كيف يمكن للمرء أن يقرأ خبر استقالة 32 نائًبا برلمانًيا من الكتلة البرلمانية التي يملكها حزب «نداء تونس» الحاكم؟!
إن الحزب يملك 86 نائًبا في البرلمان٬ وهو ما يعطيه أغلبية حاكمة في مواجهة 67 نائًبا ينتمون إلى «حركة النهضة» الإسلامية٬ ولكن ما حدث بهذه الاستقالة الجماعية يعطي الحركة أغلبية لم تكن لها منذ أن بدأ الحزب يحكم بقيادة الباجي قائد السبسي!
والسؤال هو: ماذا يعني أن تنتقل الأغلبية البرلمانية من حزب «نداء تونس» الحاكم إلى «حركة النهضة» الإسلامية المعارضة؟! وهل يعني هذا أن تشكل الحركة حكومة جديدة تكون حكومتها وحدها؟! وكيف يمكن أن تكون الحكومة٬ عندئذ٬ هي حكومة حزب٬ ثم يكون الرئيس الذي يحكم من حزب آخر؟! ثم هل معنى هذا أيًضا أن ينتقل الحزب إلى مقاعد المعارضة٬ وأن تتبادل «النهضة» معه المقاعد؟!
أسئلة كثيرة تطرحها تلك الاستقالة الجماعية التي كانت لها مقدمات على مدى الأيام السابقة لها٬ غير أن أحًدا لم يكن يتوقع أن تأتي بهذه السرعة٬ ولا أن يكون المشاركون فيها بهذا العدد الذي أدى إلى حرج سياسي بالغ للحزب الحاكم٬ وإلى أن يفقد الحزب وضًعا مستقًرا كان يرتكن إليه.
اقرأ المزيد:«نداء تونس»..أو عندما تتفكك الأحزاب!
ولا بد أننا جميًعا نذكر كيف أن تونس قد تعرضت خلال هذا العام لضربتين استهدفتا استقرارها السياسي٬ واستقرار اقتصادها أيًضا٬ وكانت الأولى يوم الهجوم على متحف «باردو» في وسط العاصمة٬ وهو هجوم وقع في يوم احتفال الإخوة التوانسة بالعيد الوطني للبلاد.. يومها ضرب الإرهاب متحف «باردو» وأسقط قتلى ومصابين بين السياح الذين كانوا يزورون المبنى٬ وكان الهدف من وراء الهجوم أوضح من الشمس في حر أغسطس (آب)!
ثم لم يمِض وقت طويل حتى كانت تونس على موعد مع ضربة أقوى في منتجع سوسة السياحي يوم 9 رمضان الماضي٬ وكان الشيء الأشد وضوًحا في الضربة الثانية أن الذين خططوا لها هم أنفسهم الذين خططوا للضربة الأولى٬ وأنهم٬ فيما يبدو٬ قد رأوا أن الأولى لم تحقق ما يريدونه من إضرار بالسياحة٬ فوجهوا الثانية لعلها تعِّوض ما لم يتحقق من وراء هجوم المتحف!
في الحالتين.. حالة المتحف وحالة المنتجع٬ كنت أتساءل عن السبب الذي يجعل تونس٬ باقتصادها وسياحتها وناسها٬ هدًفا للإرهاب إلى هذا الحد.
وكان تساؤلي راجًعا إلى أنه إذا جاز نظرًيا أن يضرب الإرهاب أهدافا مماثلة في مصر٬ فإن الأمر نفسه لا يجوز في تونس إذا ما أخذنا المسألة من وجهة نظر الإسلاميين٬ الذين يؤيدون الإسلاميين أو يتعاطفون معهم.
لقد كان هناك دائًما منطق أعوج ومنحرف يقول بأن إشراك الإخوان بشكل خاص٬ والإسلاميين بوجه عام٬ في الحياة السياسية في القاهرة٬ يمكن أن يساعد في تجفيف منابع الإرهاب٬ وكان هذا كلاًما فارًغا٬ لأن الإخوان هم الذين أقصوا أنفسهم ابتداء قبل أن يقصيهم المصريون٬ ومعهم الإسلاميون بالإجمال.
أقصى الإخوان أنفسهم يوم غابوا عن الحضور في لقاء إعداد خريطة المستقبل يوم 3 يوليو (تموز) ٬2013 أي بعد الثورة عليهم بثلاثة أيام٬ فيومها كان حزب «الحرية والعدالة» الإخواني قد تلقى دعوة بالحضور٬ شأنه شأن أي حزب آخر٬ لكنه لم يحضر٬ واعتذر رئيسه سعد الكتاتني عن عدم الحضور!
ثم حدث أن أقصى المصريون مرشحي الإسلاميين جميًعا٬ سواء كانوا إخواًنا أو غير إخوان٬ في انتخابات البرلمان٬ التي سوفُتجرى مرحلتها الثانية الأحد المقبل.. أقصوهم ففازوا في مرحلتها الأولى بمقاعد لا يتجاوز عددها أصابع اليدين٬ في برلمان يصل عدد نوابه إلى 600 نائب٬ وكان الإقصاء٬ من جانب الناخبين٬ قاسًيا٬ إلى الدرجة التي أعلن معها قيادات في حزب «النور» السلفي أن الحزب يفكر في اعتزال العمل السياسي تماًما!
هذا كله لم يكن حاضًرا ولا موجوًدا في تونس٬ لأن «النهضة» موجودة هناك في البرلمان٬ وبقوة٬ وبالتالي فهي مشاركة في الحياة السياسية٬ بل وفي الحكومة ذاتها٬ فما إذن مبرر أن يضربها الإرهاب مرتين٬ ثم أن تضربها الاستقالة الجماعية سياسًيا في مرة ثالثة.. ما المبرر؟!
المبرر في نظري٬ أن هناك في داخل تونس٬ وخارجها أكثر٬ من لا يعجبه وجود «النهضة» في المعارضة.. لأنهم يريدونها في الحكم٬ ولا يرضون بغير الحكم بديلاً٬ وكأن إرادة الناخب٬ الذي لم يصوت لها٬ بلا أي قيمة! ولا يمكن فصل هذا كله عمن أرادوا منذ 2011 إلى الآن٬ فرض المشروع الإسلامي على المنطقة. إنهم لا يزالون٬ بلا خجل٬ يريدون٬ وكلما أعيتهم حيلة٬ لجأوا إلى غيرها.. فلننتبه في تونس٬ وفي غير تونس!
قد يتراجع المستقيلون عن استقالاتهم في آخر لحظة٬ غير أن تراجعهم لن يغّير من حقيقة ماُيراد بتونس في شيء٬ وإنما يغّيره فعلاً أن ينتبه التوانسة جيًدا٬ وأن يصطفوا خلف «نداء» تونس.. نداء تونس: الحزب والبلد مًعا!
*صحافي وكاتب مصري/”الشرق الأوسط”