانتفاضة التي أسقطت نظام القذافي، ليس بأكثر من المفاسد التي كانت على عهد النظام البائد، الذي كانت المفاسد فيه مستورة، سياسة القتل والإبادة الجماعية والتجويع والتفقير، كل ذلك كان في عهد القذافي، ولكنه مستور لا يراه كل الناس، اما اليوم فالحسابات على مسرح الحياة، ولكن جوهر المسألة ثورة وثورة مضادة، ولذلك كان تدخل القوى، المستفيدة من استمرار الفوضى والتقاتل، حريصة على تسجيل حضورها سواء القوى الغربية أو العربية، بالفعل وبالوكالة.
2. أن من حق الليبيين على الجزائريين سلطة وشعبا، أن يردوا بعض الجميل، الذي لم يبخل به الليبيون، على الجزائر أيام الثورة، حيث كان تفاعل الليبيين مع أحداث الثورة، كمن يتفاعل مع قضيته؛ بل إن بعضهم، كان أفضل من الكثير من الجزائريين، فقد شكلوا لجانا شعبية لمساندة الثورة، وأقاموا مهرجانات في المدن الليبية لجمع التبرعات، فكان لكل طبقة من الليبيين دور تقوم به، من العمال والموظفين والتجار…إلخ، وانتدبوا شخصيات، من المثقفين والإعلاميين والسياسيين، للتعريف بالقضية الجزائرية، ورجال أعمال يجوبون الأرض طولا وعرضا، في سبيل انتصار الجزائر على عدوِّها، أمثال الشيخ محمود صبحي، وعلي مصطفى المصراتي، الهادي المشيرقي، ويوسف مادي، وسعد الشريف وغيرهم كثير [أنظر كتاب الشعب الليبي الشقيق في جهاد الجزائر، للأستاذ محمد الصلح صديق].
يروي الأستاذ محمد الصلح صديق قصة مؤثر، إذ كان ممثلا للثورة في لبيا يومها، “لما استشهد العقيد عميروش، جاء طفل إلى مكتب ممثلية الثورة، أرسلته أمه للإطمئنان على مستقبل الثورة، والسؤال عن مدى تأثير استشهاد العقيد عميرون على مستقبل الثورة؟” هذا سؤال امرأة ماكثة بالبيت، ما بالك بغيرها ممن يفهمون في السياسة والثورات ومساراتها؟
هكذا كان الليبيون في مساعدتهم للثورة مساهمة منهم في استقلال الجزائر، أليس من حقهم علينا أن نقف إلى جانيهم في محنتهم؟
3. ان الجزائر مرت في محنتها 1992-1999 بما تمر به ليبيا اليوم، من غلبة صوت الرصاص على منطق العقل، عندما كانت لغة “الحسم الأمني” هي لغة الخطاب الرسمي ولغة الجماعات المسلحة، وكانت لهذه التجربة نهايات أفضل بكثير مما كان عليه الوضع قبلها، وذلك عندما اقتنع الجميع أن ما يمارسونه من أعمال “معركة الرابح فيها خاسر”، فكان الاستماع إلى لغة العقل والفهم وتشخيص الداء فكان بعض العلاج، الذي هو أقل سوء، مما لو سارت الأمور على ما كانت عليه.
وأقل الوفاء للشعب الليبي أن تنقل إليه الجزائر تجربتها، سواء من السلطة او من المعارضة؛ لأن تجاوز المحنة التي مرت بها الجزائر ليس فيها الفضل لأحد من الناس، وإنما كان الفضل فيها لله، ثم لمن اهتدوا لمنطق العقل والحل السياسي، بدل التحاكم للسلاح.
إن التجربة الجزائرية لم تنتهي بانتصار سلطة على الإرهاب كما يسوق المرجفون، وإنما هي تجربة انتصر فيها العقل والمنطق على الأوهام. لأن النظام السياسي بلغ مستوى من الضعف لم يعد قادرا فيه على تهميش خصومه، وخصومه رغم استفادتهم من هذا الضعف، لم يبلغوا مستوى القدرة على إسقاطه، فجَرَّبَ الجميع مبادراتهم الضعيفة، وسقط الجميع في الامتحان، ومع ذلك فإن ضعف المجتمع في واقع سلمي، أفضل بكثير من سقوطه في بحور الدماء والدموع. ولكن الإيجابي في المحنة الجزائرية، هو أن الجميع اكتشفوا في بعضهم البعض، ما لم يعرفوه من قبل، أيام كانت السلطة محتكرة لكل شيء، والمعارضة محرومة من كل شيء، فلا مساحة تجمع بينهم، فكانت إرادة الإفناء هي القوة التي جرَّت الجميع إلى التعارف بدل فناء الجميع.
واتمنى لو أن الجزائريين، من المجتمع المدني خاصة، يقومون بتقديم مساعدات إنسانية، وبعثات طبية، للمجتمع الليبي، ومساعي سياسية لإصلاح ذات البين، فينقلون التجربة الجزائرية، ويجمعون أكبر قدر ممكن من الإطارات ممن كانت أو لا زالت لهم علاقات برجال ليبيا من الصادقين الأصفياء. ولمعرفتي بطبيعة الشعب الليبي، ما أظنه يتخلف عن الاستجابة لمبادرة يقوم بها جزائريون، لما بين الشعبين من حب وتعاطف وتواد.
*صحفي جزائري/”الشروق” الجزوائرية