تعرف إسپانيا في الظروف الحالية،حراكا سياسيامثيرا،لا يخلو من التصعيد اللفظي ومن تبادل الاتهامات بين الفاعلين الحزبيين؛ لكنه لا يختلف في ذات الوقت، وفي الجوهر، عن ما تعيشه الديموقراطيات الغربية الحديثة، من اوضاع متشابهة، تتم معالجتها بحوار متعدد الاشكال، يتكامل فيه السري بالعلني، وحيث يحرص كل المتدخلين والمشاركين فيه على التقيد بما تفرضه اخلاق السياسة وأعراف الحوار وتوازن القوى.
صحيح ان الاصوات قد تخرج احيانا عن طوق المنسوب المعتاد، تبعا لطبيعة القضايا المثارة المعروضة للنقاش الوطني وكونها تتعلق بمستقبل البلاد وترسم المسارالذي يجب ان تتبعه خلال المرحلة السياسية البديلة.
وتجني إسبانيا في الفترة الراهنة، الثمارالحلوة والمرة، لنظام الملكية البرلمانية الذي ارتضاه الملك السابق، خوان كارلوس، لبلاده بطواعية، ليدخلها الى العصر الذي اخرجها منه حكم الديكتاتور فرانكو.
ويلاحظ المتتبع للشأن الاسباني الراهن، ان تعبيرات الارادة الشعبية الخارجة من شرعية الصناديق، هي التي تتصارع وتتنازع فيما بينها. كل حزب، يدافع عن برامجه وتصوراته معتقدا أنها الحل الامثل لإنقاذ البلاد من أزماتها. صحيح ان بعض القوى السياسية، تنزع احيانا نحو تسفيه وتبخيس منطق الأخرى المنافسة لها، لكن احوال الطقس سرعان ما تعود الى طبيعتها ويحدث الانفراج ثم التراجع عن غلو، غالبا ما يعكس مزاج بعض الفاعلين واسلوب ادارتهم للصراع.
ومن الواضح ان خيار الملكية البرلمانية، كان رهانا صعبا بل بدا مستحيلا محفوفا بالمخاطر، في حينه، بالنظر الى تغول المؤسسة العسكرية المحافظة، المسنودة بالقوى المجتمعية التقليدية وفي مقدمتها المؤسسة الكنسية.
ويمكن القول ان الذي ردع القوى المحافظة وأوقفها عند حدها، ومنع بالتالي عليها تكرار المغامرة الفرانكوية؛ مجموعة عوامل وأسباب،بينها على سبيل المثال،الحكمة والنضج الذي اتسم بهما سلوك اليسار الاسباني بشقيه المعتدل (الحزب الاشتراكي العمالي) والشيوعي التقليدي وكذا النقابات القريبة منهما
تفهم الشيوعيون كل العراقيل التي وضعت في طريق الاعتراف بهم، على اعتبار ان حزبهم كان ممنوعا وبضراوة، في ظل حكم فرانكو.
ويعود الفضل في مرونة الحزب الشيوعي وصبره على المكروه، الى أمينه العام،، سانتياغو كارييو، والقادة الشيوعيين الذين عادوا من المنافي حيث تشبعوا بالفكر الديموقراطي، وعانوا من مرارة الاغتراب والخوف الدائم من الفتك بهم على يد عملاء فرانكو.
ولم يكن “الحزب الاشتراكي العمالي” بزعامة المحامي الاندلسي الشاب، فيليپي غونثالث، اقل حكمة وبعد نظر من “كارييو” فقد قاوم بدوره النزعات اليسارية العدمية في حزبه، وفي ذروة أزمة الحزب الداخلية، سلم، غونثالث، لرفاقه مفتاح الدار،مؤثرا الانسحاب والاعتكاف ريثما تنقشع الاجواء، الى ان تمكن بالاقناع ووضوح الخط، من اعادة فرض نهجه السياسي في مؤتمر صعب؛فتوحد الحزب من جديد تحت قيادته وحقق الانتصار التاريخي في الانتخابات التشريعية عام 1982 ظل بعدها غونثالث، سيد “قصر لا منكلوا” ما يقرب من 14 سنة، فتحققت في عهده التحولات الكبرى والاصلاحات التاريخية، واعاد البلاد الى الحضن الاوروبي وأدمج قواتها المسلحة ضمن منظومة الدفاع الغربية (الحلف الاطلسي) ووضع البلاد على سكة الحداثة.
وفي الجهة الاخرى اصطف الى جانب الملك، خوان كارلوس، ليبراليون ومعتدلون في القوات المسلحةوشخصيات مدنية وازنة كارهة للحرب الاهلية، امثال رئيس الوزراء الراحل” أدولفو سواريث” الذي قاد بسلاسة عملية الانتقال والتحول الديموقراطي.
وشملت روح الوئام والتوافق الوطني الذي عاشته إسبانيا خلال النصف الثاني من عقد سبعينيات القرن الىاضي ؛ اقليم كاتالونيا. هناك وجد العاهل الاسباني بين ساسييها من تجاوب معه وصدق نزوعه الديموقراطي، مثل الزعيم التاريخي، جوزف تراديياس، الذي لم يكن يخفي ميوله الجمهورية لكنه إيثارا للمصالح العليا للبلاد وحرصا على ترسيخ الديموقراطية، وقع على اوفاق “لا منكلوا” وشارك الاقليم في الاستفتاء على الدستور.
لقد توارى عن المشهد، أبطال وصناع الانتقال والوئام الوطني، وآباء الدستور الاسباني. اختفوا في معظمهم برضى منهم وفسحوا المجال للقوى الجديدة الصاعدة.
ربما، كان الزعيم الشاب،البرت ريڤيرا، رئيس حزب، ثيودادانوس، محقا حينما دعا في معرض الحملة الانتخابية الاخيرة، الى عدم التنكر لصانعي الانتقال، وإحياء روح الوفاق التي اشاعوها فانقذت البلاد من خطر عودة الفرانكوية بأزياء مدنية.
إقرأ أيضا: اشتراكي”باسكي” لرئاسة البرلمان الاسباني وسحب كثيفة في الأفق!!!
أقر الجميع في لحظة مفصلية بضرورة التغيير؛ أولهم الملك السابق، فتنازل عن العرش، لصالح ولي عهده الشاب، ترسخت القناعة بان الشعب الاسباني تطور وتشبع بالفكر الديموقراطي، وانفتح على العالم وصار متأثرا بما يجري خارج الحدود.
وعلى ذاك الاساس، تحس القوى الصاعدة الناضجة في المجتمع الاسياني إجمالا بحتمية “توافق جديد” غير بعيد عن روح المبادئ التي تأسس عليها الاول، مثلما توجد اخرى تعتقد ان ذلك عهد انتهى وبات من مخلفات التاريخ، وبالتالي فمن حقها صنع تاريخها الخاص
ويجسدالقوى الجديدة المنظمة، حزبان وافدان على الساحة، يقودهما شابان، هما البرت ريفيرا، وپابلو إيغليسياس. يختلفان في الطبع والمزاج والفكر السياسي. فبينما يعد الاول تجديدا واستمرارا للفكر الليبرالي، داعيا الى عدم القطيعة الكلية مع الموروث السياسي ؛لا يخلو فكر الجماعة التي يقودها، إيغليسياس، من نزوع نحو خليط من الشعبوية والفوضوية الرومانسية، بالنظر الى القوى التعددية المساندة له، وهي أشتات من اليسار المتطرف والشباب الناقم على الاوضاع، وكذا الفئات الشعبية المحبطة من سياسات اليسار،،،
ويبدو حزب، پوديموس، حتى الان، وكأنه معرقل للحلول المتداولة للازمة السياسية في البلاد. قد يكون ذلك مناورة منه، طمعا في مكاسب تمكنه من موقعة افضل في الحكومة او في المعارضة ؛ غير ان بعض خرجاته الاعلامية وتحالفاته السياسية غير الناضجة؛تثير المخاوف منه ومن ايديولوجيته الغامضة (يؤيد نظام ڤينيزويلا، ويناصر تنظيم استفتاء في اية جهة اسبانية تطمح لتقرير مصيرها) دون المواقف الشعبوية على الصعيد الاجتماعي التي تلاقي هوى في الشارع (التحريض على عدم اخلاء المساكن بسبب العجز عن تسديد واجبات الكراء،ومنع الكهرباء والماء عنها،، تغطية صحية مجانية،،،) تلك أسبقيات يطالب بالبت فيها من طرف البرلمان الجديد قبل مناقشة أزمة كاتالونيا!!
واذا استمر، پوديموس، في شطحاته اليسارية، ولم يطور أساليب المناورة، فإنه قد يجر البلاد نحو منزلق صعب.
صحيح انه لا يمثل قوة سياسية ضاربة، فهو وحلفاؤه المتطرفون، يتوفرون على 69، مقعدا في البرلمان من مجموع 350،لكنه رقم قادر على افساد اي تحالف حكومي بالنظر الى التباعد والتعارض الحاصل بين مواقف المكونات الحزبية الاخرى في البرلمان الاسباني، وخاصة بين الكتلتين الكبيرتين الاولى والثانية، اي المحافظين والاشتراكيين.
الصعوبات آتية من موقف أحزاب تحتاط وتتشكك في نوايا “پوديموس” وبالتالي، يستبعد اتفاقه مع الاشتراكيي لتشكيل حكومة تقدمية على غرار البرتغال. اذا حدثت المعجزة، فلن تستمر طويلا، والقياس على البرتغال ليس سليما؛ ما يعني ان الاسبان عائدون الى الصناديق على المدى المتوسط ان لم يكن الاقرب لن يمنع ذلك سوى قيام تحالف تاريخي عريض بين الاحزاب الثلاثة: الشعبي، الاشتراكي، وثيودادانوس، ولو لفترة محسوبة
حتى الان تدور عجلات السياسة في إسبانيا بهدوء وسلم. وكل فريق يمارس دوره دون ان يخرج سيفا من غمده يشهره في وجه الخصوم.
كم سيطول الانتظار والترقب الحذر؟ لا أحد يدري. إننا أمام ديموقراطية تقليدية تواجه مصاعب في مجتمع حيوي متجدد ؛ فلا بد ان يدفع الثمن!!!.