من جديد يضيف النظام الجزائري أزمة أخرى إلى مركب الأزمات الكبرى المزمنة التي شلت، ولا تزال، تشل المشهد السياسي، وتتمثل في المحاولة التي يبذلها لفرض التقشف الذي سيعصف بالشرائح المتوسطة والفقيرة وحمايته قانونيا.
في هذا الإطار شرعت الحكومة الجزائرية هذا الأسبوع في تهيئة الرأي العام الجزائري نفسيا لكي تمرَر مشروع قانون المالية لعام 2016 الذي أعلن عنه وزير المالية عبد الرحمن بن خالفة وعرضه على المجلس الشعبي الوطني (البرلمان)، ورفضه بعض ممثلي أحزاب الموالاة، والأحزاب الإسلامية التي تعتبر تنفيذه ضربة قاصمة للأمن الاقتصادي والاجتماعي للشعب الجزائري.
وفي الواقع فإن هذا القانون يدخل في إطار مسلسل جهنمي يرمي إلى فرض الفقر المنهجي على شرائح الشعب الجزائري البسيط. وتفيد المصادر المقربة من وزارة المالية الجزائرية أن ارتفاع الأسعار سيكون سيف ديموقليس الذي سيسلط قريبا على رقاب المواطنين والمواطنات ويشمل الكهرباء والوقود والمواد الغذائية الأساسية وتسعيرة النقل العمومي والتابع للقطاع الخاص، والهاتف والملابس والإيجار وغيرها من مناحي الحياة.
إن المبرر الذي يعلل به النظام الجزائري توجهه هذا، لفرض التقشف، هو التدهور الدراماتيكي الذي تشهده أسعار النفط في الأسواق العالمية. وفي الواقع فإن هذه الحجة واهية لأنه لا يعقل، مثلا، أن ترفع أسعار البنزين في بلد يحتل المرتبة الخامسة عالميا في إنتاج هذا النوع من الوقود. والسؤال الذي يطرح هنا هو: إلى أين ذهبت أموال عائدات النفط والغاز المصدَر على مدى 16 سنة من حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة؟ ففي لقاءين مطولين جمعاني منذ مدة قصيرة بسيد أحمد علي غزالي الذي شغل سابقا مناصب وزير الطاقة والمدير العام لشركة سوناطراك ورئيس الوزراء، أكد لي أن عائدات النفط والغاز الجزائري طوال 16 سنة من حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قد تجاوزت 800 مليار دولار.
اقرأ أيضا: بوتفليقة يوصي بالطاقات البديلة..حل ترقيعي أم خيار استراتيجي متأخر؟
ثم أين ذهبت عائدات الفوسفاط والحديد وغيرها من المنتوجات الزراعية التي صُدّرت إلى الخارج بمبالغ تقدر بعشرات المليارات من الدولارات؟ إلى حد الآن لم تقدم الحكومة الجزائرية كشفا يبيّن بالأرقام كيف هدرت هذه الثروة الهائلة سواء أمام البرلمان أو مجلس الأمة أو أمام الرأي العام الشعبي.
وفي الحقيقة فإن الحقائق تؤكد أنه منذ وصول الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة إلى الحكم إلى يومنا هذا لم تحقق الجزائر أي تحول نوعي في مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعلى صعيد المنظومة التعليمية وقطاع السياحة وغيرها، ما عدا بعض الترقيعات التي شهدها قطاع الطرقات الذي صار مسرحا لاختلاس أجزاء كبيرة من الغلاف المالي المرصود له، كما أن جميع الطرقات التي أنجزت حتى الآن لا ينطبق عليها أي معيار إقليمي أو دولي بل إنها أصبحت مفككة وقيد الترميم الشكلي ذرأ للرماد في العيون، وهناك أيضا قطاع السكن الذي لا يزال يشكل أزمة محورية متفاقمة باستمرار، وأن ما تم بناؤه من سكنات هو مجرد “قبور” بشعة من الإسمنت، ولا تتوفر على أي هندسة جمالية تؤهلها أن تكون معالم حضارية بأي مقياس من المقاييس.
إن النظام الجزائري يلوَح من بعيد بأن دعم المواد الغذائية خط أحمر، أي أن هذا الدعم سيتواصل حسب زعمه، كما نجده يطمئن أن قطاعات التربية والتعليم العالي والصحة والسكن ستكون بمنأى عن برنامج التقشف، علما وأن قطاع التعليم، بكل مستوياته وتخصصاته، يعاني من تدهور مزمن حيث يطال التدهور المستوى العلمي والثقافي والأكاديمي للمعلمين والأساتذة أو الطلاب والطالبات بما في ذلك المستوى اللغوي الذي يتسم بالانحطاط المخيف.
وفي هذا الخصوص يجمع الخبراء والمراقبون الجزائريون أن المنظومة التعليمية الجزائرية في خطر حقيقي، وأن أبجديات البحث العلمي المنتج لا وجود لها في سلك التعليم العالي الجزائري، والدليل على ذلك هو أن الجامعات الجزائرية تحتل دائما ذيل قوائم الترتيب الأفريقي والعربي والعالمي معا، ويعود السبب في ذلك إلى كون الجامعة الجزائرية تسيّرها ذهنية متخلفة وعاجزة عن تحديثها وربطها بمختلف قطاعات التنمية الوطنية المصابة بالتكلس.
إلى جانب هذا فإن سياسات التعليم المهني تتميز بالفشل، الأمر الذي لعب دورا مفصليا في سيادة الجمود والخمول في جميع قطاعات التنمية بمختلف أنواعها، أما قطاع الصحة فحدث ولا حرج، إذ أن نزيف هجرة الكفاءات الطبية إلى الخارج في تفاقم متواصل حيث أن نسبة هائلة من الأطباء الجزائريين ذوي الاختصاص العلمي الجيد قد غادروا الوطن هروبا من المضايقات التي يتعرضون لها في أماكن عملهم وجرَاء عدم توفر المناخ المعنوي، والمردود المادي اللذين يشجعان على بقائهم في البلاد.
والأدهى والأمر هو أن المستشفيات الجزائرية التابعة للدولة تعاني من الاكتظاظ، ومن انعدام النظافة والتنظيم المحكم، فضلا عن التباطؤ في التعامل مع الحالات المستعجلة. أما المصحَات التابعة للقطاع الخاص فهي قليلة ولا وجود لها في الأرياف حيث يقيم أغلب سكان الوطن، وزيادة على ذلك فإن أثمان العلاج فيها خيالية لا تقدر على دفعها إلا الشرائح الغنية.
بسبب كل هذه الأوضاع المزرية فقد حذَر عدد من الخبراء الجزائريين من أن “استمرار الحكومة في الجمود وعلى عدم الإقدام على ردَ فعل قوي تجاه الوضعية الاقتصادية والاجتماعية سيؤدي إلى انفجار اجتماعي في سنوات قليلة”.
ولكن يبدو أن هؤلاء الخبراء لم يدركوا أن الانفجار الاجتماعي قد حصل فعلا وأصبح ينخر جسد المجتمع الجزائري، ويمكن لمسه في انتشار الجريمة بكل أشكالها بدءا من انتشار السرقة، والاحتيال والنصب، فضلا عن ظاهرة خطف الأطفال من طرف العصابات وابتزاز أهاليهم بدفع الأموال أو اللجوء إلى قتلهم. إن هذا الانفجار الاجتماعي الحاصل ليس ظاهرة منفصلة عن الانهيار السياسي الذي يمثل عرضه وعلته في آن واحد.
*كاتب جزائري/”العرب”