تهب على اسبانيا في الظروف الراهنة، رياح سياسية عاتية، منذرة بأشد الزوابع، سببها تداعيات ازمة اقليم كاتالونيا(شرق البلاد) حيث يتصارع، منذ وقت طويل، معسكران سياسيان متعارضان: أحدهما، بتلويناته وتياراته، يدافع عن استقلال الاقليم وانفصاله التام عن المملكة الاسبانية، لأسباب وذرائع تاريخية موغلة في التعقيد، يصعب الإحاطة بها في هذا الحيز الضيق؛ تمتزج فيها الدوافع الايديولوجية بالاسباب الثقافية والاثنية والتطلعات العرقية والهوياتية وأحقاد الماضي.
تلك “الخلطة” أضاف اليها اليسار المتطرف، على مدى العقود الماضية، البهارات الايديولجية واستطاع ان يقنع بطعمها فئات عريضة من المجتمع “الكاتالاني” مستعينا بشتى الاساليب والوسائل بما فيها تزييف الحقائق التاريخية وتأويلها التأويل المغرض، بغاية تأجيج نار الكراهية بين سكان الاقليم، ضد السلطة المركزية في مدريد، لدرجة تشبيهها بالقوة المستعمرة المحتلة! الناهبة لخيرات أغنى اقاليم اسبانيا واكبرها مساحة، وحيث الدخل الفردي مرتفع مقارنة مع الاقاليم الاخرى التي لا تنتج ولا تعمل بنفس القدر، حسبما يشيعه الانفصاليون.
وروج دعاة الاستقلال، خلال الحملات والتظاهرات الكثيرة، مقولة ان السواعد “الكاتالانية”هي التي تكد وتشقى، بينما يستفيد الاندلسيون الكسالى من الضرائب المفروضة على من يعمل.
وساهم الطابع الشعبوي لهذا المنطق، في انتشاره كالنار في الهشيم، في غضون الأشهر الاخيرة، بعد ان قرر رئيس حكومة الاقليم المتمرد “ارتورماص” وحلفاؤه الدعوة الى استفتاء تقرير المصير، يوم التاسع من نوفمبر عام 2014 والذي عارضته وطعنت في قانونيته حكومة مدريد، باستصدارها حكما من المحكمة الدستورية، ببطلان اجراء الاستفتاء بكيفية انفرادية لتنافيه مع بنود الدستور الذي صوت عليه الاسبان جميعهم والذي ارسى دعائم النظام السياسي الحالي في البلاد.
غير ان دعاة الاستقلال، لم يستسلموا لحكم القضاء، بل امعنوا في تشبثهم المطلق بمبدأ “السيادة للشعب” والتي لا يمكن، من وجهة نظرهم، أن يبطلها أمر قضائي مهما سمت درجته، على اعتبار ان السيادة للإرادة؛ لذلك استبدلوا مبادرتهم بالدعوة الى تنظيم استشارة شعبية مفتوحة، وطلبوا من سكان الاقليم التوجه الى صناديق الاقتراع لايداع اصواتهم في مكاتب احدثت، دون ان تتقيد بالضوابط والجداول الانتخابية المعروفة.
المزيد: الاتحاد الأوروبي والكنيسة الاسبانية يعارضان انفصال ” كاتالونيا”
كان القصد من تلك الاستشارة، ارباك الحكومة الوطنية مرة ثانية ومحاصرتها ثم الضغط عليها برغبة سكان الاقليم في التعبير عن الطابع الاستقلالي ،لاي تصويت وبأية طريقة جرى تنظيمه.وكما كان متوقعا فقد ايدت اغلبية الكاتالانيين، توجها عاما نحو شكل من الاستقلال، وفق نتائج ذلك الاستمزاج غير الملزم.
وانتظرت الاحزاب المصرة على الانفصال، يوم السابع والعشرين من سبتمبر الماضي، موعدا لاستحقاقات التشريعية الاقليمية، لانتخاب برلمان محلي، يتولد عنه تشكيل حكومة تدبير الشأن المحلي، بصلاحيات تم التفاوض عليها مع الحكومات المركزية السابقة، في اطار الدستور الحالي.
وبينما نظمت التظاهرات الاستقلالية، من جانب الائتلاف المعادي لبقاء “كاتالونيا”ضمن تراب المملكة الاسبانية، شاركت جل الاحزاب في الانتخابات ونظمت من جانبها حملات اقناع مضنية امام هيجان صرخات الانفصال .
ولم تحسم نتائج الاقتراع الموقف صراحة، بل اضفت ابعادا معقدة على المشهد السياسي والاجتماعي في الاقليم، بتقسيم المجتمع الكاتالاني الى معسكرين متضادين؛صار كل طرف يؤول النتيجة طبقا لهواه الايديولوجي: فالتحالف الذي يتزعمه رئيس الحكومة الحالي (ماص) حصل على اغلبية المقاعد في البرلمان دون ان يتجاوز مجموع الاصوات عتبة الخمسين في المائة .ولو تحقق ذلك، لخلق مشكلا عويصا لمعارضي الانفصال، بالنظر الى ان الاغلبية الشعبية المطلقة تحبذ الاستقلال؛ ولذلك فقد ابتهجوا لفشل رهان الانفصاليين الذي سعوا اليه بمختلف الوسائل والاغراءات.
ولا يريد الانفصاليون، سماع الاصوات المعتدلة المحذرة من عواقب إخراج “كاتالونيا”من حظيرة الوطن وما سيترتب عن ذلك من انعكاسات خطيرة، على كافة المستويات، وفي زمن قريب؛ فالوشائج قوية والمصالح متشابكة بين الاقليم المتمرد وبين اجزاء التراب الاسباني.
وتعترف القوى المعتدلة وضمنها الحزب الاشتراكي العمالي والحزب الجديد “ثيودادانونس” بمشروعية واحقية بعض مطالب الاقليم في التحرر من هيمنة وطغيان المركز؛ ولذلك فهم ينتقدون الحكومة الوطنية التي يقودها الحزب الشعبي المحافظ ويحملونها مسؤولية التقاعس وتفاقم الوضعية السياسية المتأزمة في الاقليم، بسبب تزمتها وتطبيقا الحرفي لبنود الدستور، رافضة اي نقاش بخصوص تعديله، بينما يطالب الحزب الاشتراكي بذلك وبإلحاح، لتتمكن الوثيقة الاسمى من مواكبة التغيرات العميقة الحاصلة في اسبانيا ومراعاة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على بنية الاقاليم ومنظومة الحكم المحلي بها.
المزيد: “تريني خيمينيث”أيقونة الاشتراكيين الاسبان تودع السياسة
وأدى ذلك التعنت الى حصول “الحزب الشعبي” على نتائج مذلة في الانتخابات الاخيرة بكاتالونيا؛ اعتبرها اغلب الملاحظين استباقا واعلانا قبليا، عما سيجنيه الحزب في الانتخابات التشريعية الوطنية المقررة يوم 20 ديسمبر المقبل. ان تحقق هذا السيناريو، وانتقل الحزب الحاكم الى المعارضة، فإن بابا صغيرا قد يفتح لإخماد نيران الازمة غير المسبوقة في كاتالونيا، بإطلاق مسار تفاوضي جديد.
غير أن اخفاق الحزب الشعبي على الصعيد الوطني، ليس اكثر من احتمال؛ فاذا تحقق، فإنه سيصطدم بمصاعب اخرى، تتمثل في غياب توافق بين الاحزاب المنادية بتعديل الدستور، بشأن بعض المبادئ التأسيسية التي ما تزال موضع خلاف، مثل النص على خصوصية وفرادة اقليم كاتالونيا. فذلك الاستثناء قد يوقظ النعرات القومية في اقاليم اخرى تدعي “خصوصيتها”غير القابلة للذوبان في قومية جامعة. وهذا إشكال قد يعرقل تشكيل حكومة ائتلافية.
و هذا التعدد في الاراء، يمكن ان يفتح ورشا وطنيا للنقاش السياسي الخصب في اسبانيا، يعيدها الى أجواء الانتقال نحو الديموقراطية، الذي دخلته البلاد بعد وفاة الديكتاتور، فرانكو، نهاية العام 1975؛ لما توافق الملك خوان كارلوس، مع القوى السياسية، بما فيها اليسار، على اقامة نظام الملكية البرلمانية الذي ارتضته مكونات الشعب الاسباني بما فيها اقليم كاتالونيا من خلال الاستفتاء بالموافقة على دستور .1978
ويبقى الاحتمال السيء قائما، في حالة ما إذا أدخل الجدل السياسي حول الدستور، البلاد في اتون صراعات مهددة لوحدتها، خاصة وان بؤرا اخرى موجودة وقابلة للانفجار، إن اضطربت الاجواء السياسية.
نعم،يوجد ما يدفع الى التفاؤل النسبي في المجتمعات المتطورة، وبينها اسبانيا بطبيعة الحال؛ بدليل ان الصراع السياسي المحتدم في كاتالونيا، تم التعبير عنه بالاساليب السلمية والديموقراطية والامتثال لحكم القضاء. الانفصاليون الشرسون، لم يلوحوا باللجوء الى العنف لفرض مطالبهم، باستثناء مكون حزبي (الوحدة الشعبية) ذي الميول الجمهورية الصارخة، دعا الى”العصيان المدني” واعلان جمهورية كاتالونيا المستقلة.
ولا يمكن التنبؤ بصورة المستقبل السياسي في اسبانيا قبل اجراء الانتخابات التشريعية التي ستنقل السلطة التنفيذية على صعيد الوطن، الى الحزب الفائز؛ علما ان المشهد الحزبي القديم لن يتكرر؛ فلا الحزب الشعبي الحاكم، ولا غريمه “الاشتراكي العمالي” بقادرين على تشكيل حكومة بمفردهما، بل لا بد من التحالف،وستكون الصعوبة اكبر بالنسبة للحزب الشعبي، اذ بادر حليفه المحتمل “ثيودادانوس” الى استبعاد المشاركة في حكومة يرأسها، ماريانو راخوي ، ما لم يحتل حزبه الرتبة الاولى في الاقتراع.
وليس الحزب الاشتراكي العمالي في وضع افضل، فالحليف المتوقع “بوديموس” اضاع هويته الى حد ما وبدا قوة غامضة بدليل ان الناخبين الكاتالان، منحوه مقاعد قليلة في اطار تحالف.
ارتكب “بوديموس”خطأ عدم الحسم في الصراع بين الانفصاليين والسياديين ًبتبنيه موقف “الحياد” الملتبس في قضية مصيرية، فادى ثمنا يمكن ان ينعكس على نتائجه في التشريعيات الوطنية المقبلة.
وبتوقف تاييد، بوديموس، للاشتراكيين على نفس الشرط المرفوع في وجه الحزب الشعبي اي الحصول على المرتبة الاولى بين الاحزاب المتنافسة، فضلا عن ان اصواتا في الحزب الاشتراكي تحذر من حكم بدون أغلبية.
المزيد: اسبانيا على حافة المواجهة مع كاتالونيا !!
لقد ابعدت نتيجة اقتراع السابع والعشرين من سبتمبر، كاتالونيا واسبانيا، عن حافة هوة سياسية عميقة،بتصويت الاغلبية لفائدة بقاء البلاد موحدة ، في اطار حكم محلي متطور،يمنح سكان الاقليم المطالب المعقولة في سياق تفاوض جديد على اسس الحكم المحلي.
ولم يعد خافيا ان ملك البلاد، فيليبي السادس، غير راض عن تعنت الطرفين: الاحزاب الانفصالية والحزب الشعبي، ولذلك فالمراهنة متجهة نحو الحزب الاشتراكي والحليف الممكن “ثيودادانوس”وان كانت تجربة الحزبين في الاندلس غير مشجعة.
أما “بوديموس” فما يزال موقفه معلقا وسط التيارات القوية؛ فهل يتدارك زلاته ويقف على أرضية صلبة؟
انفصال، كاتالونيا، ضار لها، مرعب لكثير من الاسبان، مقلق لاوروبا، بل يعيد التاريخ الى الوراء، لصراع القوميات وتناطح الهويات والاقليات. ترى هل ينتصر التوافق على التفارق؟!!