كيف يمكن للباجي التميز عن بورقيبة وبن علي

بعد أربع سنوات على “ثورة الياسمين” التي أطاحت بزين العابدين بن علي، دخلت تونس مرحلة التعافي والأمل، في الوقت ذاته بات في الإمكان الرهان على تونس في ضوء ما أظهره شعبها من رغبة في المقاومة والتصدي لأمرين؛ الأمر الأوّل منع الإخوان المسلمين من الاستيلاء على السلطة، مع ما يعنيه ذلك من تخلّف. أمّا الأمر الثاني والأخير فيتلخّص بالرغبة في الانتهاء إلى الأبد من نظام الحزب الواحد المهيمن على مقدرات البلد، كما كانت عليه الحال في عهدي الحبيب بورقيبة وبن علي.
من حسنات الباجي قائد السبسي الذي انتُخب عن طريق الاقتراع الشعبي المباشر في ظلّ منافسة حقيقية مع المنصف المرزوقي، أنّه في الثامنة والثمانين من العمر. وكان انتخابه رئيسا للجمهورية تتويجا لستين عاما أمضاها في الحياة السياسية.

سيسمح له ذلك بالتأسيس لعملية تداول للسلطة، بدل التفكير في كيفية الاحتفاظ بها إلى ما لا نهاية. يمكن للباجي، أو “سي الباجي” كما يسمّيه مواطنوه، التخلي عن السلطة قبل انتهاء ولايته بغية تأكيد أن البلد دخل مرحلة مختلفة. مثل هذه الخطوة، التي ينصحه بها شخص محترم ومخلص لتونس مثل بشير بن يحمد رئيس تحرير “جون أفريك”، ستدخله التاريخ.

هناك ثلاثة زعماء أفارقة أَقدموا في الماضي القريب على مثل هذه الخطوة التي تعكس شجاعة وجرأة ففتحوا آفاقا جديدة لبلدانهم. الثلاثة هم ليوبولد سنغور في السنغال، ويوليوس نيريري في تنزانيا، ونلسون مانديلا في جنوب أفريقيا. أكّد الثلاثة عبر التخلي عن السلطة بسبب التقدّم في السنّ، أن بلدانهم طوت صفحة الماضي من جهة، واعتمدت الديمقراطية من جهة أخرى. ففي أساس أيّ نظام ديمقراطي كان مبدأ التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، بعيدا عن الرغبة في البقاء في الرئاسة على مدى الحياة.

لاشكّ أنّ تقدّم الباجي قائد السبسي في السنّ يمكن أن يساعده في اتخاذ مثل هذا القرار في الوقت المناسب، أي بعد سنتين أو ثلاث سنوات أو أكثر. سيساعد ذلك في شرح السبب الوجيه الذي حمله على التمسّك بترشيح نفسه للرئاسة بعد فوز حزبه “نداء تونس” في الانتخابات التشريعية. سيكون في استطاعة الباجي عندئذ القول أنه أدى واجبه تجاه تونس عندما وضع القطار على السكّة الصحيحة. يكون بذلك قد ميّز نفسه عن بورقيبة وبن علي. فعلى الرغم من كل ما قدّمه لتونس، تبقى نقطة الضعف الرئيسية لدى “المجاهد الأكبر” تلك الرغبة الجامحة في أن يكون “رئيسا مدى الحياة”. قرر بورقيبة، أو وُجد من يقرّر عنه، السير في تعديل الدستور لمصلحة بقائه في الرئاسة، بدل الانسحاب في الوقت المناسب، وفتح الباب على مصراعيه أمام قيام نظام تعددي في بلد لا ينقصه السياسيون الذين يمتلكون برامج واضحة على علاقة بكلّ ما هو حضاري في هذا العالم.

أمّا بن علي الذي تدخّل في الوقت المناسب لإنقاذ تونس في العام 1987، فقد طابت له السلطة. قرّر احتكار كلّ السلطة منذ لحظة قلب بورقيبة، بدل العمل على تطوير النظام نحو الأفضل تفاديا لثورة شعبية توّجت بإزاحته في الرابع عشر من يناير 2011.

قدّم الباجي لتونس خدمات كبيرة؛ تصدّى لحركة “النهضة” ومنعها من احتكار السلطة وخطف الثورة، كما حاول أن يفعل الإخوان المسلمون في مصر واليمن. في الواقع، شكّل الرجل رمزا لتونس الرافضة للعودة إلى الخلف، حافظ على كلّ إيجابيات تركة بورقيبة، وذلك سيسمح له باستعادة هيبة الدولة، وتأكيد أن تونس دولة مؤسسات أوّلا.

في حال أن يتمكّن من إعادة بسط الأمن في كل المناطق التونسية، وفي حال تشكيل حكومة تضم كفاءات برئاسة الحبيب الصيد، سيكون هناك أمل حقيقي في عودة النمو إلى الاقتصاد التونسي الذي يحتاج أوّل ما يحتاج إلى استثمارات أجنبية. مثل هذه الاستثمارات ستعيد دون شك عجلة الاقتصاد إلى الدوران بشكل طبيعي، وستفسح في المجال أمام خلق فرص عمل أمام الشبّان خريجي الجامعات والمعاهد الفنّية.

هناك عوامل عدّة يمكن أن تساعد الباجي في إنجاح التجربة التي تمرّ بها تونس. فبعد أربع سنوات على مغادرة بن علي البلد، لم تحصل عملية تدمير مبرمجة لمؤسسات الدولة، على غرار ما سعى إليه الإخوان في مصر والإخوان والحوثيون (أنصار الله) في اليمن.

احترم بن علي رغبة التونسيين في التخلص منه ومن نظامه. رحل بهدوء بعدما أدرك، عكس بشّار الأسد، أن الدم لن يبقيه في السلطة، وأنّ العنف لا يمكن أن يجرّ سوى إلى مزيد من العنف. يمكن القول أنّ طريقة مغادرة بن علي لتونس ساعدت في المحافظة، قدر الإمكان، على مؤسسات الدولة. الأهمّ من ذلك، أن لا عقدة حاليا تجاه الاستعانة برجال خدموا في عهده ولم يتلوثوا بالفساد.

لا يمكن إلّا الاعتراف بأنّ الباجي قائد السبسي كان في مرحلة ما بعد “ثورة الياسمين” خط الدفاع الأوّل عن تونس وعن مبادئ الجمهورية التي أسّسها الحبيب بورقيبة. لا بدّ من الاعتراف أيضا بأنّ ما مكّنه من الصمود هو المجتمع التونسي الذي واجه قوى الظلام. فالمرأة التونسية لعبت دورها على أكمل وجه في المحافظة على المكاسب التي حقّقتها بفضل بورقيبة.

جاء الآن دور بناء الجمهورية الثانية. ثمّة مجال لدور “القائد المؤسس”. هل سيتمكن “سي الباجي” من لعب هذا الدور الذي سيكمل الجانب الإيجابي في تجربتي بورقيبة وبن علي اللذين حكما تونس ما مجموعه 65 عاما؟

الكثير سيعتمد على مدى اقتناعه بأنّ عليه العودة إلى منزله في لحظة ما، لحظة يكتشف فيها أنّه أدّى واجبه تجاه البلد، وأنّ لا شيء اسمه الرئاسة مدى الحياة. هل يساعده المحيطون به في اتخاذ مثل هذا القرار الجريء متى دعت الحاجة إليه؟ قد يحصل ذلك نظرا إلى أنّ خيارات الرئيس التونسي وقعت على رجال يمتلكون حدا أدنى من النضج السياسي. هؤلاء يعرفون أن ثمّة حاجة إلى تغيير حقيقي في العمق، وليس إلى مجرّد تذكير للتونسيين بأنّ حاجتهم الوحيدة إلى الأمن الذي افتقدوه بعد رحيل بن علي. ثمّة حاجة إلى الأمن والخبز ودولة المؤسسات والديمقراطية وفرص العمل التي تشكّل متنفسا للمواطن، لأنّها تشعره بأنّه يعيش في بلد يحترم الإنسان أوّلا وأخيرا…

*إعلامي لبناني/”العرب”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *