تحدّث الرئيس الأميركي باراك أوباما، عن «حال الاتحاد الأميركي» في العام الأخير من فترة حكمه الثانية بالبيت الأبيض الأميركي. وكان من حقّه طبعاً أن يتباهى بما حقّقته إدارته، في السنوات السبع الماضية، على المستوى الداخلي الأميركي، من إنجازات اقتصادية واجتماعية، بعدما شهدت الولايات المتحدة شبه انهيار اقتصادي عشيّة انتخاب أوباما في نهاية عام 2008.
ويتميّز خطاب أي رئيس أميركي عن «حال الاتحاد الأميركي»، مطلع كلّ عام، بأنّه خطاب حصاد إنجازات الرئاسة، إضافةً إلى الحديث عن الأجندة أو الاستراتيجية التي سيعتمدها الرئيس وإدارته، لفترة من الزمن، على الصعيدين الداخلي والخارجي. وهو خطاب ينتهي عادة بالتأكيد على «قوة الاتحاد الأميركي»، وعلى السعي لتعزيز هذه القوة.
وممّا يلفت الانتباه، أنّ الدستور الأميركي يمنع الحكومة الاتحادية المركزية من التدخّل في صلاحيات الولايات الخمسين التي يتألف منها «الاتحاد الأميركي»، لكن هذا الدستور، لا يمنع إطلاقاً الحكومة المركزية (الإدارة)، من التدخّل في شؤون الدول الأخرى.
إنّ «واشنطن»، كانت طيلة قرن من الزمن طرفاً مباشراً ومتدخّلاً في معظم القضايا والأزمات الدولية، وهي كانت في مطلع القرن الجديد الحالي، الصانع للأوضاع العربية الراهنة، فهي بعدما ألغت في عقد التسعينيات، مرجعية الأمم المتحدة للصراع العربي/الإسرائيلي، وجعلت من نفسها المرجعية والحَكَم، قامت واشنطن أيضاً في عام 2003، باحتلال العراق، وبتغيير مصيره الوطني والسياسي، تبعاً لذلك الاحتلال.
وكانت واشنطن أيضاً، منذ عقد من الزمن، وراء الاتفاق الذي أدّى إلى الاستفتاء على انفصال جنوب السودان عن شماله.
إقرأ أيضا: أوباما يدخل عالم “الفيسبوك” ويوجه رسالة لمتتبعيه
كما كانت واشنطن طرفاً مباشراً في ما حدث ويحدث في المنطقة العربية من حروبٍ إسرائيلية على لبنان والأراضي الفلسطينية، ومن تطورات سياسية وأمنية جذرية تحدث في عدّة بلدان عربية، منذ اندلاع الانتفاضات الشعبية في مطلع عام 2011، والتي أفرزت ما هو أولوية دولية الآن من حرب على الإرهاب، الذي هو «إسلامي» في الفضاء، و«عربي» على الأرض!
وقبل كلّ هذه القضايا الراهنة، كانت واشنطن عرّاب الاتفاقات والمعاهدات التي حصلت بين مصر والأردن ومنظمّة التحرير مع إسرائيل، والضامن لاستمرار الحكومات والظروف التي تدعم هذه المعاهدات، والضاغط على كل الأطراف العربية لفرض التطبيع مع إسرائيل، قبل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة، وقبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وقبل الحلّ العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين!
تُرى، هل يقبل حاكم أي ولاية أميركية بهذا المستوى من أنواع تدخّل «الحكومة الأميركية المركزية» في شؤون ولايته «الأميركية»؟!
هذا التدخّل الأميركي في شؤون البلدان العربية وقضاياها، هو بمعظمه تدخّل سلبي، جلب ويجلب ردود فعل سلبية على السياسة الأميركية ومصالحها في المنطقة، خاصّةً في ظل وجود وتأثير «اللوبي الإسرائيلي» على السياسات العامة الأميركية.
فما يحدث بالخفاء والعلن في المنطقة العربية، منذ مطلع هذا القرن، من تهيئة سياسية وأمنية لإعادة خلط كيانات المنطقة وفرزها من جديد، على أشكال مختلفة عمَّا هي عليه الآن نسبياً، هو أمرٌ معنيّةٌ به أولاً وأخيراً، الإدارات الأميركية المتلاحقة.
وهذا الخلط السياسي والأمني الحاصل بالمنطقة، يفسّر ما يحدث الآن فيها على جبهات عديدة، ومع جهات مختلفة. فمن فصل جنوب السودان عن شماله، إلى رسم مستقبل العراق وفق صيغ فيدرالية على أسس إثنية ومذهبية، مروراً بإثارة قضايا الأقليات الإثنية والتهجير الطائفي في العراق وسوريا..
وصولاً إلى انتشار ظاهرة استخدام العديد من الجماعات المسّلحة، الأسماء الدينية الإسلامية، في أسلوبها العنفي الإرهابي، بحيث لا يكون هناك وضوح وتمييز ما بين المقاومة المشروعة ضدّ الاحتلال، وبين الإرهاب المنبوذ، الذي يستبيح كلّ أسلوب إجرامي، ويؤدّي إلى مزيد من الفتن والصراعات الداخلية.
وقد تصاعدت منذ مطلع القرن الحالي، مع هذا الخلط السياسي والأمني في المنطقة، الطروحات الأميركية والغربية عموماً، عن المسألة الديمقراطية (وهي دعوة حق)، لكن بشكل يتزامن مع الدعوة لإقامة «تعدّدية الكيانات» في البلد الواحد، أي المطالبة بإقامة كيانات سياسية متعدّدة، لكن في إطار «صيغ فيدرالية» لها.
الفارق بين «الأمّة الأميركية»، مثلاً، و«الأمّة العربية»، هو أن توحيد الولايات الأميركية على أسس دستورية سليمة، جعل منها أمّةً واحدة، رغم عدم وجود العمق التاريخي لها، ولعناصر تكوين الأمم. فهل كانت أميركا قادرة على جعل القرن العشرين «قرناً أميركياً»..
وعلى التحوّل إلى القوة الأعظم في العالم، لو لم تكن الأمّة الأميركية أمّة موحدة، أو لو انتهت الحرب الأهلية الأميركية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بانفصال الولايات الجنوبية عن الولايات الشمالية؟!
إنَّ العرب يريدون لأمَّتهم ما أراده الأميركيون للأمَّة الأميركية، حينما تحرّروا من الهيمنة البريطانية، وما فعله الأوروبيون في قارّتهم المليئة بالصراعات الدموية التاريخية..
وبالتنوع الديني والإثني والثقافي. العرب يريدون لأمَّتهم تكاملاً بين أوطان الأمَّة الواحدة، وتطوير صيغ العمل العربي المشترك، وصولاً إلى النموذج الاتحادي الأوروبي، إنْ تعذَّر الوصول الآن إلى النموذج الفيدرالي الأميركي. العرب يريدون في أمَّتهم حقَّ رفض أيّة دعوات انفصالية أو تقسيمية في كلِّ بلد عربي، وتثبيت وحدة الكيانات ووحدة الأوطان ووحدة المواطنين.
* مدير مركز الحوار العربي في واشنطن/”البيان”