هناك فرق كبير بين إقامة علاقات التعاون والشراكة السياسية والاستراتيجية بين الدول على اساس الاحترام المتبادل لسيادتها، ووحدتها الوطنية والإقليمية، وفق ما يقتضيه ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وبين إقامة تلك العلاقات على اساس الكيد والتآمر على الغير، وعدم إيلاء أي أهمية لا لسيادة الدول على ترابها الوطني، ولا لمبدأ عدم التدخل في شؤونها الداخلية، ولا لأي احترام لميثاق الأمم المتحدة ومقتضيات القانون الدولي.
ولعل أول فرق جوهري بينهما، هو كون السلوك السياسي الاستراتيجي الأول يقوم على مباديء تتسم بالديمومة والتطور المتواصل، من خلال توسيع دوائر التعاون والتكامل، على مر الحقب والمراحل السياسية والاستراتيجية، بينما يكون التقلب، وربما التخبط، هو الذي يسم الصنف الثاني من العلاقات، نظرا للتقلبات التي تطرأ على المصالح الآنية لمختلف اطرافها والتي تمنعها من الاتساق والاستقرار والنمو في نهاية المطاف.
وربما يكون الفرق الجوهري الثاني بين هاتين المقاربتين كون الأولى تقوم على ضرورة البناء انطلاقا من خلاصات ودروس الماضي والحاضر لخدمة المستقبل المشترك بين الدول، فيما نجد ان الصنف الثاني يتحرك، في كثير من الأحيان، انطلاقا من ردود فعل غاضبة او حتى حاقدة على سلوك الصنف الأول، الأمر الذي ينزلق بأصحابه إلى العمل، من خلال حصر ربط العلاقات مع الدول، على حبك المؤامرات وإنزال الأذى، بكل الوسائل الممكنة، بالخصوم او من يتم اعتبارهم الأعداء. وهو سلوك لا ينزلق اليه الصنف الأول، بشكل شبه مطلق، خاصة اذا اعتمد مبدئي توازن المصالح وتبادلها في ظل احترام حقوق الآخرين غير القابلة للتصرف في السيادة والوحدة الوطنية.
انطلاقا من هذين الفرقين الجوهريين، يمكن مقاربة السلوكين المغربي والجزائري على مستوى المغرب الكبير كما على المستويين الافريقي، وهي مقاربة تفيد ان المغرب يندرج في سلوكه السياسي الاستراتيجي في مختلف علاقاته المغاربية والإفريقية والدولية ضمن الصنف الأول من السلوك بينما تندرج سياسات الجزائر المغاربية والإفريقية في اطار الصنف الثاني في أغلب الحالات.
إقرأ أيضا: اللامعقول في العلاقات الجزائرية المغربية
وهكذا يضع المغرب في مختلف مستويات علاقاته المغاربية ما يخدم الابتعاد عن كل ما يوتر او يزيد في توتير هذه العلاقات لفائدة كل ما هو مشترك او ما هو قابل لأن يصبح عاملا جامعا بين دوله على اعتبار ان الممارسة على قاعدة الأفق المفتوح على المستقبل هو ما ينبغي ان يأخذ موقع الصدارة في مختلف المراحل وبغض النظر عن التمايزات التي يمكن ان تبرز بين دول المنطقة وضمن هذا التوجه دفع بالعلاقات بين دول المغرب الكبير نحو مزيد من التنسيق والترابط بغض النظر عن الخلاف الجوهري والاستراتيجي بينه وبين بعض الدول المغاربية التي ناصبته العداء شبه المطلق بخصوص استكمال وحدته الترابية من خلال استرجاع أقاليمه الجنوبية من الاستعمار الاسباني وخاصة الجزائر وليبيا في عهد معمر القذافي الى ان تم توقيع معاهدة مراكش في السابع عشر من فبراير ١٩٨٩ التي بموجبها تم انشاء اتحاد دول المغربي العربي بين الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا وليبيا.
وقد اعتقد المغرب حينئذ ان التقدم في بناء مؤسسات المغرب العربي من شأنه توسيع دوائر التنسيق والشراكة بين دوله مع مرور بعض الوقت، بل يمكن ان يفتح الطريق السالكة الى إقامة نوع من الاندماج بينها على اعتبار ان المستقبل لم يعد للدول المتوقعة على نفسها، وانما للتكتلات الاقليمية والدولية كما تدل على ذلك بعض تجربة الاتحاد الاوروبي وتجربة دول مجلس التعاون الخليجي بطريقتها الخاصة.
غير ان رهان المغرب لم يكن ليكتب له النجاح لأن الجزائر وليبيا لم تتخليا في اي وقت من الأوقات عن سياساتهما المناوئة للبلاد وخاصة على مستوى العمل على استقلاله وفصل أقاليمه الجنوبية بشتى الوسائل بما في ذلك احتضان عصابات جبهة البوليساريو وتمكينها من الدعم السياسي والدبلوماسي في مختلف المحافل الاقليمية والدولية، على أساس مزاعم حق الشعوب في تقرير مصيرها وكأن المغرب ليس شعبا بمختلف روافده البشرية. والجغرافية شمالا وجنوبا غربا وشرقا.
وقد حاولت الجزائر في بعض المراحل التي أعقبت توقيع معاهدة مراكش الإيحاء بأنها قد اصبحت مقتنعة ان التنسيق والعمل الوحدوي بين دول المغرب الخمسة ينبغي ان تكون له الأولوية في العلاقات بين دول الاتحاد المغاربي. غير انها لم تتوقف في يوم من الأيام عن حبك المؤامرات والدخول في اتفاقات وتواطؤات مشبوهة مع مختلف أعداء المغرب ومناهضي وحدته الترابية بما كشف للقاصي قبل الداني ان قضية الصحراء المغربية هي أولوية كل الأولويات في الأجندة السياسية والدبلوماسية الجزائرية من زاوية العمل على الطعن في حق المغرب المشروع في وحدته الترابية وسيادته الى درجة يمكن القول معها انها قد حولت اعلان انتمائها الى الاتحاد المغاربي الى مجرد خدعة تستخدمها في مختلف تحركاتها زاعمة ان المغرب يمكن ان يتنازل عن سيادته الوطنية ويطبع العلاقات مع أعداء وحدته الترابية.
وينبغي الاعتراف ان عدم مواجهة هذه السياسة المخادعة بالحزم الضروري، نزولا عند رغبة باقي أشقاء المغرب الذين اعتقدوا، هم كذلك، ان الموقف الرسمي الجزائري سيتغير بالضرورة لمصلحة الا تحاد المغاربي بجميع دوله في نهاية المطاف.
لكن الواقع الفعلي لسياسات القيادة الجزائرية كذب كل التكهنات حول اي مرونة في موقفها العدائي للمغرب الذي تصفه وبشكل رسمي لا غبار عليه بالدولة المحتلة وهو ما لم يترك للمغرب اي خيار آخر غير اعتبار الموقف من قضيتنا الوطنية المقياس الحقيقي لتحديد الأصدقاء والأعداء على مستوى الجوار نظرا لتأثير كل موقف منها على مجريات الأمور في الميدان كما يدل على ذلك إيواء مرتزقة البوليساريو والإشراف على تحركاتهم الدبلوماسية والسياسية والعسكرية من قبل الجزائر.
اما على المستوى الافريقي، حيث استطاعت القيادة الجزائرية شراء ذمم عدد لا يستهان به من رؤساء الدول الافريقية في سياق تسويق الدولة الصحراوية الوهمية الى درجة قبول عضويتها في منظمة الوحدة الافريقية وفي الاتحاد الافريقي الذي ورثها، فإن المغرب الذي اضطر للانسحاب من ذلك الاطار، قد تبنى سياسة طويلة النفس خارجه، من خلال تعزيز علاقات التعاون مع عدد من الدول الافريقية على قاعدة مشاريع تنموية وتكنولوجية وثقافية مشتركة اعتبرت من قبل كثير من المراقبين أسلوبا ناجعا في الالتفاف على استراتيجية الجزائر المنهجية القائمة على عزل المغرب عن مجمل البلدان الافريقية. وكان لنزول الملك محمد السادس بثقله في هذا الميدان، من خلال زياراته المتكررة لبلدان القارة السمراء واللقاءات المتعددة بينه وبين قياداتها والإشراف على مشاريع التعاون وعقد اتفاقيات الشراكة معها، اثره البالغ في نمو وتطوير علاقات المغرب الافريقية بشكل ايجابي خلال السنوات الأخيرة مما ساهم في كسر الحصار الذي حاولت الجزائر وبعض الدول المتحالفة معها او تدور في فلكها فرضه عليه.
وبطبيعة الحال، فإن القيادة الجزائرية، المستاءة من هذا التوجه الافريقي الواضح للمغرب، قد حاولت مؤخراً تنظيم هجومها المضاد على المغرب بواسطة الإيعاز للاتحاد الافريقي برفع مستوى تدخله في قضية النزاع المفتعل حول الصحراء بتعيين مبعوث خاص له على غرار ما فعلته الامم المتحدة، وهو ما وقف المغرب في وجهه بقوة ولم يعترف به بأي شكل من الأشكال لأن الغاية منه هي العمل على اخراج مسألة الصحراء ولو بطريق غير مباشر من عهدة المنتظم الدولي خاصة بعد تبني مجلس الامن الدولي منهجية البحث عن الحل السياسي. وإذا علم ان الجمهورية الصحراوية الوهمية عضو في الاتحاد الافريقي، تبين بالملموس البعد التآمري لخطوة تعيين مبعوث خاص له بالصحراء ورفض المغرب القاطع لذلك.
ان تقييما أوليا للسلوكين المغربي والجزائري في مقاربة علاقاتهما المغاربية والإفريقية إذن يفيد ان مزاعم القيادة الجزائرية حول الالتزام ببناء المغرب الكبير، ومغرب الشعوب بالذات، كما كانت تزعم منذ عهد الرئيس الراحل هواري بومدين قد انكشفت لعموم شعوب منطقتنا لأن تلك المزاعم لا تنسجم مع اعتماد سياسات التآمر على وحدة وسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية ودعم جماعة البوليساريو الانفصالية واستخدامها المنهجي لتصعيد التوتر في العلاقات المغاربية الى درجة التهديد بالقيام بالأعمال العسكرية الإرهابية ضد المغرب. كما ان حديث القيادة الجزائرية حول الدفاع عن مصالح افريقيا قد انكشفت من خلال سياسة المحاور التآمرية على عدد من بلدان الاتحاد الافريقي ذاته ومواقفها السلبية من بعض الأزمات التي اعترضت تلك البلدان خلال السنوات الأخيرة كما هو شأن مالي وليبيا على سبيل المثال.
وليس خافيا، على اي كان، ان اعتماد المغرب لسياسة الوضوح والتعامل الندي مع مختلف بلدان المغرب وإفريقيا التي لا تناصبه العداء المطلق في موضوع وحدته الوطنية والترابية كفيل بالدفع بعدد من الدول في المنطقة الى الوقوف على حقيقة الاستراتيجية الهيمنية للقيادة الجزائرية مما سيعزز اتجاه فقدانها لما كان يعتبر لدى البعض مصداقيتها في دعم قضايا الشعوب المزعومة.