أمام التركيبة الغامضة للسلطة الفعلية في الجزائر، والقوى الرئيسية التي تتحكم فيها، تتعدد محاولات القراءة لما جرى ويجري داخل أروقة هذه السلطة، والحركية التي شهدتها منذ فجر ثورة التحرير وحتى الآن، بدرجة أكثر تعقيدا من أية محاولة فهم لباقي السلطات العربية. سلطة كانت الكلمة العليا فيها للجيش تقليديا، ممثلا في هيئة الأركان، قبل أن تنتقل عام 1992 أو قبلها بقليل إلى جهاز المخابرات العسكرية، مؤذنة بسيادة فعلية “لجنرالات فرنسا” أو الضباط الجزائريين الذين خدموا فعليا في الجيش الفرنسي وحافظوا على علاقتهم به، وعبرهم، حافظت فرنسا على نفوذها في أهم مستعمراتها السابقة.
هذا المشهد، وإن بدا أنه قد شهد تغيّرا بقدوم الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، الذي أعلن رفضه لأن يكون “ثلاثة أرباع رئيس”، إلا أن القاصي والداني يعلم أن مجيئه كان بتوافق بين هيئة أركان الجيش ممثلة في رجلها القوي الفريق محمد العماري، وبين رئيس جهاز المخابرات العسكرية الجنرال محمد مدين (توفيق). توافق سرعان ما تبخّر عندما أظهر بوتفليقة، بدعم من توفيق، رغبته في ولاية ثانية، مقابل إصرار الفريق العماري على علي بن فليس بديلا، الأمر الذي لم يفشله إلا انحياز الجنرال توفيق إلى صف بوتفليقة، ليمنحه ولاية ثانية بنسبة تجاوزت الثمانين بالمائة، مقابل إهانة خصمه بمنحه سبعة بالمائة فقط من الأصوات.
هذا التحالف بين الرئاسة والمخابرات، والإقصاء المؤقت لرئاسة الأركان، أتاح للحليفين العمل بشكل مريح: بوتفليقة وشقيقه ومعهم طبقة رجال الأعمال في الاستفادة القصوى من أموال الطفرة النفطية، وتوفيق وأجهزته الموجودة في كل مفصل من مفاصل الدولة، لتكريسه “ربّاً متوجاً” للجزائر، ومن وراء الفريقين فرنسا، التي كرست نفوذها بضم فريق رجال الأعمال المحيطين بشقيق الرئيس القوي السعيد، إلى أولئك المرتبطين بالجنرال توفيق والجنرال التواتي، إضافة إلى معسكر أنصارها التقليديين في الجيش والمخابرات. لكن تحالف بوتفليقة- توفيق لم يكن ليدوم دون منغصّات، إذ يرغب كل منهما في أن يكون –صراحةً- الملك المتوج للسلطة في الجزائر والممثل الحصري لها، وهو ما ترجم من خلال ملفات الفساد التي لوحت ببعضها وكشفت بعضها الآخر أجهزة المخابرات، للضغط على الرئيس ومحيطه، قبل أن يلجأ هذا الأخير لرد الصفعة وهو على سرير التعافي في مستشفى “فال دو غراس”، عندما أعاد تقريب رئاسة الأركان ممثلة في شخص رئيسها الفريق أحمد قايد صالح.
وأتت العهدة الرابعة لبوتفليقة، الذي يعلم القاصي والداني عجزه عن القيام بأي من مهماتها، لتعلن للجميع أن صراع الأجنحة الثلاثي هو أبعد ما يكون عن الحسم لصالح هذه الجهة أو تلك، مع وقوف الفريق توفيق ضدها بشكل معلن، مقابل إظهار الفريق قايد صالح تأييده لها، واسترخاء السعيد بوتفليقة ورجاله إلى ما ظهر من قوتهم، بقدرتهم على فرض رئيس عاجز على شعب شاب. هذا الوضع “المخادع”، ربما كان هو أصل سوء الفهم الذي تولّد عند معظم إن لم يكن كل المحليين والمتابعين للشأن الجزائري، الذين اعتمدوا على الخصومة المعلنة بين بوتفليقة وتوفيق، رغم كونهما وجهي “حزب فرنسا”، والدعم المعلن من قايد صالح لبوتفليقة، ليخرجوا مدافعين عن خلاصة تقوية موقع الرئاسة بالقضاء على خصمه توفيق، تمهيدا لتوريث الحكم للشقيق السعيد، غير متنبهين إلى قصور النظرية عن تفسير هذه الحركة “التطهيرية” قبل أن تكون التحديثية، التي تجري في الجيش، والتي تستهدف جنرالات فرنسا وامتداداتهم، مرورا بالمسؤولين عن دماء مئات آلاف الجزائريين منهم. وكان أن أطاحت هذه “المجزرة” بعشرات الجنرالات بعيدا عن منطق التقاعد والسن، دون أن تملك الرئاسة، أو “الجناح المدني لحزب فرنسا” كما يسمونه، ما تدافع به عن شقيقها “الجناح العسكري” لهذا الحزب، وهو أمر ينسف نظرية التنسيق بين الرئاسة وهيئة الأركان من أساسها.
إقرا أيضا: أهم الحقائق وسط ركام التكهنات المتضاربة حول الصراع الدائر في الجزائر!!
وأمام هذه الحرب المستترة، والزلزال المتمثل في إقالة “ربّ الجزائر” الفريق توفيق، تحركت أذرع هذا الأخير، من بين أعضاء ما يمكن تسميته ب “الظهير المدني” لحزب فرنسا، من وسائل إعلام وأحزاب في الحكم والمعارضة على حد سواء، وبدأت حرب تشكيك، من جهة، “بقيادة الجيش الفاسدة”، ومن جهة أخرى بإثارة الشعب وتحريضه ضد قيادة الجيش، تارة بإثارة النعرات الطائفية كما جرى في غرداية، وما يحضر له في منطقة القبايل، وتارة بمحاولة إنزال المواطنين إلى الشوارع لإثارة الفوضى والاحتجاج على التردي الذي وصلته أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية. حرب لا تزال مستعرة إلى حد هذه الساعة، في إطار ما يمكن تسميته “التسخين” لمعركة الحسم.
وهكذا، ربما أمكن قراءة القرار الأخير الذي تم تسريب أن قيادة الجيش قد اتخذته، ووقفت الرئاسة أمام إقراره، بل وصعّدت تجاهه، والمتمثل في قرار هيئة الأركان بحذف اللغة الفرنسية من جميع المعاملات والمقرات الخاصة بالجيش الوطني، والأهم، رفض إطلاع فرنسا على خطة العمليات الاستثنائية للجيش، وهو ما يضع عنوانا لحركة الجيش وما يقوم به من تغييرات منذ مدة طويلة: الاستقلال التام عن فرنسا، وإنهاء نفوذها داخل الجيش الجزائري، كمقدمة لإنهائه في باقي دواليب السلطة الجزائرية. رفض الرئاسة، التي يحتفظ رئيسها بوزارة الدفاع، المصادقة على القرارين أو التوجهين، دفعها لتكثيف وتيرة تكريس الوجود الفرنسي و “تقنينه” عبر عشرات الاتفاقيات الاستراتيجية في مختلف القطاعات: الطاقة، التعليم العالي، الدفاع، البحث العلمي، الفلاحة، الصناعة، السكك الحديدية، وغيرها، والذي تم قبل أيام، وما يحضّر له من جولة ثانية من الاتفاقات خلال دورة عليا ثانية في الجزائر، خلال أقل من شهر واحد تقريبا على الدورة الأولى التي عقدت في فرنسا. هذا التسريع في عملية خلق “أمر واقع قانوني” يقيّد علاقة البلدين، ويقيد يد الجيش ومن سيسنده من ظهير مدني بعد بوتفليقة، ينظر إليه البعض كعنوان لدخول الصراع غير المعلن بين الجيش ممثلا في هيئة الأركان، ومحيط الرئيس العاجز بوتفليقة، مرحلة الحسم، مع ربطه بحركة وتصريحات مختلف الأحزاب ووسائل الإعلام، التي ترفع مؤخرا نبرتها وسقف مطالبها، تناغما مع فريق الرئاسة.
وإذا صحت هذه القراءة، سنكون أمام سيناريوهين أساسيين: أن يدفع محيط الرئيس بهذا التصعيد إلى مداه، باللجوء باسم الرئيس ورئاسة الحكومة إلى اتخاذ قرارات تستفز قيادة الجيش، وتدفعه للتدخل المباشر والإمساك بزمام الأمور عبر ما سيجري تصويره كانقلاب عسكري، ونلاحظ هنا تكرار العديد من وسائل الإعلام ذات الارتباطات المعروفة لاسطوانة المقارنة بين الفريق أحمد قايد صالح والمشير عبد الفتاح السيسي، وهي إشارات لا يخفى مغزاها. سيناريو سيحتاج إلى ظهير شعبي ينزل إلى الشوارع ليضع نفسه في مواجهة الجيش دفاعا عن الاسطوانة العربية المشروخة: “مدنية الدولة”. أما السيناريو الثاني، فهو أن يستكمل الجيش ما تبقى من عملية تطهير داخل أروقته للتحكم التام في بيته الداخلي، قبل أن ينتقل إلى جهاز الشرطة الذي يمسك به أحد رجالات الرئيس اللواء عبد الغني هامل، وأن يستطيع التفاهم خلال هذه الفترة مع شخصيات وطنية تحظى بثقة المواطنين، وترفض الوجود الفرنسي بالبلاد بأوجهه المختلفة، انتظارا لإعلان شغور منصب الرئاسة دون تدخل منهم، إما بتفعيل الدستور وتنحية الرئيس لعجزه الظاهر، أو بوفاة بوتفليقة المتوقعة في أية لحظة لتدهور أوضاعه الصحية.
خلاصة القول، وأيا كان السيناريو الذي سينتصر، فإن الجزائر تبدو أمام مفصل تاريخي، سواء تمخض عن انتصار الجيش في معركة الاستقلال الحقيقي عن النفوذ الفرنسي، ونجح في تمكين المواطنين من دولتهم، والتحكم في مصيرهم، واكتفى بثكناته خادما وحاميا، أو انهزم ونجحت فرنسا وحلفاؤها في استدامة وجودها لبضعة عقود أخرى، وإن ما يجري في هذا البلد العربي الكبير سيكون له أعمق الأثر على جواره الإقليمي، وعلى مجمل الأوضاع في الوطن العربي، لأنه مخاض غير مسبوق في أي بلد مماثل، وربما أضاف نظرية أخرى للتغيير في هذا الوطن المرتهن لوطنية العسكر ورجال الأعمال فيه، وقدرتهم على الإجابة على الأسئلة الوجودية للمواطنين.