لقد شكل الدعم الجزائري اللامشروط لجبهة البوليساريو، والمضاد لوحدة المغرب الترابية، أحد ثوابت السياسة الجزائرية حتى قبل تأسيسها لجبهة البوليساريو، وهو الأمر الذي يفسّر الهستيريا التي أصابت مؤيدي البوليساريو في دوائر السلطة المختلفة في أعقاب خرجة سعداني الإعلامية. ومعلوم أن دوائر السلطة الجزائرية هو مصطلح نقصد به: الجيش الوطني، الرئاسة، المخابرات. دوائر كانت تتداخل أحيانا لتصبح صدى للقطب الأوحد، الذي يمثله أحد هذه القوى، أو تتقاطع وتتمايز أحيانا أخرى عندما لا تميل موازين القوى إلى كفة معينة، لكنها في كل الأحوال تتوحد عندما يتعلق الأمر بالنسبة لقضية الصحراء المغربية. على ضوء هذا التوضيح، نستطيع أن نفهم ما لظهور الأمين العام للحزب التاريخي من أهمية استثنائية، كونه يخرق، وربما للمرة الأولى، أحد ثوابت السياسة الجزائرية، بالطرق الثلاث:
صمتا، عندما لم ينجر إلى كل محاولات المذيع لجره للتهجم على المغرب، حتى في أعقاب خطاب مباشر شديد القوة من العاهل المغربي للسلطة في الجزائر. وتلميحا، عندما أبقى دون توضيح عبارتين مفتاحيتين هما: “الجزائر أولا وثانيا وثالثا” و “لا أريد أن أقول كلاما يمكنه أن يُخرج الناس إلى الشارع !!”. وأخيرا تصريحا، عندما طالب، ولأول مرة لمسؤول جزائري على هذا المستوى، بإعادة النظر في السياسة الجزائرية تجاه المغرب.
كسر سعداني “للمحرمات” في تعاطيه مع الشأن المغربي، لا يزال دون نظرية تفسيرية لدى من اعتادوا قراءة الواقع الجزائري على هدي “الثوابت” التقليدية التي اعتاد المحللون اجترارها عندما يتعلق الأمر بفهم السلطة الجزائرية. فالرجل وإن كان خارج دوائر السلطة الثلاث التي ذكرناها سابقا، إلا أن ارتباطه بها يجعله أحد لاعبيها الأساسيين، حتى ولو “كلاعب بالنيابة” عن أحدها. وهنا نفتح قوسا لنذكر بأن التحليلات التقليدية، لطالما اعتبرته ناطقا غير رسمي باسم الرئيس بوتفليقة وجناحه في قصر المرادية الذي يديره مباشرة شقيقه الأصغر السعيد، وتحديدا بعد هجومه الشهير على الفريق توفيق، الذي اعتبر ردا على موقف “رب الجزائر” المعارض لترشح “الرئيس العاجز” لولاية رابعة. لكن علاقته المتوترة بممثل الرئاسة الثاني أحمد أويحيى، مدير مكتب الرئيس، وسابقة تهنئة الفريق أحمد قايد صالح رئيس هيئة الأركان له، لاختياره على رأس حزب جبهة التحرير، كلها مؤشرات تربك تصنيف الرجل، وإن كان الأقرب للمعقولية، اعتباره حليفا لمؤسسة الجيش أكثر منه حليفا لمؤسسة الرئاسة، على الأقل، لما يعلمه الناس من عدائه للشقيق السعيد بوتفليقة، هذا على اعتبار طبعا أن المؤسستين يمثلان قطبين مختلفين داخل السلطة في الجزائر، لاسيما بعد تقزيم القطب الثالث الممثل في مؤسسة المخابرات وإقالة رجلها القوي الفريق توفيق.
لماذا كل هذا التذكير؟ لنفهم أمرين في غاية الأهمية: أولهما: لمن وجه سعداني رسائله المشفرة عن أولوية الجزائر على ما سواها، وامتلاكه الكثير من الحقائق التي من شأن البوح بها أن ينزل الناس إلى الشارع؟ وثانيهما: ما هو التغيير الذي يطالب به سعداني في السياسة الجزائرية تجاه المغرب؟
ربما تكون الإجابة على السؤال الثاني أسهل: إذا اعتبرنا أن سياسة السلطة الجزائرية على مدى نصف قرن كانت سياسة عدائية تجاه المغرب، لأسباب لا يفيد تكرارها هنا، فإن أية مطالبة بتغييرها لا يمكن إلا أن تكون للأفضل بعكس المسار القائم حاليا. حيث أنه لو كانت الرسالة هي استمرار لما هو قائم لما استدعى الأمر أية مطالبة بالتغيير، ولاكتفى بتكرار المواقف التقليدية المؤيدة “لحق تقرير المصير للشعب الصحراوي”. وهنا يبرز سؤال أكثر أهمية: أي دوائر السلطة الجزائرية التي يتحدث سعداني باسمها، والتي تفكر في ضرورة تغيير السياسة الجزائرية العدائية تجاه المغرب؟ يقينا أنها ليست مؤسسة المخابرات التي رعت هذه السياسة على مدى عقود، ناهيك عن فقدانها لثقلها في السلطة حاليا، ومن المستبعد جدا أن تكون مؤسسة الرئاسة وجهازها الدبلوماسي الذي لا يضيع فرصة للتنغيص على المغرب دون استغلالها، وآخرها كان قبل أيام خلال قمة الهند وإفريقيا، لاسيما وأن تغييرا جذريا كهذا التغيير لا يمكن أن يتم خلال أسبوع بعد القمة، لتبقى مؤسسة الجيش الوطني هي الوحيدة المرشحة لمثل هكذا تفكير.
لكن، لماذا الجيش؟ هنا قد تأتي الإجابة بديهية، ومركبة من شقين: الأول رغبته في إعطاء الأولوية لمعركته الداخلية المتمثلة في تمكين الجزائر من “استقلالها الحقيقي عن النفوذ الفرنسي وامتداداته المتشعبة في الجزائر”، بدل تسخين أهدأ وأأمن الجبهات الحدودية للجزائر، والثاني رغبته في تلطيف الأجواء وتجنيب العلاقات مع الجار المغربي تشنجا قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه لا قدر الله. وهي في النهاية السياسة الطبيعية التي ينبغي أن يمارسها أي نظام “وطني” تجاه أشقاء الدم والكفاح.
هكذا، لن نحار في تخمين الإجابة على السؤال المؤجل: لمن وجه سعداني رسائله المشفرة؟ إذ أن السير في منطقنا إلى منتهاه، سيقود إلى اعتبارها رسالة مزدوجة: أولا، إلى جبهة البوليساريو نفسها، وتحديدا جيل ما بعد محمد عبد العزيز، بأن مصلحة الشعب الجزائري هي في المقام الأول قبل أي اعتبار آخر، رسالة ربما تحدث زلزالا داخل جبهة البوليساريو، وتعطي ضوءا أخضر خافتا للجناح الذي يدافع عن ضرورة التفاهم مع المغرب، وتقوي شوكته في مواجهة الجناح المتشدد. وثانيا، إلى الجناح المعارض لهذا التغيير في السياسة العدائية تجاه المغرب، ومنطقيا أن يكون جهاز الرئاسة ودبلوماسيتها، بأن معارضتهم لهذا النهج قد تحفّز على كشف أوراق ستفضح هذه المؤسسة وستنزل الناس إلى الشوارع احتجاجا، في رسالة تهديد مباشرة من رجل لا يحسن تنميق الكلام.
أخيرا، قد يبدو تحليلنا مفرطا في تفاؤله بالنسبة للبعض، لكنه يستمد قوته من بديهيتين: أولهما، أنه لا بد أن يأتي اليوم الذي يسود فيه الوئام بين مؤسسات البلدين الجارين، منسجما مع ما يجمع الشعبين من عرى وثيقة، وثانيهما، أن المنطق التقليدي المجتر “لثوابت السياسة الجزائرية”، لا يملك حتى اللحظة تفسيرا مغايرا لهذا الانقلاب، إلا باعتبار سعداني “مخرفا” أو لا يمثل إلا نفسه، وهو ما ننفيه عن الرجل بثقة ودون تحيز. عموما، فتسارع الأحداث عند الجار الشقيق، سيعجل في تأكيد صواب هذا التحليل أو ذاك، “وإن غدا لناظره قريب”.
اقرأ أيضا
الجزائر: ممارسة السياسة بأقنعة الزوايا الدينية
لا تزال قضية وزير الطاقة والمناجم الجزائري الأسبق شكيب خليل، الذي عاد إلى الجزائر من الولايات المتحدة في 20 مارس الماضي بعد أن أقام فيها منذ 2013، تتفاعل.
جزائر بوتفليقة .. إلى أين؟
الجزائر في عهد بوتفليقة أكثر خطورة من سؤال بوضياف، على الرغم من أن الأخير كان في ظروفٍ تاريخيةٍ شديدة التعقيد، حيث الانقلاب العسكري على الديمقراطية.
تعثر مشروع “الجامع الأعظم”..آخر متاعب بوتفليقة
يواجه مشروع " الجامع الأعظم " الذي يريد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أن يكون مفخرة للجزائر، تعثرات مرتبطة بتأخر الأشغال وارتفاع الكلفة في ظل الأزمة الاقتصادية.