بقلم: صلاح الدين الجورشي*
عادت تونس لتحتل موقعاً متقدماً في المشهد الإعلامي والسياسي العالمي. فبعد حصول الرباعي الراعي للحوار في المرحلة السابقة على جائزة نوبل للسلام، توجهت الأنظار نحو هذا البلد الصغير في حجمه والكبير في رمزيته، فالجائزة تتجاوز بكثير هذه المنظمات التي ما كان لها أن تنجح في مهمتها، لولا وجود أطراف أخرى تحملت مسؤولياتها في ظرف صعب، وأعادت حساباتها في لحظات حاسمةٍ، كادت أن تختلط فيها الأوراق، وأن تدفع البلاد نحو المجهول. كنا يومها نقترب بخطى ثابتة نحو الكارثة، فمن جهةٍ، بدأت أصوات ترتفع من صفوف المعارضة تدعو، بكل جرأة، نحو إعادة إنتاج السيناريو المصري بمطالبة الجيش والشرطة بالانقلاب على حكومة الترويكا، على أمل إعادة ترتيب المشهد بإقصاء الإسلاميين، وإعادتهم إلى السجون والمنافي. وفي المقابل، بدأت المشاورات داخل الائتلاف الحاكم حول التفكير في دعوة الجيش والأجهزة الأمنية إلى اقتحام ساحة باردو، مكان اعتصام المعارضة، حتى لو سالت الدماء، واعتقال رموز المعارضة بتهمة الخيانة، ومن أجل حماية الشرعية.
للمزيد: نوبل تتوج التونسيين
كلما عادت بنا الذاكرة إلى تلك الأجواء الصاخبة التي مرت بها البلاد صيف 2013، يصاب المرء بالرعب، لأنه لو حصل ذلك السيناريو الرهيب، لكانت تونس اليوم محكومة بالعسكر، أو تنهشها حرب أهلية، لن تبقي ولن تذر. ومن هذه الزاوية، يمكن أن ندرك أهمية اللحظة التاريخية التي تمر البلاد اليوم، بعد الإعلان عن جائزة نوبل للسلام.
بطبيعة الحال، هناك الشاذ الذي لا يقاس عليه، فهناك من يعتقدون أن الجائزة جزء من المؤامرة الغربية، أو شكل من فرض الوصاية الدولية لحماية المصالح الأجنبية في البلاد. وهناك من يريد أن يضخم طرفاً على حساب باقي الأطراف. وهناك من عاد إلى التشكيك في مصداقية الهيئة التي تمنح جائزة نوبل. وهناك من انشغل بالبحث عن مصير حوالي 970 ألف دولار التي سيتسلمها ممثلو المنظمات الأربع في أوسلو. هذه حكايات صغيرة لا أهمية لها، مقارنة بالحدث الكبير والتاريخي. ذلك كله سيضيع ويتلاشى، ولن يبقى سوى أن تونس عادت من جديد ليقول لها العالم: أحسنت، واصلي طريقك نحو الحرية والديمقراطية والتوافق الوطني، لأنك جديرة بأن تكوني دولة غير محكومة بلغة العصا والجزرة.
أعادت الجائزة الكرة إلى مرمى المجتمع المدني والنخبة السياسية. هذه الأطراف مدعوة، مرة أخرى، إلى الانضباط والتوقف عن لغة التهديد والتصعيد والتهريج. هناك رأسمال وطني يجب المحافظة عليه، وحسن استثماره، ويستحق التواضع والتنازل والصبر والتضامن، من أجل إخراج البلاد من المخاطر الحقيقية التي تحدق بها من كل جانب. فالحرب بين النقابات ورجال الأعمال لابد أن تتوقف، وتستبدل بالتوقيع على عقد اجتماعي يلتزم فيه الطرفان بتقاسم الأعباء والمسؤوليات، مع احترام مبدأي الحقوق وإعادة الاعتبار لقيمة العمل التي دونها لن تكون هناك ثروة ولا تنمية.
كما آن الأوان لكي يتوقف، أيضاً، الصراع المفتوح داخل حزب نداء تونس. صراع مصالح بين أشخاصٍ، يعتقد كل فرد منهم أنه الأولى بالقيادة وبخلافة الباجي قايد السبسي في قصر قرطاج. إنها عبثية قاتلة، تهدد بنقل الأزمة إلى الحكومة التي إن سقطت، على الرغم من ضعفها، فإنها ستدخل البلاد في أزمة سياسية واقتصادية، شديدة التعقيد.
لم يعد مقبولا أن تستمر حالة التسيب في أغلب المجالات الحساسة، وعلى التونسيين أن يدركوا أن بلادهم يمكن أن تنتصر على الإرهاب وعلى الفقر والبطالة والفساد، بشرط أن يعدلوا من سلوكهم، وأن يحزموا أمرهم، وأن يضعوا حداً للوقت الضائع.
أما قادة الغرب الذين يكررون بأنهم متضامنون مع تونس، فعليهم أن يعجّلوا بتقديم مساعدات عاجلة ومهمة للتونسيين، لكي يتمكنوا من تصحيح مسارهم الاقتصادي. فهم يعلمون أن الديمقراطية لا تنجح إذا ما اقتصرت على تشجيع المواطنين على الاقتراع. الانتخابات وحدها لا تصنع ديمقراطية دائمة، و”نوبل” ليست وصفة سحرية للحد من الفقر والبطالة.
* كاتب من تونس /”العربي الجديد”