لم يمر حضور رئيس حركة النهضة، الشيخ راشد الغنوشي، في افتتاح مؤتمر حزب نداء تونس، بدون أن يخلّف جدلاً واسعاً، فعلى الرغم من أن هذا الحضور يعتبر عادياً، بحكم أن رؤساء الأحزاب والمنظمات عادة ما يستجيبون لدعوات تُوجّه إليهم في هذه المناسبات الرسمية أو الحزبية، إلا أن الأجواء التي تحف بمستقبل “نداء تونس” أضفت على مشاركة الغنوشي طابعاً استثنائياً.
وهناك مسألتان، لفتتا أنظار المراقبين، وأثارتا ردود فعل واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي. الأولى، الاستقبال الحار الذي حظي به رئيس حركة النهضة من قياديي حزب نداء تونس وقواعدهم. والأكثر إثارة الحفاوة الكبيرة به من النساء المشاركات، حيث حظي الشيخ بترحيب خاص من عضوات عديدات، لم يكتفين بمصافحته، وإنما أيضاً بأخذ كثيرات منهن صوراً معه، ما جعل بعضهم يعلّق بالقول إن “نساء السبسي سقطن في شباك الغنوشي”. وهذه المسألة ليست بسيطة، لأن السبسي مدين لمليون امرأة أوصلنه إلى رئاسة الجمهورية، ومنحنه ثقتهن، في رد فعل على حركة النهضة التي أثارت مخاوفهن في ممارستها السلطة. وهذا يعني أن الغنوشي نجح، في المرحلة الأخيرة، في أن يستعيد ثقة كثيرات منهن، بمن فيهن كوادر عليا ومتوسطة في حزب نداء تونس، العلماني والليبرالي، الأمر الذي دفع بأحد قادة الحزب إلى تقديم استقالته في اليوم نفسه.
إلى ذلك، احتوت كلمة الغنوشي، في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، على رسائل عديدة، ومن أهمها قوله إنّ تونس هي أشبه بالطائر الذي يحلّق في السماء بجناحين، هما حركة النهضة وحزب النداء. مؤكداً، بشكل خاص، على أنّ حزب نداء تونس “صنع توازناً في الحياة السياسية”، داعياً، في السياق نفسه، إلى ضرورة “التخلّص من المنزع الإقصائي والانتقام، لأنّ التوافق هو ما تحتاجه البلاد اليوم”. وهو بذلك يشيد بحزبٍ تأسس بهدف إطاحة حركة النهضة، ومحاربتها سياسياً، فإذا بالغنوشي يحييها، لكونها حققت التوازن السياسي في البلاد، وأصبحت شرطاً حتمياً لضمان الاستقرار وحماية الانتقال الديمقراطي من الانتكاس والفشل.
إقرأ أيضا: “النهضة” المستفيد الأكبر من استقالات “نداء تونس”
ما يجري في تونس، حالياً، غير مسبوق في تجارب عربية أخرى. كانت العادة، ولا تزال، أن تندلع حرب متواصلة بين الإسلاميين والعلمانيين، كلٌ يريد أن ينفي الآخر، ويعمل على استئصاله بكل الوسائل. أما في هذه البلاد، فإن الغنوشي يسعى جاهداً إلى المحافظة على قوة شق من العلمانيين، حتى يستمروا في السلطة، ولا يتركوا فراغاً خطيراً في البلاد. وعلى الرغم من أن كتلة حركة النهضة أصبحت الأولى في البرلمان، ما من شأنه أن يسمح لها دستورياً بتشكيل حكومة برئاستها، إلا أنها حافظت على مشاركة محتشمة في الطاقم الحكومي، وعملت على تعزيز صف الباجي قايد السبسي ونجله، ونجحت في أن تتخلص، بشكل غير مباشر، من الجناح اليساري وحلفائه المعادين لها داخل “نداء تونس” الذين التفوا حول محسن مرزوق، ويتهيأون لتأسيس حزب جديد. وهكذا، تكون “النهضة” قد حققت أكثر من مكسب، من دون أن تتدخل مباشرة في ملف كان معقداً وملغماً إلى حد كبير. وحتى يضع خصومه في تسلل، أكد الغنوشي، في مداخلته، على وجود تونسيين يريدون التخلص من تونسيين آخرين، في حين أنّ تونس في حاجة إلى أبنائها كافة، مضيفاً ”أنا سعيد بنداء موحّد قوي، ومتأكد بأنّ السبسي سعيد بنهضة موحّدة قوية أيضاً”.
في انتظار أن ينجز الجناح الموالي لمحسن مرزوق سبر الآراء الذي أعلن عنه بشأن حزبه الجديد، وهو الحزب الذي سيعزز دائرة خصوم حركة النهضة، سيواصل راشد الغنوشي خطته التي تهدف إلى بناء علاقات قوية مع القايد السبسي وأنصاره. قد يكون هذا الحل مؤقتاً، لكنه يكشف الحجم الكبير للبراغماتية في سياسات الأحزاب التونسية بعد الثورة.
* كاتب من تونس/”العربي الجديد”