تكاد تصبح الاضطرابات الاجتماعية في تونس حالة مزمنة لا يخلو منها المشهد العام. وهي بمثابة عقارب الساعة تتوقف في مدينة ما حتى تتأجج بعد فترة وجيزة في مدينة أخرى، مما جعل البعض يصف تونس بأنها قد تحولت إلى بلد الاحتجاجات في العالم. وآخر نسخة من ذلك المواجهات التي اندلعت منذ أيام بجزيرة “قرقنة”.
تعتبر هذه الجزيرة الجاثمة على البحر بالقرب من ولاية صفاقس ثاني أكبر ولاية تونسية بعد العاصمة، من بين المواقع الهادئة والجميلة، وهي تذكر التونسيين والعالم بأحد أبنائها فرحات حشاد، الذي أسس الاتحاد العام التونسي للشغل أهم المنظمات النقابية في إفريقيا، والذي لم تستطع أن تتحمله السلطات الفرنسية الاستعمارية طويلا مما جعلها تعجل باغتياله في صبيحة 5 ديسمبر 1952. وعندما انتشر خبر اغتياله اهتز الشعب التونسي بأكمله معلنا بداية ثورة مسلحة وسياسية للمطالبة باستقلاله، ولم يبق التونسيون لوحدهم في تلك المواجهة وإنما نزلت الجماهير أيضا في كل من المغرب والجزائر وفي كثير من الدول العربية للتنديد بتلك الجريمة التي كلفت فرنسا الكثير، وجعلتها تقبل في فترة وجيزة بأن تنهي وصايتها على هذا البلد الصغير جغرافيا والكبير من حيث أهميته الاستراتيجية.
لم ينقطع عطاء الجزيرة التي أنجبت أيضا شخصية نقابية كان لها أثر عميق في التطورات التي شهدتها الساحة الاجتماعية والسياسية بعد الاستقلال ووصولا إلى بداية حكم الجنرال بن علي. فهذا الرجل هو الحبيب عاشور الذي لم يتعلم كثيرا بالمدارس، وكان من تلاميذ حشاد، ودافع باستماتة على الزعيم الحبيب بورقيبة ضد غريمه ومنافسه صالح بن يوسف الذي تم اغتياله بألمانيا وذهب ضحية ذلك الصراع الدامي. هذا الصراع الذي لو استمر قليلا ، خاصة بعد أن انحازت فرنسا لصالح بورقيبة وقام عبد الناصر في المقابل بتوفير الغطاء السياسي لبن يوسف، لأكلت تلك الحرب الأهلية الأخضر واليابس، ولتم القضاء على حلم التونسيين في إقامة دولتهم المستقلة.
إقرأ أيضا: تصاعد الحراك الاحتجاجي يهدد بجر تونس نحو منزلق خطير
لكن تحالف الحبيب عاشور مع الرئيس بورقيبة لم يستمر إلى النهاية، وإنما بلغت الأزمة الاجتماعية والسياسية ذروتها عندما قرر عاشور بصفته رئيس الاتحاد العام التونسي للشغل فك ارتباطه وارتباط المنظمة النقابية بالحزب الدستوري الحاكم، وهو ما أدى إلى أحداث 26 جانفي 1978 الشهيرة التي سقط خلالها عدد كبير من الضحايا، وخلفت وراءها نتائج سياسية كبرى من أهمها: توجيه ضربة قوية للحركة النقابية، وثانيا تعميق الانقسام داخل النظام السياسي الذي بدأ يومها يترنح بعد احتدام الصراع بين أجنحته من أجل الخلاف، وثالثا صعود المعارضة واتساع رقعة المطالبة بالديمقراطية، وأخيرا فقدان الرئيس بورقيبة شرعيته المعنوية حين تأكد الجميع بأن الرجل أصبح يعيش بعيدا عن تحديات الحاضر ودخل بالكامل في عالمه المغلق، وأصبح لعبة بيد بعض أفراد أسرته وأصحاب المصالح إلى أن جاء الجنرال بن علي فوجده جثة سياسية فقام بإزاحته عن السلطة ليتولى هو رئاسة البلاد، وبذلك دخلت تونس في دورة جديدة من الحكم الفردي.
عادت الذاكرة بالكثيرين إلى تلك الأحداث والأجواء وهم يتابعون بكثير من القلق المواجهات التي شهدتها جزيرة قرقنة، والتي أسفرت عن سقوط جرحى، إلى جانب حرق بعض المقرات والسيارات الأمنية وإلقاء واحدة من هذه السيارات في البحر. وبما أن الذين شاركوا في هذه الأحداث هم جميع مواطني الجزيرة، فقد رأت الحكومة أن الحل يكون بانسحاب قوات الأمن من المنطقة وتولي الجيش الذي يحظى بثقة عموم التونسيين، مسؤولية إدارتها.
حقيقة، يعيش سكان الجزيرة ظروفا اقتصادية صعبة ومزرية. وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن الصيد البحري يشكل العمود الفقري لهذه المنطقة، ومع ذلك يعاني الصيادون من ظروف بائسة أصبحت تهدد مصدر عيشهم، وقد سبق لهم أن قاموا في عهد حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة بتجميع مراكبهم، وقرروا التوجه عن طريق البحر نحو الحدود الإيطالية لطلب اللجوء السياسي. وكانت تلك رسالة قوية معنوية وجهت للسلطة القائمة يومها. وهي نفس الحركة التي قام بها مواطنون آخرون عندما أخذوا أسرهم وتوجهوا نحو السلطات الجزائرية للمطالبة بضمهم إلى الشعب الجزائري.
تشعر الحكومة بكثير من العجز عن الاستجابة بالسرعة وبالنجاعة المطلوبتين لمطالب سكان ” الجزيرة “. وهي لا تفعل ذلك عمدا، ولكن يدها قصيرة وإمكاناتها محدودة. فالأزمة الاقتصادية التي لا تزال تخنق البلاد التونسية، وتهدد مستقبلها بمزيد من الصعوبات، يبدو أنها قد بلغت درجة عالية من الحدة، خاصة وان الدعم الخارجي لا يأتي إلا مجزئا وفي أحيان كثيرة مقيدا بشروط قاسية لا يستطيع التونسيون أن يتحملوها كثيرا. وقد كان وزير المالية الحالي صريحا عندما قال بأنه قد يجد صعوبة خلال الأشهر القادمة لتوفير أجور الموظفين والعمال بالقطاع العام.
هناك مشكلات حقيقة مرتبطة بعوامل داخلية يتحمل مسؤوليتها التونسيون، لكن من المؤكد أن هناك أطراف إقليمية ودولية لا تزال تصر على إجهاض تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، ولهذا هناك وعود لكنها تبدو شبيهة بتلك الصور الخيالية التي تنتاب الظمآن في صحراء ممتدة فيضنها ماء عذبا.
كاتب صحفي/”عربي21″