مِنْ أينَ جئتِ
وأي أرضٍ أنجبتك
وكلُّ ما فى الأفق أشلاءٌ ونارْ
من قالَ إن شجيرةَ الياسْمينِ
تنبتُ فى حقول الدَّم
تنثرُ عطرَها وسطَ المذابح والدمارْ
ومتى ظهرت
وقد توارى الصبح فى عيْنَىّ
من زمن. وودعَنَا النهارْ
صَغُرتْ عيونُ الكونِ فى أحداقنا
حتى تلاشىَ الضوءُ. وافترق المسارْ
وأنا وأنت
كنجمتين وراء هذا الغيمِ
رغم البعدِ يجمعنا المدارْ
وعلى امتداد الأفقِ ظلُ شجيرةٍ
وغناءُ عصفورٍ كسير
أطربَ الدنيا وطارْ
ــ من أينَ جئت؟
وأنتِ آخر ليلةٍ
زارتْ خريفَ العمرِ
والشطآنُ خالية
وموجُ البحر أتعبه الدوارْ.
أنا لا أصدق
ان يكونَ الدمُّ آخرَ ما تبقى
من زمانِ الحبِ والأشعارْ
أنا لا أصدقُ أن تكون نهايةَ الأوطان باسمِ الدينِ
أشلاءٌ وقتلٌ وانتحارْ
أنا لا أصدقُ أن يسود الجوعُ
والطغيانُ والفوضى فى آخر المشوارْ
– من أين جئت؟
تبدو عيونك آخرَ السرداب
ضوءاً خافتاً وسطَ العواصفِ والغبارْ
كم كنتُ أسألُ كيف يأتى الحبُ أقداراً
وكيف يجئ والعشقُ اختيار
كنتُ اعتزلتُ الشوقَ من زمنٍ
وودعتُ الحنينَ.
وحين غابَ الشعرُ
أسدلتُ الستار
وجلستُ فى صمتِ الخريفِ
أصافح الأيامَ يوماً بعد يوم
بعدَ أن فاتَ القطارْ
كم من طيورٍ هاجرتْ من عُشها
وتكسرتْ بين الرحيلِ وقسوة الإعصارْ
ومضتُ تفتشُ بعد أن رحلَ الرفاق
فلا اشتياقَ. ولا غناءَ. ولا انتظارْ
– من أينَ جئتِ؟!
مواكبُ الموتى تضجُ من الجماجمِ
والمدى حولى حصارٌ فى حصارْ
الناسُ ترحلُ فى قطارِ الموت.
أشلاءً يلملمها جدارٌ ثم يلقيها جدارْ
يترنحون على المفارق كالجرادِ
فلا خيولَ. ولا صهيلَ. ولا ديارْ
يترنحُ الكهانُ فى البارات
والدنيا خراب. والمدى وطن.
تسلمه المشانِقُ للمخابئ. للدمارْ
يتبادلونَ الكأسَ فى نخْب الضلال
الخمرُ دمُّ. والكؤوسُ مذابحٌ
والموتُ يرقصُ فوق أشلاءِ الصغارْ
هذا زمانُ القتلِ باسمِ الدينِ.
باسمِ العدلِ. باسم الله الواحد القهارْ
فى البدءِ كانت رحمةُ الإنسان
تسبقُ سيفَه البَّتارْ
من قالَ إن العشقَ
يولدُ فى بحارِ الدمِّ
يكبرُ فى ليالى القهرِ.
يزهوُ فى ثياب العارْ
كذبوا علينا واستباحوا
فرحةَ الأيامِ فينا.
كلُّ مخبولٍ تآمرَ فى شعارْ
وأمام خِنزير قبيح الوجهِ
تسقطُ أمة
ما بين عجزٍ. وانكسارْ
– من أين جئت؟
وكل طفل فى ثرى الوطنِ الذبيح
يكابرُ الحزنَ المقيم.
وفى جنونِ الموت ينشدُ ظلَ دارْ
لم يبقْ من صخب الحناجر
غيرُ صرخاتِ تئنُ.
دموع يأسٍ واعتذارْ
لم يبقَ غيرُ حدائقٍ جرداءَ
لا ظلُّ هناك. ولا ثمارْ
حزنُ توحشَ فى الضلوعِ
كآبة كالنار تَسرىِ
بين يأس. وانهيارْ
– من أين جئتِ؟
وكل كهان المدينة كالغوانى
يخلعونَ ثيابهم
للقادمين وكل أفاق تبرج فى إزارْ
قد عشتُ أسألُ كيفَ تنبتُ
فى قبورِ اليأسِ أحلامٌ كبارْ
– من أين جئت؟
وكل أزمنةِ الهوى
طرزتُها شعراً وأنغاماً
وكانت فرحةُ العشاقِ
تسكن كل ناصية ودارْ
ومتى أتيت؟
وكنت فى بدءِ الخليقة
وجه حلمٌ طافَ فى عمرى قليلاً. واستدارْ
ومضى بعيداً لستُ أدرى
كم من الأيام ولَّى.
كم من العمر استجارْ
من أينَ جئت؟
وكنت ودعت الهوى
واستسلمتْ للحزن أيامى
وشاخ العمرُ. وانطفأَ النهارْ
وعلى دموع النهر غاب الفارس المغوارْ
كفَّنتُهُ فى القلب.
حين رأيتُ. أوطاناً وتيجاناً
تباعُ بأبخسِ الأسعارْ
غرِقتْ مع الأحزان كلُ سفائنى
واستسلمتْ للريح والإعصارْ
ضيعتُ أيامى أبيعُ الحبَّ
والأسواقُ خالية.
رياضُ الحبِ دمرها البوارْ
– من أين جئت؟
ووجهك المرسومُ من زمن البراءةِ
أشعلَ الأشواقَ فى قلبى.
أعاد اللهفة السكرىَ أعاد اللحنَ والتذكارْ
من أينَ جئت؟
ولم يعدْ فى العمر شىٌء.
غيرَ أيام توارتْ بين أطلال الخريفِ
شجيرة هرِمتْ وأيامٌ قصارْ
لا شىٌء فى صمتِ الخريف
وقد تثاءب فى ذبولٍ
غيرُ بيت موحش
وزمانِ عجز وانتظارْ.
يتلكأ القلبُ المكابرُ.
بين أطلال السنين فلا يرى
فى الحب شيئاً غيرَ وهم. وانكسارْ
آمنتُ بالأشواق عمرى
حين ضلَّ الحلمُ أسدلُت الستارْ
ورجعتُ كالقديسِ أنشدُ خلوة
يرتاحُ فيها القلبُ.
من عفن النفوس وخسة الأشرارْ
قد مِتُّ من زمن بداء العشقِ
ثم أقمت للعشاقِ فى قلبى المزارْ
جاءوا حشوداً يرسمونَ
على جدار العمر أسراباً من الأطيارْ
– والآن جئتِ ولستُ أدرى
هل أكابرُ؟
هل يعودُ العاشقُ المجنونُ
يرفع رايةً للحبِ فى صخب الدمارْ؟
هل من زمانٍ.
كى يعود لعرشهِ الفارسُ المغوارْ؟
سكتَ الجوادُ عن الصهيلِ
تكسرتْ فى صمتها الأوتارْ
وانفض ليل العاشقين
وفى سكون هاجَر السُّمارْ
هل من سبيل؟
أن يطل الفجرُ بين ربوعنا
وتعودَ للأيام ضحكتُها. وينطلق النهارْ؟!
آمنتُ عمرى كله بالحب ديناً
لم أتاجر فى مزاد أو ضمير أو شعارْ
وكتبتُ للعشاق شعراً
لن يضلوا بعده.
حتى إذا رحل المُغَنىِّ
لن ترحل الأشعارْ.