بقلم: محمد سليمان*
بعد أن أخذت الأمور فى مصر اتجاهًا أكثر درامتيكية، بتولى محمد مرسى حكم مصر، وانزلاق البلاد نحو احتراب سياسى واجتماعى بين جميع الأطراف، وانتهت الأمور فى مصر بتدخل وزير الدفاع لعزل مرسى من منصبه، وهو ما أعقبه إخراج كامل لليمين الدينى «الإخوان المسلمين وحزبها، الجماعة الإسلامية وحزبها، الأحزاب السلفية الصغيرة، وآخرين» من المعادلة السياسية، تحت دواعى العنف والإرهاب. تلك الأمور التى أدت إلى نوع من الحصار الدبلوماسى والسياسى لمصر لفترات طويلة، ولولا الدعم الخليجى القوى، لتحول الحصار إلى عزلة تامة لمصر، والوضع الاقتصادى لم يكن فى أفضل حال من نظيره السياسى فى ظل ارتفاع حجم الدين الداخلى والخارجى وانخفاض مخصصات الإنفاق الحكومى.
على بُعد ألفى كيلومتر من القاهرة، تقع تونس العاصمة، والتى شهدت استنفارا سياسيا فى أوساط الأحزاب السياسية العلمانية والبورقيبية، للإطاحة بالرئيس الأسبق منصف المرزوقى المدعوم من إخوان تونس وحكومتهم برئاسة الوزير الأول ورئيس المكتب التنفيذى للحركة «على العريض». وذلك فى أعقاب عدة اغتيالات سياسية شملت قيادات فى الجبهة الشعبية المعارضة لحكم حركة النهضة فى تونس، وهما السياسى اليسارى الشهير شكرى بلعيد والنائب الناصري محمد البراهمى، والذى دعم حراك 3 يوليو فى مصر ضد حكم الإخوان ومحمد مرسى، ودعا إلى مظاهرات لإسقاط إخوان التونس «حركة النهضة». ذلك الحراك الذى تمثل فى حصار المجلس التأسيسى التونسى والمطالبة باستقالة أعضائه، ومطالبة الرئيس منصف المرزوقى بالاستقالة، وتصاعدت الأمور إلى حد مطالبة الجيش التونسى بالتدخل لحل الأزمة السياسية.
فى تلك المرحلة الحرجة من تاريخ تونس، يظهر الفرق الأهم بين تونس ومصر أو باقى الدول العربية بوجه عام. تونس لديها مجتمع مدنى قوى تمتد أوصاله من تونس العاصمة إلى سيدى بوزيد وصفاقس. هنا جاء دور رباعى الحوار التونسى، وهم: الاتحاد العام التونسى للشغل، والاتحاد التونسى للصناعة والتجارة، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين. ذلك الرباعى الذى يمثل المجتمع التونسى من عمال وأصحاب عمل ومحامين ومدافعين عن حقوق الإنسان، خاض حركة ضغط واسعة على الأطراف السياسية المتنازعة داخل تونس، من أجل اللجوء إلى طاولة الحوار.
للمزيد: كيف يمكن للباجي التميز عن بورقيبة وبن علي
أنتج مجهود رباعى الحوار التونسى اتفاقا جادا بين الأحزاب التونسية الفاعلة على الساحة المقدرة بواحد وعشرين حزبًا، على الالتزام بخارطة طريق جديدة تتيح تراجع «النهضة» عن سيطرتها على الحكومة والاعتماد على النخب التكنوقراطية كحل لتسيير الأمور، وضمان استقلالية هيئة الانتخابات وحيادتها عن الأطراف السياسية، والتوصل إلى قانون انتخابى متوافق عليه بين الجميع. ذلك الحوار أدى إلى النجاح فى عقد انتخابات تشريعية، حل فيها حزب نداء تونس بزعامة الباجى قائد السبسى فى المركز الأول، وتلته حركة النهضة بزعامة راشد الغنوشى، ثم خسارة الرئيس المرزوقى المدعوم من حركة النهضة أمام السبسى.
و لكن السبسى، الذى سبق له وعمل وزيرًا للداخلية والدفاع فى عهد الرئيس بورقيبة، شديد العداء للإسلاميين تاريخيا، كان من أهم المدافعين عن إشراك حركة النهضة فى الحكومة الجديدة، تجنبا لوجود النهضة كمعارض شرس فى الشارع، وهو ما قوبل بالرفض من أطراف كثيرة داخل حزب نداء تونس، وقبلت حركة النهضة المشاركة فى الحكومة الجديدة، وذلك نظرا إلى أنها تمر بظرف تاريخى، وهو تراجع شعبية التيار الإسلامى فى المنطقة فى ظل سقوط إخوان مصر وصعود نجم الدولة الإسلامية فى سوريا والعراق.
أما فى قاهرة المعز، فإن العجز الواضح فى المجتمع المصرى نابع من تراجع القدرات التعليمية والفكرية للمواطنين، وهو ما انعكس بدوره على المؤسسات العاملين بها. ذلك الوضع المخل أنتج لنا اتحاد عمال مصر الذى اهتمت قياداته بالتقرب من قيادات الأنظمة السياسية على حساب العمالأانفسهم، بل ووصل الحال إلى اتهام قيادات الاتحاد بالمشاركة فى موقعة الجمل الشهيرة بميدان التحرير، إلى جانب نقابة المحامين الغارقة فى الصراعات التنظيميى على مناصب النقابة وأموالها، والمؤسسات الحقوقية منعدمة التأثير والفاعلية.
للمزيد: هل تتحول حركة النهضة إلى حزب تونسي؟
الفارق نابع من مسيرة الزعيم التونسى التاريخى الحبيب بورقيبة، الرجل الدارس للقانون فى فرنسا، والذى قاوم سلطات الاحتلال الفرنسى مع قيادات الحزب الحر الدستورى. بورقيبة، تمكن من قيادة الجبهة القومية المكونة من حزبه الحر الدستورى والاتحاد العام التونسى للشغل، والاتحاد التونسى للصناعة والتجارة والاتحاد القومى للفلاحين، بالانتصار بكل مقاعد المجلس القومى التأسيسى «الهيئة التشريعية التونسية» وانتخب بورقيبة رئيسًا للمجلس، وقرر أن المجلس ينتزع سلطات تشكيل الحكومة من محمد الأمين بأى صاحب عرش تونس، يرأس بورقيبة رئاسة حكومة الاستقلال التونسية، ويعهد مع حلفائه من الاتحاد العام للشغل والاتحاد التونسى للصناعة والتجارة والاتحاد القومى للفلاحين، على صياغة دستور جديد للبلاد، ذلك الدستور الذى أقر بإلغاء الملكية فى تونس وإعلان الجمهورية.
وعندما استتب الأمر للحبيب بورقيبة حاكما للبلاد لمدة ثلاثين عاما، لم يعهد إلى تصفية الحياة الحزبية التونسية وهيئات المجتمع المدنى ذات الفاعلية والتأثير، نتيجة لإداركه مدى خطورة تجريف المجتمع سياسيا وتنظيميا، فى ظل فترة صعود تاريخى للعسكريين القوميين فى ليبيا والجزائر والعراق وسوريا، بما يهدده هو شخصيا بصعود عسكرى مدعوم إقليميًّا لسدة الحكم فى تونس.
فى عام 1957، فعلها الاتحاد العام للشغل والاتحاد التونسى للصناعة والتجارة بمشاركتهما فى صناعة تاريخ تونس بإعلان الاستقلال، وفى 2013 ساهما مع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين، بإنقاذ تونس من الانزلاق نحو الهاوية.
*كاتب مصري/جريدة “التحرير”