حدث ما لم يكن منه «بد»، تفكك الحزب الحاكم بعد فترة قصيرة من وصول زعيمه الباجي قائد السبسي الى سُدة الرئاسة، وظهرت الى العلن الخلافات والاحقاد والتكتلات، ودائماً الصراع على وراثة الرئيس الذي بلغ من العمر عتياً، وراهن كثيرون من الذين انضموا الى الحزب طمعاً في منصب او رغبة في البروز السياسي او في «السطو» على ما تيسر من الاموال او المراتب والحضور السياسي، في وراثة السياسي المخضرم الذي لعب ادواراً مهمة وتقلد مناصب رفيعة – وإن مُتناقضة وصارخة – في تاريخ تونس ما بعد الاستقلال في كنف بورقيبة , ثم ما لبث – وهو سفير تونس في المانيا الغربية – ان ادار ظهره للزعيم مُعلناً (في حديث اذاعي) ان الحبيب بورقيبة رجل طاعن في السن (84) عاماً ولم يعد قادراً على القيام بمهامه وأن ازاحته – يضيف السبسي للاذاعة الالمانية –ووضع الوزير الأول (أي رئيس الوزراء) زين العابدين بن علي»مكانه».. هو الحل الأفضل لتونس.
هكذا اذاً… هي لعبة الدوران والانخراط في نظرية المؤامرة والتعاطي معها وفق معادلة «الرجل القوي» الذي يستطيع الإتيان بجماعته وجُلّهم بالطبع سيُؤتى بهم على «جثث» رجالات العهد البائد ومستقبلهم السياسي.. لم ينجح نظام او حزب او جماعة من سيناريوهات انقلابية كهذه، جاء بن علي وجَلَبَ «جماعته» ولم تكن الثورة التونسية استثناء، ولكن هذه المرة بمشاركة ونكهة «اسلاموية» شكّلها حزب حركة النهضة الذي كان زعيمه راشد الغنوشي اكثر «الاسلامويين الجدد» دهاءً وتقلُباً , او قل على نحو أدق خُبثاً وتقية اقرب الى الاستذكاء منها الى فعل أو فكر سياسي بمرجعية اسلامية تفهم وتتفهم طبيعة الشعب التونسي وتؤسس لمشهد سياسي جديد ومختلف، يطوي «بعض» صفحات عهد بورقيبة ويطمس على معظم إن لم نقل «كل» عهد بن علي الفاسد والمافيوي , ودائماً في الايمان بالمشاركة الحزبية والشعبية والتنافس الديمقراطي «الدائم» وليس المرحلي أو الانتقائي، الذي يُستخدم مرة واحدة من أجل الوصول الى الحكم (أقرب الى الاستيلاء) ثم التنكُّر لمبدأ لتداول السلطة والمُضي قدماً لـ»اسلمة» الدولة وأخوَنة مؤسسات السلطة وتحويلها الى «مزرعة» للقادة والكوادر وباقي خلايا ومنظمات الاخوان, في انقلاب واضح على الثورة ولكن مغطّى برداء «ديمقراطي» مزيّف.
اقرأ المزيد:انشقاق حزب “نداء تونس” يدخل البلاد في مأزق سياسي
ما علينا..
قد تكون خبرة السياسي الكبير والمخضرم , الذي عاصر كل «عهود» تونس منذ ستة عقود (1956) هي التي انضجت فكرة التنظيم الحزبي المُهلهل (كما قيل وكما ثبت لاحقاً) والذي برز في الفضاء السياسي التونسي تحت اسم «نداء تونس», الا ان صراع الورثة, وبخاصة من قبل نجل الرئيس حافظ قايد السبسي, في مقابل الذين يرفضون محاولة الاستئثار بالحزب والاستفادة من وجود «الوالد» لفرض قراءاته السياسية والتنظيمية على الحزب الذي لم يشتد عودة بعد, وكان من المُرجح انفلاشه او اندثاره او انقسامه, لو حان اجل رئيس الحزب فجأة.
نقول: هذا الصراع الذي لم يعد بمقدور اطرافه اخفاءه, شكّل فرصة أمام خصوم الحزب وخصوصاً في الدوائر المتصارعة داخله لاعلان تفكك الحزب وانتهاء «وحدته» المُفتعلة, بعد أن لم يعد أحد يُخفي شراسة المعركة وطابع تصفية الحسابات بين اركانه ومعسكراته, وكانت ضربة «إسقاط « غالبية كتلة الحزب البرلمانية التي ما تزال «مُخلصة» لحافظ قايد السبسي الى المرتبة الثانية بعد كتلة حزب النهضة,…»ضربة» ذات دوي واصداء ما تزال تتردد في الفضاء السياسي التونسي وامتداداته الاقليمية , لأن ما حدث ويحدث في تونس بات يُشكل «بوصلة» اتجاهات الاحداث في المنطقة العربية وبخاصة في ما خصّ العلاقة مع حركات الاسلام السياسي.
والحال فإنه وبصرف النظر عن العنوان الذي تخفّى خلفه نجل رئيس الحزب ورغبته في اعادة «هيكلة» الحزب وهو ما اثار غضب واحتجاج منافسيه ودفعهم للاستقالة من كتلة الحزب البرلمانية (32 نائباً) , فإن مصير نداء تونس في حيثياته ومعطيات الصراع واشكاله, يشي بان «الداء الحزبي العُضال» المعروف بغياب الديمقراطية وسيادة مفهوم «الدكان» او المزرعة الشخصية أو العائلية المُتخفية تحت رداء حزبي شديد الاهتراء لم تنج و»لن» تنجو منه كثير من الاحزاب العربية التي آمن مؤسسوها أو مَن تسلّقوا ظهورورقاب «رفاقهم» كي يصلوا الى المواقع الاولى, بأنها «مطوّبة» عليهم الى ان يختارهم الله الى جواره, وهو ما زاد من تكلّسها ورجعية خطابها وغياب مبدأ المساءلة والمحاسبة وخصوصاً النقد الذاتي وانعقاد المؤتمرات العامة الدورية وتجديد دستور الحزب او ميثاقه ليتناسب مع المستجدات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحلية بامتداداتها الدولية..
«المُفرِح» في كل ما جرى في تونس – حتى الان – هو ان «المنشقّين» عن الحزب الحاكم , لن يسمحوا لحزب حركة النهضة بأن يتقدم باقتراح لسحب الثقة من الحكومة الحالية , رغم انه مُشارك فيها طمعاً في نيل اغلبيتها في أي ائتلاف حكومي جديد, وهذا في حد ذاته نضج سياسي وفهم متقدم لأولويات الصراع السياسي ومبادئه الناظمة.
*كاتب صحفي/”الرأي”