قبل اغتياله في مسرح عنّابة، وهو يلقي خطاباً على الهواء، في صبيحة يوم 29 يونيو/ حزيران سنة 1992، بعد 166 يوماً من مزاولته الحكم، كان الرئيس الجزائري الأسبق، محمد بوضياف، قد أطلق سؤاله الكبير “الجزائر إلى أين”؟.. وبقدر ما كان السؤال حينها خطيراً، ويحمل أجوبةً موقوتة، فإن السؤال المرعب يطلّ الآن، في وقت لم يفقد فيه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة صوته فقط، حيث يعجز عن مخاطبة الجزائريين منذ سنوات، بل يفقد فيه حتى صورته، داخلياً وخارجياً، في أعقاب ما أحدثته الصورة الفضيحة التي نشرها له أخيراً رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس.
ما يجعل هذا السؤال الكبير اليوم حول مصير الجزائر في عهد بوتفليقة أكثر خطورة من سؤال بوضياف، على الرغم من أن الأخير كان في ظروفٍ تاريخيةٍ شديدة التعقيد، حيث الانقلاب العسكري على الديمقراطية، بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات التشريعية في أشهره الأولى فقط، قبل أن تدخل البلاد بعدها في دوامةِ حربٍ أهليةِ طاحنةِ أوقعت ما لا يقل عن 250 ألف ضحية، ما يجعله أكثر خطورة، أن الوضع الإقليمي والداخلي اليوم للجزائر بات مهدداً أكثر، والبلاد أكثر عرضة ليس فقط لمخاطر الإرهاب و”داعش” والانفجار الشعبي، بل والتفسخ الداخلي، والانفصال الجغرافي، والصراع المدمر بين الزمر الحاكمة نفسها، بعد تغييب كل أشكال المعارضة السياسية وتدميرها.
ومن الطبيعي أن الصورة التي نشرها مانويل فالس، عبر حسابه الشخصي في “تويتر”، بوتفليقة، عقب زيارته (فالس) الجزائر أخيراً، وأظهرت الرئيس في حالةٍ من العياء الشديد والتيهان والمرض المتقدّم، بل وفي حالة قريبة من اللاوعي، أو استيعاب الواقع من حوله، من الطبيعي أنها دفعت كثيرين إلى طرح سؤالنا هذا: جزائر بوتفليقة إلى أين؟ خصوصاً أن الرئيس الذي جاء سنة 1999 بشعاراته البراقة حينها بإعادة الكرامة للجزائريين، وإعادة الصورة المشرقة للجزائر في الساحة الدولية، انتهى به المطاف، للأسف، إلى أن يكون موضوعاً للسخرية الواسعة، خصوصاً بين وسائل الإعلام الفرنسية.
إقرأ أيضا: قولي لنا الحقيقة عن بوتفليقة يا فرنسا!
وليس مهماً، هنا، قراءة موجة ردود الفعل الغاضبة في الجزائر بين أوساط الحكم ومواليه، من الأحزاب واتحاد العمال ومنتدى رجال الأعمال، ممن اعتبروا أن فالس ارتكب في حق الرئيس بوتفليقة “جريمة الإساءة للمريض”، والإساءة “لرمز الدولة”، وتجاوزاً “للخط الأحمر”، على الرغم من أن لجلّ الغاضبين ارتباطات معروفة بالدوائر الفرنسية، وعلى الرغم من أن الصورة المنشورة التقطها الجهاز الإعلامي في رئاسة الجمهورية الجزائرية، بقدر ما يهمنا مآلات جزائر بوتفليقة، بعد 16 سنة من الحكم المطلق، تشارف على الانتهاء الآن بهذه الصورة القاتمة من ضياعٍ لقيمة الدولة المهابة التي حافظ على حدّها الأدنى بن أحمد بلة وخواري بومدين والشاذلي بن جديد ومحمد بوضياف واليمين زروال، قبل أن تنهار بشكل شبه كامل في فترة حكم بوتفليقة، بهذه الصورة المروّعة.
صور السقوط هذا أبعد في دلالاتها من الصورة “المحزنة” لبوتفليقة، ومنها عودة الهيمنة الفرنسية على الاقتصاد الجزائري زمن بوتفليقة، مع السيطرة على قطاعات أخرى استراتيجية، على غرار قطاعي التربية والثقافة، بصورةٍ لم يسبق للجزائر المستقلة أن عرفتها، كما تجسّد هذا الهوان في ممارساتٍ فرنسيةٍ مهينة لبعض وزراء الحكومة الجزائرية أنفسهم، على غرار طريقة التفتيش التي تعرّض لها وزير الاتصال الجزائري، حميد قرين، في مطار أورلي في باريس، في سبتمر/ أيلول الماضي، في مقابل استقبال الرئيس بوتفليقة شخصياً أي مسؤول فرنسي يزور الجزائر، ولو كان رئيس بلدية نائية.
وتظهر طبيعة العلاقات الجزائرية الفرنسية في عهد بوتفليقة انعطافةً كبرى، منذ تم نقله للعلاج في مستشفى فال دوغراس الفرنسي، عقب إصابته بجلطة دماغية في أبريل/ نيسان 2013، واستمر غياب الرئيس عن الجزائر عدة أشهر، قبل أن يشرع، بعد عودته، في إقالة كبار جنرالات الجيش والمخابرات، كما أحال قائد جهاز المخابرات، الجنرال محمد مدين، المعروف بأنه صانع الرؤساء إلى التقاعد، ليتسلم الجناح الرئاسي زمام السلطة بالكامل، إلا أن الصراع الخفي بين جناح الرئاسة والقادة العسكريين المحالين للتقاعد، وحتى مع جزء من قيادة أركان الجيش، ما تزال تلقي بظلالها على المشهد السياسي الجزائري، في ظل مخاوف حقيقية من انفلات الأوضاع، مع فقدان الرئيس بوتفليقة، بسبب حالته الصحية، القدرة على أن يكون بالفعل صمام أمان البلاد من الانزلاقات المحتملة.
وقد أفضت الصورة التي نشرها مانويل فالس عن الرئيس، إلى حقيقة أن البلاد التي تعد 40 مليون نسمة، وتحتل المرتبة الأولى في أفريقيا من ناحية المساحة بعد انقسام السودان، تعيش أخطر مراحلها، ليس فقط بسبب الغموض المرعب الذي جسّدته تلك الصورة لرئيسٍ يمتلك صلاحياتٍ شبه مطلقة، في أعقاب تعديل الدستور، من دون أن يتأكد أحد إن كان هو من يحكم، أم هناك من يحكم باسمه، بدليل رفض قبول طلب مجموعة الشخصيات الـ19 لقاء الرئيس لمعرفة مدى قدرته على الحكم (حيث يقتصر نشاط الرئيس على استقبال بروتوكولي للوفود الأجنبية)، وإنما إلى مخاطر الانقسام التي تتهدّد الجزائر، خصوصاً بعد تنامي خطر الحركة الانفصالية القبائلية بزعامة فرحات مهني، وتمزيق بعض أنصاره العلم الجزائري في ذكرى ما يسمى الربيع البربري في 20 أبريل/ نيسان الجاري، وكذلك انتشار الفساد في البلاد بشكل كارثي، تعطلت معه آليات العدالة على مجاراة ما يحدث، قبل أن يصدم الرأي العام الجزائري بعودة وزير الطاقة السابق، شكيب خليل، عودة الفاتحين من أميركا، وهو الذي كان على رأس أكبر فضيحة فساد ضربت شركة النفط الجزائرية “سوناطراك”.
لا يتجسد الغموض الكبير الذي يكتنف مستقبل الجزائر فقط مع التعطيل الفني لآليات عمل الدستور، عبر جعل المادة 88 منه، والتي تقضي بإبعاد الرئيس حال ثبوت عجزه عن أداء وظائفه الدستورية، من خلال وضع “رجال الرئيس” في كل المناصب الحساسة للدولة، ومنها المجلس الدستوري نفسه، بل إنه يتجاوز إلى حدود ما بات يُتداول حالياً في الكواليس من أن عمليات تلميع شكيب خليل، بالاستعانة بالإعلام الموالي و”الزوايا” التي تمثل الطرق الصوفية (على غرار ما فعل بوتفليقة في بداية عهدته الأولى، وكذا ما فعله زعماء عرب آخرون أمثال عبد الفتاح السيسي في مصر)، تشير، كما أكد ذلك حسين مالطي نائب رئيس شركة سوناطراك للنفط سابقاً في قناة تلفزيونية فرنسية، أن أميركا قرّرت تنصيب شكيب خليل رئيساً للجزائر، لقاء خدماته الجليلة لأميركا (رفع كميات النفط الجزائري المصدرة لأميركا عندما تولى حقيبة الطاقة من 50 ألف طن سنوياً سنة 2000 إلى 22 مليون طن سنوياً سنة 2008).
يبدو أن مثل هذا السيناريو الكارثي يطرح بديلاً عن سيناريو توريث الحكم لشقيق الرئيس، كون فكرة التوريث في الجزائر غير مقبولة مطلقاً، أو بديلاً عن سيناريو حدوث انقلاب، على غرار ما حصل مع الزعيم التونسي السابق، الحبيب بورقيبة، بعد عجزه عن أداء مهامه الدستورية. وفي كل الأحوال، سيبقى صدى سؤال الراحل محمد بوضياف مستمراً من قاعة الثقافة في عنابة إلى قصر المرادية مرورا بجبال الأوراس، مع احتفاظنا ببعض الأمل، لعل وعسى لا تتحقّق نبوءة رئيس الحكومة الأسبق، سيد أحمد غزالي، والذي أعلن، صراحة، قبل أيام أن الجزائر باختصار ذاهبة إلى الهاوية.
كاتب وإعلامي جزائري /”العربي الجديد”