في الأشهر الأخيرة بدأت الدبلوماسية التونسية تتحرك في اتجاه سياسة عربية يبدو أن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي رسم معالمها بدقة. فالمعلوم أن السياسة الخارجية في تونس هي من صلاحيات رئيس الجمهورية، بحسب تقسيم السلطات الذي تضمنه الدستور التونسي الجديد.
وللتذكير فقط فإن من أكبر المآخذ التي كان يعيبها الرئيس السبسي على سلفه الرئيس المؤقت السابق منصف المرزوقي لما كان في الحكم هو انحيازه الواضح لحلف بعينه وإدخال تونس في لعبة المحاور.
كما لا يمكن أن نخوض في هذا الموضوع دون التوقف عند التحوير الوزاري الأخير والذي مس ثلاث وزارات سيادة هي الخارجية والداخلية والعدل من جملة أربع. والتغيير الذي كان أكثر إثارة تعلق بوزارة الخارجية حيث أقيل الطيب البكوش الأمين العام السابق لحزب الرئيس نداء تونس ورفيقه في تأسيسه ووزير التربية معه في الحكومة الانتقالية التي تولت في 2011 قبل الانتخابات التأسيسية.
وهذا التغيير على رأس الدبلوماسية التونسية لم يكن لافتا فقط بسبب اسم الوزير المغادر، بل أيضا بسبب اسم الوزير القادم خميس الجهيناوي المدير السابق لمكتب تونس في تل أبيب في زمن الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. الجهيناوي كان المستشار الخاص للسبسي قبل أن يتولى حقيبة الخارجية خلفا للبكوش منذ شهرين. ولم يمر تعيين الجهيناوي بسلاسة إذ أثار ضجة سياسية وإعلامية كبيرة في تونس، حيث فهم الرأي العام أن في اختياره رسالة وتوجها بعينه نحو التطبيع مع إسرائيل مع ما يستوجبه ذلك من سياسات وخيارات.
أدى الرئيس السبسي زيارات عربية إلى كل من مصر والأردن والبحرين والكويت والسعودية. وفي زيارته إلى مصر كانت المواقف المعلنة موحدة في ما يتعلق بمقاومة الإرهاب وبخيار الحل السياسي في كل من سوريا وليبيا، دون إيضاحات عن طبيعة هذا الحل السياسي أو عن الجهات السياسية التي ستدعمها كل من تونس ومصر في كلا الملفين. ولم تكن مواقف الدولتين خلال زيارة السبسي إلى مصر بالوضوح الكافي خاصة في علاقة بليبيا الجارة التي تتوسط تونس ومصر. فلم يكن هناك حديث عن أي تنسيق سياسي مع أي جهة ليبية ولا حديث عن أي خطوة مستقبلية محتملة. وهو ما يعتبر نقصا فادحا في التعاطي السلبي مع ملف بهذه الخطورة. وربما يكمن السبب في عدم وضوح الرؤية وعدم امتلاك المفاتيح الرئيسية والافتقار إلى عوامل التأثير الكافي في مجريات الملف الليبي.
وسكت الموقف الرسمي المصري التونسي خلال تلك الزيارة عن الحديث الدائر حول إمكانيات التدخل العسكري في ليبيا التي تتحدث عنها دول غربية بعينها. ولم يكن هناك موقف صريح منها. وهو ما يفسر أنّ هناك تدرجا في المواقف بمعنى ترك الباب مواربا أمام كل الاحتمالات. وهذا ما نفهمه من حديث وزير الخارجية التونسي خميس الجهيناوي الذي قال مؤخرا إن تونس لن تقبل أي تدخل عسكري في ليبيا إلا في إطار الشرعية الدولية. ولكن الجهيناوي لم يستذكر هذه الشرعية الدولية في الضربة الجوية الأميركية على صبراطة مؤخرا والتي ذكر البيت الأبيض أنها كانت موجهة لحماية تونس من هجمات إرهابية.
في أكتوبر الماضي زار السبسي الأردن بعد نصف قرن عن زيارة الحبيب بورقيبة لهذه الدولة. وكان الحديث المعلن عن غايات الزيارة هو الملف الليبي لا سيما أن الزيارة جاءت عقب زيارة السبسي للقاهرة. ولكن مما سكتت عنه الأخبار الرسمية هو مناقشة التنسيق العسكري في مواجهة الإرهاب. وهو ما تم الإعلان عنه لاحقا حيث أعلنت السعودية عن إنشاء التحالف العسكري الإسلامي لمحاربة الإرهاب بقيادتها. وسارعت تونس والأردن بالانضمام إليه.
كما أن تونس تقدر أن الأردن دولة محورية في الحرب على الإرهاب وتمتلك قاعدة بيانات عن الإرهابيين التونسيين الذين يقاتلون في سوريا. ولذلك تحاول الدبلوماسية التونسية مساعدة الأجهزة الأمنية والعسكرية لوجستيا في كشف هويات الإرهابيين العائدين وتفكيك شبكات علاقاتهم الداخلية لا سيما في مستوى الاستقطاب والتجنيد.
في السياق نفسه أصدرت تونس بيان مساندة للسعودية عقب تعرض سفارتها في طهران للاقتحام من قبل محتجين على خلفية إعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر. وتحدث الرئيس السبسي من الرياض معلنا مساندة تونس المبدئية للسعودية ضدّ إيران.
إقرأ أيضا: كيف وجه السبسي دفة الدبلوماسية التونسية نحو الرياض؟
ولكن ما بقي في أذهان التونسيين من زيارة رئيس الجمهورية إلى بلدان الخليج العربي الثلاثة البحرين والكويت والسعودية، هو فقط خطابه العدواني الموجه إلى الداخل الذي اتهم فيه اليسار التونسي بالتطرف واعتبره مساويا للتطرف الإسلامي السلفي.
تعود السياسة الخارجية لتتحرك في الاتجاه العربي مرة أخرى مؤخرا حيث استضافت تونس يومي 2 و3 مارس 2016 الاجتماع الثالث والثلاثين لمجلس وزراء الداخلية العرب. وكان السبسي قد افتتح الاجتماع بكلمة تحدّث فيها عن أولوية مقاومة الإرهاب وعن الخطر الذي تستشعره تونس من الجارة ليبيا، وعن الأمن الاقتصادي والأمن السياسي. وتحدث السبسي عن القضية الفلسطينية وعن حل الدولتين. ولم يشر في كلمته إلى أي منظمة إرهابية غير تنظيم داعش.
ومن أخطر القرارات الصادرة عن هذا الاجتماع كان تصنيف حزب الله اللبناني منظمة إرهابية سويعات بعد إعلان مجلس التعاون الخليجي حزب الله إرهابيا. والسؤال هو هل كانت تونس على علم مسبق بهذا القرار؟ وهل حديث السبسي عن القضية الفلسطينية وحل الدولتين يأتي تمهيدا للقرار بمعنى أنه رسالة ضمنية مفادها أن الحل الأول والأخير للقضية الفلسطينية هو حل سياسي لا عسكري، بما ينفي أي مساهمة للمقاومة في استعادة الأرض السليبة؟
في مناقشة الدبلوماسية التونسية دائما؛ لماذا لم تتحرك الجهود في اتجاه تصنيف إسرائيل دولة إرهابية؟ لماذا ترفض الأغلبية النيابية المتكونة من حزب الرئيس السبسي ومن شريكه حركة النهضة مشروع قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ إلى أين تسير الدبلوماسية التونسية؟ أليس في اتجاه لعبة المحاور مجددا ورهن القرار الوطني؟
كاتب ومحلل سياسي تونسي/”العرب”