مقدمة
الدعوة إلي احترام الإنسان وحقوقه قديمة، ولكنها تزايدت في المجتمعات البشرية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأوجبتها الأديان ونادي بها الفلاسفة والمصلحون، فهي مبدأ ثابت وليست من مستجدات المجتمع الدولي المعاصر، ولكن المشكلة كانت تتمثل في عدم وجود آليات وقوانين لملاحقة الجرائم ضد الانسانية التي تقع بين شعبين أو دولتين أو بين جماعتين علي أسس عرفية أو طائفية أو الانتهاكات التي تقع في داخل الدول من حكامها.
و قد أخذ مفهوم حقوق الإنسان والحض علي احترامها دفعة جديدة منذ قرنين من الزمان، غير ان خطوات الملاحقة والتجريم تلاحقت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وتمثلت في محاكمة المنتصر للمهزوم في نورمبرج وطوكيو وثم استمر التطور في صورة اتفاقية جنيف الرابعة وأعقبتها قرارات الأمم المتحدة ومنظماتها وصياغة حقوق الانسان في اتفاقيات وعهود ثم بتشكيل محاكم خاصة (روواندا ويوجوسلافيا السابقة ) ثم انشاء المحكمة الجنائية الدولية.و المحكمة الجنائية الافريقية.
أولاً: تطور تجريم الأفعال ضد الإنسانية في المجتمع الدولي:
بدأ الإهتمام بالحديث الجاد عن الجرائم ضد الإنسانية في معرض تناول جرئم الحرب في مقتبل الشهر التاسع عشر وتمت اول صياغة واضحة لها في اتفاقيات لاهاي في اوائل القرن التاسع عشر، ثم تزايد إبان الحرب العالمية الأولى، لكنها لم تصبح جزءًا فعليًا من القانون الدولي إلا بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد نتيجة الفظائع التي ارتُكبت في هذه الحرب، مع أن الجرائم ضد الإنسانية، كما هي معروفةٌ اليوم، هي ممارساتٌ قديمةٌ مُوغِلَةٌ في قِدَمِهَا في التاريخ، لكن محاولة تلمُّس طريقةٍ لوقفها بدأت في الحرب العالمية الأولى. ثم تطورت هذه المحاولة إلى مسعيٍ حقيقيٍّ نحو تَقْنِينِها ضمن القانون الدولي، لتصبحَ ملاحقةُ مرتكبيها ومحاسبتُهم جزءًا من القانون الدولي، بعد أن كان الحديثُ عنها مجردَ تصوراتٍ ليبراليةٍ لما يجب وَقْفُه، ولما تجب المعاقبة عليه. وقد أوردها ميثاق لندن الذي على أساسه قامت محاكم جرائم الحرب الدولية في نورمبورج وطوكيو، ولإدراجها ضمن الجرائم الدولية، اعتمد واضعو هذا الميثاق على التقرير الذي أصدرته لجنة جرائم الحرب بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك للدّلالة على استمرارية العَلاقة في القانون الدولي الذي نشأ في أعرافها أساسًا، حتى لو جاءت مخالفةً لهذه الأعراف والقانون في فترة الحروب.
المزيد: محاكمة اسرائيل بين القانون والسياسة
وهكذ أصبح تجريم الأفعال ضد الإنسانية تدريجيا وقيما نبينه لاحقا – من المعطيات الثابتة التى استقرت في مبادئ القانون الدولي والتي أصبحت محسومة ولا مجال لأي خلاف حولها، والتي تشكل التزاما آمرا في القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي العام..
المزيد: الإرهاب والقانون الدولي
وتنطلق مشروعية تجريم الأفعال التي تنتهك الإنسانية من تواري مجالات الشئون الداخلية التي يحرم ميثاق الأمم المتحدة التدخل الخارجي فيها مع النمو المضطرد للتعاون الدولي في كل المجالات مما جعل مفهوم ال interdependence يطغي علي مبدأ الإستقلال dependenceالأمر الذي ضيق كثيرا من نظرية السيادة الوطنية بصفة عامة وفي مجال حقوق الإنسان بصفة خاصة بحيث الذي لم يعد انتهاك حقوق الإنسان في داخل الدولة محصنا بمبدأ السيادة وعدم التدخل في الشئون الداخلية فلم يعد الحكام في مامن من الملاحقة والمحاسبة والمساءلةعما يرتكبونه من انتهاكات لحقوق شعوبهم الإنسانية من المجتمع الدولي، ولم يعد مقبولا الاحتماء بمقولة أن هذه الانتهاكات هي من صميم الشئون الداخلية ومن ثم يمتنع علي المجتمع الدولي ملاحقتها.
وليس هذا بغريب عن الفكر الإنساني فطالما تواردت أحلام الفلاسفة والكتاب منذ قرون عن وجود عالم موحد تسوده مكارم الأخلاق (المدينة الفاضلة يوتوبيا عند افلاطون وتوماس مور) وكتابات القديس توماس مور في لقرن الخامس عشر. وليست فكرة المدينة الفاضلة فكرة غربية خالصة، بل هي فكرة لها تاريخ في الفلسفة الإسلامية، لا سيما مع الفارابي في القرن الرابع الهجري وكتابه “آراء المدينة الفاضلة” الذي طرح فيه فكرته عن المعمورة الفاضلة كأعلي أشكال الاجتماع الإنساني.
وقد تحققت أحلام هؤلاء الفلاسفة اعتبارا من عام بانشاء عصبة الأمم التي تطورت الى منظمة الأمم المتحدة وهي التي انتزعت صلاحيات أوسع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. ومنذ ذلك اليوم لعبت المنظمة الدولية دوراً بارزاً في تنظيم العلاقة بين دول العالم لاسيما في حفظ السلام. ومع تسارع التطور في عالم متغير نحو التقارب وتلاقي المصالح، تزايدت صلاحيات هذه المنظمة الدولية، ونمت الحاجة الى دور المجتمع الدولي اكثر فاكثر، ليس في حفظ السلام ومنع الحروب بين الدول فحسب، بل وتوسعت صلاحياتها وخاصة في الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية الى حماية الشعوب من حكامها. وهذه في الحقيقة نقلة نوعية في الحضارة البشرية لصالح الشعوب المضطهدة من قبل حكامها. فلا سيادة وطنية كاملة الا في ظل حكومة شرعية أي منتخبة من قبل الشعب. ومعظم الحكومات المستبدة هي حكومات غير شرعية بالمعنى العصري ولذلك فلا سيادة حقيقة لها أصلاً لكي تدعي انتهاكها، لأن هذه السيادة الوطنية هي بالأساس منتهكة من قبل الحكومات المستبدة.
برزت بعض القواعد والعادات والتي تبلورت في قواعد قانونية مكتوبة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ويعد تصريح باريس الصادر في 16إبريل 1856 أول وثيقة دولية مكتوبة تنظم بعض الجوانب القانونية للحرب البحرية.
وجاء إعلان سان بيترسبورج بشأن حظر استعمال المقذوفات في وقت الحرب والموقع في 11ديسمبر 8681، ليعلن أن التقدم الحضاري يجب أن يخفف قدر الإمكان من نكبات الحرب، وأن الهدف المشروع الوحيد الذي يجب أن تسعي إليه الدول أثناء الحرب هو إضعاف القوات العسكرية للعدو مع مراعاة المبدأ الأساسي الذي يقضي بأن حق أطراف أي نزاع مسلح في اختيار أساليب ووسائل القتال ليس حقًا لا تقيده قيود، بحيث يحظر استخدام القوة العسكرية فيما يتعدى الضرورات الحربية بهدف إضعاف قوة المعتدي.
وأرست اتفاقية جنيف الموقعة في 22أغسطس1864 أسس القانون الإنساني المعاصر، وكان أهم ما اتسمت به أنها قواعد مكتوبة دائمة لحماية ضحايا الحروب، وهي معاهدة متعددة الأطراف جاءت تتويجًا لجهود اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتقنين عادات الحرب وأعرافها، باعتبارها أول وثيقة دولية في مجال تدوين قواعد القانون الدولي الإنساني.
وفي عام 1899 عقد مؤتمر لاهاي الأول للسلام والذي تمخض عنه توقيع اتفاقيتين تناولت الأولي قوانين وأعراف الحرب البرية والثانية تناولت مرضى وجرحى الحرب البحرية، ثم عقد مؤتمر لاهاي الثاني عام 1907(5) والذي تمخض عن توقيع اتفاقية لاهاي الرابعة والخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية الموقعة في 18أكتوبر1907، وقد أسهم مؤتمر لاهاي الثاني في وضع حد للأضرار الناجمة عن الحروب
واسفر تطور هذه الجهود لأول مره عن قاعدة المسئولية الجنائية الفردية بإقرار معاهدة فرساي في العام 1919 والتي نصت في مادتها (227) على إنشاء محكمة جنائية دوليه لمحاكمة الإمبراطور الألماني غليوم الثاني عن مسئوليته الدولية في إثارة الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى الرعايا الألمان المتهمين باقتراف جرائم ضد قوانين كخطوة أولى على طريق إقرار قضاء جنائي دولي لمحاكمة الأفراد لارتكابهم جرائم دولية، بعد ما كان سائدًا في الفقه والعمل الدولي من مسئولية الدولة وحدها كأحد أشخاص القانون الدولي، فثبوت مبدأ المسئولية الجنائية يسهم في وضع حد لجرائم الحرب طالما علم الأشخاص أنهم سيتحملون شخصيًا نتائج الجرائم التي يمارسونها.
واستمرت الجهود الدولية في تقنين قوانين وأعراف الحرب حتى جاءت الحرب العالمية الأولي بأهوالها وبكل ما حملته من فظائع وتهديد للإنسانية بالخراب والدمار، إلا أنها لم تقض على كافة الجهود المبذولة على صعيد تجريم الحرب وتحريم اللجوء إليها في العلاقات الدولية. وحتى نهاية الحرب العالمية الأولي لم يكن اللجوء إلى القوة المسلحة كطريقة لتسوية الخلافات الدولية عملاً غير مشروع، واعتبر تقرير لجنة المسئوليات التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الأولى أن حرب الاعتداء ليست جريمة دولية يعاقب عليها قانون الشعوب، فهي مشروعة مهما كانت الدوافع حيث تعتبر من مظاهر السيادة للدول تلتجئ إليها متى شاءت وبالوسائل التي تراها دون ضوابط.
وقطعت البشرية خطوة أخري لتقنين قواعد الحرب في أعقاب المآسي التي خلفتها الحرب العالمية الأولي جاء ميلاد عصبة الأمم في العام 1920 ليشكل الخطوة الأولى لتقييد اللجوء إلي الحرب ولمنع اللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية واعتماد التسوية السلمية كوسيلة لحل النزاعات الدولية فقد اكتفت بتحريم اللجوء للحرب إلى أن يتم استنفاد الشروطالواردة في المادة 12/1 والتي نصت على أن ” يوافق أعضاء العصبة على أنه إذا نشأ نزاع من شأن استمراره أن يؤدي إلى احتكاك دولي على أن يعرضوا الأمر على التحكيم أو التسوية القضائية أو التحقيق بواسطة المجلس ويوافقون على عدم الالتجاء للحرب بأي حال قبل انقضاء ثلاثة شهور على صدور قرار التحكيم أو الحكم القضائي أو تقرير المجلس”.
ونص عهد العصبة علي احترام سلامة أقاليم الدول الأخرى الأعضاء في عهد العصبة، وأن اللجوء للحربيشكل إخلالاًبمبادئ العهدالذي نص على جزاءات تعتبر الذي يخالف تعهداته من الدول الأطراف قد ارتكب فعلاً من أفعال الحرب ضد جميع أعضاء العصبة. ويسير في ذات الإتجاه تم توقيع بروتوكول جنيف بشأن حظر استعمال الغازات الخانقة والسامة والوسائل الجرثومية في الحرب المؤرخ في 17يونية1925. وفي أغسطس 1928 وقع في باريس ميثاق بريان كيلوج أو ما يعرف بميثاق باريس الموقع في خطوة أخري لحظر اللجوء للحرب حيث يعتبر أهم وثيقة دولية بعد الحرب العالمية الأولى وقد تضمنت ديباجته التنازل عن الحرب كوسيلة لتحقيق السياسات القومية، وإحلال علاقات السلم والصداقة بين الدول الأطراف، ونصت المادة الأولى على إدانة اللجوء للحرب كوسيلة لتسوية النزاعات الدولية وقد تلاه في العام1929 توقيع اتفاقيتى جنيف الخاصتى بمعاملة المرضى والجرحى والأسرى في الحرب.
وفي ازدواجية واضحة فننت اتفاقية لندن الموقعة في 8 أغسطس 1945 فرض آراء ومصالح المنتصرين علي المهزومين في شكل قواعد دولية جديدة لم يعرفها القانون الدولي التقليدي من قبل، والتي قضت بمحاكمة مجرمي الحرب النازيين، واليابانيين في محكمتي نورمبرج، وطوكيو برغم ما أخذ عليهما من كونهما تمثلان إرادة المنتصرين حيث حوكم مجرمو الحرب المهزومين ولم يحاكم مجرمو الحرب المنتصرين،إلا أنهما تشكلان أهمية خاصة حيث لأول مرة يتم التطبيق الفعلي لمبدأ المسئـولية الجنائية الفردية وتقديم بعض الأفراد للمحاكمة سواء في المحكمتين الدوليتين نورمبرج، وطوكيو(4) أو في محاكم دول الحلفاء العسكرية التي عرفت بقانون مجلس الرقابة رقم (10) الصادر من الحلفاء الأربعة بصفتهم الحكام العسكريين لألمانيا لعام 1946 لمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وفي تحرك هام كان ميثاق الأمم المتحدة في العام 1945 كأهم وثيقة دولية بشأن تحريم استدام القوة في حل المنازعات الدولية بما يفيد منع الحرب في العلاقات الدولية وقد تضمنت ديباجته “نحن شعوب الأمم المتحدة قد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي من خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانًا يعجز عنها الوصف.
ولم يكتف الميثاق بتحريم استعمال القوة في العلاقات الدولية وإلغاء حق الدول في شن الحرب كوسيلة لفض منازعاتهم، بل حرم مجرد التهديد باستخدام القوة مما يعكس التطور الكبير في قواعد القانون الدولي، إلا أنه لم يتضمن آلية ملزمة لمحاكمة مجرمي الحرب.
وتلي ذلك وفي ذات الإتجاه أيضا توقيع الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في 9ديسمبر 1948 حيث دعت الاتفاقية لإنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، بالإضافة لتأكيدها مبدأ المسئولية الجنائية الفردية.
وأكد قرار مجلس الأمن رقم(955) في 8 نوفمبر1994 بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية لرواندا ويوجوسلافيا السابقة تعزيز مبدأ المسئولية الجنائية الفردية والذي نصت عليه المادة السادسة من النظام الأساسي، والتي اختصت بنظر الجرائم التي تتعلق بالحرب الأهلية وهى الانتهاكات الجسيمة للمادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، والبروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 والتي تعد جرائم حرب بموجب المادة (85) من البروتوكول الأول، وجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية.
وتوج هذه الخطوات تاسيس المحكمة الجنائية الدولية بوجب نظامها الأساسي الموقع في روما والذي دخل حيز التنفيذ علي نحو ما سنتناوله من بيان لاحقا.
ثانياً: إرساء مبدأ الإختصاص العالمي الشامل للمحاكم الوطنية:
استمرارا لمراحل المجتمع الدولي في تجريم وملاحقة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية أكدت اتفاقية جنيف الرابعة المؤرخة في 12 أغسطس1949، مبدأ المسئولية الجنائية الفردية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
وقد تعهدت الدول الأطراف بموجب المواد المشتركة الخاصة بالعقوبات الجنائية المقررة بحق منتهكي هذه الاتفاقيات بأن تتخذ إجراءًا تشريعيًا لفرض عقوبات جنائية شديدة على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف إحدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقية أيًا كانت جنسيتهم أو تسلمهم فقد جعلت محاكمة مجرمي الحرب التزامًا دوليًا يرتب على الدول مسئولية ملاحقتهم بغض النظر عن جنسيتهم، مما يفيد بأن اتفاقيات جنيف أقرت ما يعرف بالاختصاص القضائي العالمي والذي بموجبه يحق لأية دولة موقعة على اتفاقيات جنيف ملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم حرب ومحاكمتهم، وهو ما أكدته المادة 86 من البروتوكول الأول المضاف لاتفاقيات جنيف لعام 1977 الخاصة بقمع الانتهاكات الجسيمة التي تنجم عن التقصير في أداء عمل واجب الأداء.
وقد جاءت نصوص مشروع تقنين الجرائم ضد سلامة وأمن البشرية لعام 1954صريحة في منع اللجوء للقوة في العلاقات الدولية (1) وعدم اعتبار الصفة الرسمية مانعًا للمسئولية. وقررت اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتي اعتمدت بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2391(د-23) في 26 نوفمبر1968 تدعيمًا لكافة الجهود الدولية الهادفة لإقرار مبدأ المسئولية الفردية.
واكتسب قرار الجمعية العامة السابق أهمية خاصة إذ نصت في مادتها الثانية على انطباق أحكام الاتفاقية على ممثلي سلطة الدولة والأفراد الذين يقومون بوصفهم فاعلين أصليين أو شركاء بالمساهمة في ارتكاب أية جريمة، أو بتحريض الغير، أو الذين يتآمرون لارتكابها أو الذين يتسامحون في ارتكابها، ولا يسري التقادم على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بوصفها من أخطر الجرائم في القانون الدولي.
وأعطت الاتفاقية اختصاصًا عالميًا للدول الأطراف في ملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بل ورتبت عليهم التزامًا بتفعيله.
وأقرت الجمعية العامة مبادئ التعاون الدولي في تعقب واعتقال وتسليم الأشخاص مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بقرارها رقم 3074(د-28) المؤرخ في 3ديسمبر1973، والذي أعتبر جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، أيًا كان المكان الذي ارتكبت فيه موضع تحقيق، ومرتكبيها بمن فيهم مواطنيها محل تعقب وتوقيف ومحاكمة.
وأكدت اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار رقم 39/46 المؤرخ في 10ديسمبر 1984 في تأكيد مبدأ المسئولية الجنائية الفردية، وعدم جواز التذرع بالأوامر الصادرة عن موظفين أعلى مرتبة أو عن سلطة عامة كمبرر للتعذيب، ورتبت الاتفاقية التزاما على الدول الأطراف باتخاذ إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعالة لمنع التعذيب في أي إقليم يخضع لاختصاصها القضائي.
وقد طبقت مبدأ المسئولية الجنائية الفردية المحكمة الجنائية ليوغسلافيا السابقة، والتي أنشأت بقرار مجلس الأمن رقم 808 في 22فبراير1993 بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لمحاكمة الأشخاص المسئولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، وقد نصت (م/7) من النظام الأساسي للمحكمة على المسئولية الجنائية الفردية لمرتكبي الجرائم التي اختصت بالنظر فيها، والتي ارتكبت ضد المسلمين في البوسنة والهرسك وهي الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، ومخالفات قوانين وأعراف الحرب، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية.
وتجاوبا مع التطورات المستمرة التي اشرنا اليها لملاحقة الجرائم ضد الإنسانية والحيلولة دون تمكين رؤساء الدول وقادة الجيش والشرطة وكبار المسئولين من التهرب من المسئولية الجنائية عنها.يسرد فقهاء القانون الدولي عددا آخر من الوثائق التى بموجبها تم إرساء مبدأ المسئولية والعقاب عن بعض الجرائم ضد الانسانية ومنها :
1ـ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 95 (1) بتاريخ 11 سبتمبر 1946 الذي أرسى ما سمى بمبادئ نورومبورج والتي عرفت جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وقررت أن الشخص الذي يحتل منصبا رسميا لا يستطيع أن يستخدم منصبه للتهرب من العقاب عن الأفعال التى جرمها القانون الدولي وقد أكدت ذلك المادة 7/2 من النظام الأساسي لنورمبورج والمادة 7/2 من نظام محكمة الشرق الأقصى والمادة 6/2 من نظام الحكم جرائم الصرب 1994 والمادة 27 من نظام المحكمة الخاصة الدولية الموقع في أوربا في 17/8/1598 .
2ـ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2583 (د-24) المتخذ في 15 ديسمبر 1969
3ـ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2712 (د-25) المتخذ في 15 ديسمبر 1970،
4ـ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2840 (د-26) المتخذ في 18 ديسمبر 1971،
5ـ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3020 (د-27) المتخذ في 18 ديسمبر 1972،
6ـ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3448 (30) بتاريخ 9/12/1975 الذي يجرم التعذيب وسوء المعاملة والاعتقال التحكمى، وقد قررت مجموعة العمل الخاصة التي شكلتها الجمعية العامة لهذا الغرض جرائم التعذيب من بين الجرائم ضد الإنسانية وأنه يجب ملاحقتها بواسطة المجتمع الدولي UN DOCAB1259 PAR 511 بتاريخ 8/10/1976 .
7ـ سرد الفقه تأييدا لهذا الرأي ما صدر عن محكمة العدل الدولية I.C.J 1972 Report pov 32 من أن التحريم الذي قرره القانون الدولي لهذه الأفعال يعتبر التزاما فى مواجهة الجميع Irga Omnes وأن من واجب جميع الدول احترامه / ولذلك فإنها لا تستطيع أن تتهرب من التزامها بالملاحقة الجنائية للجرائم ضد الإنسانية وتوقيع العقوبات على مرتكبيها، وقد تأكد هذا المفهوم في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3071 الدورة 38 الصادر في 3/12/1973. كما تناول نفس الاتجاه تقرير لجنة الأمم المتحدة للقانون الدولي في دورتها 48 التى انعقدت سنه 1996 Un doc A/51/10 page 41 .
8ـ استقر مبدأ عدم تقادم هذه الجرائم وعدم انطباق التقادم الوارد فى القرار 2391 (22) للجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر سنه 1968 وأكدت ذلك المادة 29 من نظام المحكمة الجنائية الدولية بل أن مرتكبي هذه الجرائم لا يستطيعون الاستفادة من حق اللجوء المنصوص عليه في اتفاقية اللاجئين الصادرة سنه 1973 A30174UnA (Xxv111)
ويشار هنا أيضا كأساس قانوني هام لهذا المبدأ الي اتفاقية الأمم المتحدة ضد التعذيب وغيره من أشكال استخدام القسوة واللاإنسانية والإهانة فى المعاملة أو فى توقيع العقوبة التى جاء بها قرار الجمعية العامة رقم 39/46 ملحق 39 وثيقة A/39/51 (1984) وقد دخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ في 26/6/1986 كما صدقت عليها من الدول العربية الأردن والكويت والمغرب والسعودية وتونس واليمن .
وحظر القانون الدولي علي الدول إتخاذ أية تدابير، تشريعية أو غير تشريعية، قد يكون فيها مساس بما أخذته علي عاتقها من التزامات دولية فيما يتعلق بتعقب واعتقال وتسليم ومعاقبة الأشخاص المذنبين في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
وهكذا تمكن المجتمع الدولي من التوصل إلي عقيدة ثابتة ومؤكدة لتجريم كل الأعمال التتي تتم ضد الإنسانية مؤسسة في المقام الأول علي اتفاقية جنيف الرابعة وبروتكوليها وهي التي جرمت هذه الأفعال وأنشأت التزاما واضحا علي الدول بالامتناع عن هذه الأفعال وبملاحقتها وتجريمها أيا كان مكان وقوعها أو تاريخ ارتكابها.
9ـ أنه بموجب المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة تعهدت أطرافها بأن تتخذ أي إجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية فعالة على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف إحدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقية، المبينة في المادة التالية: “وكذلك تلزم كل طرف متعاقد بملاحقة المتهمين باقتراف مثل هذه المخالفات الجسيمة أو بالأمر باقترافها، وبتقديمهم إلى محاكمه، أياً كانت جنسيتهم. وله أيضاً، إذا فضل ذلك، وطبقاً لأحكام تشريعه، أن يسلمهم إلى طرف متعاقد معني آخر لمحاكمتهم مادامت تتوفر لدى الطرف المذكور أدلة اتهام كافية ضد هؤلاء الأشخاص. كما على كل طرف متعاقد اتخاذ التدابير اللازمة لوقف جميع الأفعال التي تتعارض مع أحكام هذه الاتفاقية بخلاف المخالفات الجسيمة المبينة في المادة وينتفع المتهمون في جميع الأحوال بضمانات للمحاكمة والدفاع الحر
10 ـ تعدد المادة 147 من الاتفاقية المخالفات الجسيمة التي تشير إليها المادة السابقة وهي التي تتضمن أحد الأفعال التالية إ : القتل العمد، والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة، وتعمد إحداث آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو بالصحة، والنفي أو النقل غير المشروع، والحجز غير المشروع،….، أو حرمانه من حقه في أن يحاكم بصورة قانونية وغير متحيزة وفقاً للتعليمات الواردة في هذه الاتفاقية، وأخذ الرهائن، وتدمير واغتصاب الممتلكات….. وعلى نطاق كبير بطريقة غير مشروعة وتعسفية.
وتحظر المادة 148 من ذات الاتفاقية أي طرف متعاقد أن يتحلل أو يعفي طرفاً متعاقداً آخر من المسئوليات التي تقع عليه أو على طرف متعاقد آخر فيما يتعلق بالمخالفات المشار إليها في المادة السابقة. وأكده الملحق (البروتوكول) الثاني الإضافي 1977إلى اتفاقيات جنيف، المعقودة في 12 أغسطس 1949المتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية والذي جاء في ديباجته إن الأطراف السامية المتعاقدة تذكر أن المبادئ الإنسانية التي تؤكدها المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف المعقودة في 12 أغسطس 1949 تشكل الأساس الذي يقوم عليه احترام شخص الإنسان في حالات النزاع المسلح الذي لا يتسم بالطابع الدولي،وإذ تذكر أيضاً أن المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان تكفل لشخص الإنسان حماية أساسية، وتؤكد ضرورة تأمين حماية أفضل لضحايا هذه المنازعات المسلحة، وتذكر أنه في الحالات التي لا تشملها القوانين السارية يظل شخص الإنسان في حمى المبادئ الإنسانية وما يمليه الضمير العام،وتقضي المادة الأولي من البروتوكول الثاني على سريانه علي‘جميع المنازعات المسلحة التي لا تشملها المادة الأولى من الملحقالأول والتي تدور على إقليم أحد الأطراف السامية المتعاقدة بين قواته المسلحة وقوات مسلحة منشقة أو جماعات نظامية مسلحة أخرى، ولكن المادة الثانية نصت علي عدم سريان هذه الأحكام على حالات الاضطرابات والتوتر الداخلية مثل الشغب وأعمال العنف العرضية التي لا تعد منازعات مسلحة.
غير أن المادة الثالثة قضت بأنه لا يجوز الاحتجاج بأي من أحكام هذا اللحق ” البروتوكول ” بقصد المساس بسيادة أية دولة أو بمسئولية أية حكومة.وفيما يتعلق بالمعاملة الإنسانية أوردت المادةالرابعة مراعاة الضمانات الأساسية بأن يكون لجميع الأشخاص الذين لا يشتركون بصورة مباشرة أو الذين يكفون عن الاشتراك في الأعمال العدائية–سواء قيدت حريتهم أم لم تقيد– الحق في أن يحترم أشخاصهم وشرفهم ومعتقداتهم وممارستهم لشعائرهم الدينية ويجب أن يعاملوا في جميع الأحوال معاملة إنسانية دون أي تمييز مجحف. ويحظر الأمر بعدم إبقاء أحد على قيد الحياة.
وحظر البوتوكل بصورة شاملة :الاعتداء على حياة الأشخاص وصحتهم وسلامتهم البدنية أو العقلية ولاسيما القتل والمعاملة القاسية كالتعذيب أو التشويه أو أية صورة من صور العقوبات البدنية، غير أن أحكام البروتوكول الثاني لا تسري على حالات الاضطرابات والتوتر الداخلية مثل الشغب وأعمال العنف العرضية وغيرها من الأعمال ذات الطبيعة المماثلة التي لا تعد منازعات مسلحة.
ثالثاً: الدول الكبري والتهرب من تطبيق الاختصاص العالمي
يمثل الاختصاص العالميcompetence universelle استثناءا لمبدأ الإقليمية في قانون العقوبات. وهو يرتكز على الدفاع عن المصالح والقيم ذات البعد العالمي ويتمثل في فكرة أن أي قاضي وطني يمكنه إيقاف، محاكمة أو تسليم مرتكبي الجرائم المذكورة في الاتفاقيات الدولية أو في القانون العرفي،”خاصة جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية” ، بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة ، جنسية مرتكبها وجنسية الضحايا. ولما كانت ظاهرة الإفلات من العقاب توجد بالأساس عندما تتقاعس السلطات المحلية في البلدان التي تأثرت بالجرائم عن العمل، يمكن مبدأ الاختصاص العالمي النظم القضائية المدنية لجميع البلدان الأخرى من النهوض بمهمة النظر في تلك الجرائم بالنيابة عن المجتمع الدولي وكذلك منح تعويضات للضحايا. تتجنب الدول تطبيق الاختصاص العالمي تذرعا بالحصانة التي يتمتع بها السياسيين الأجانب أو أولوية محاكمة الدولة لرعاياها.
ذكر مبدأ الاختصاص العالمي صراحة لأول مرة في اتفاقياتجنيفلعام 1949.إن المواد التي تتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر بجرائم الحرب ومعاقبتها من اتفاقياتجنيفالأربع لعام 1949هي المواد (1) و(29) و(146) و(147) من اتفاقيةجنيفالرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب وما يقابلها من مواد في الاتفاقيات الثلاث الأخرى علما بان المادتين (1)و(29) تقرران مسئولية الدولة ، والمادتان (146) و(147) تقرران مسئولية الأفراد.
المادة 146: تقضي بإلزام الدول الأطراف في الاتفاقية بوضع التشريعات الوطنية اللازمة لفرض عقوبات فعالة بحق الأشخاص الذين يقترفون إحدى المخالفات الخطيرة الوارد ذكرها في المادة التالية أو يأمرون بها. كما تضع على عاتق هذه الدول التزاما قانونيا صريحا بوجوب البحث عن الأشخاص المتهمين باقتراف مثل هذه المخالفات الخطيرة أو من أمروا بها وتقديمهم- بغض النظر عن جنسيتهم – إلى محاكمها الوطنية لتنظر في جرائمهم ا وان تسلمهم إلى طرف آخر من الأطراف لمحاكمتهم بشرط أن يكون لدى هذا الطرف الأخير أدلة اتهام كافية ضد هؤلاء الأشخاص.
أما المادة 147: تعتبر جريمة القتل العمد، التعذيب أو المعاملة غير الإنسانية، الاعتقال غير القانوني، أخذ الرهائن، التدمير الشامل للممتلكات والترحيل والإبعاد غير القانوني لأشخاص محميين من الأعمال التي تشكل مخالفات خطيرة ويجب على كل دولة أن تسن تشريعا للمعاقبة عليها.
ويعتبر مرتكبوا المخالفات الوارد ذكرها في المادة 147مجرمي حرب دوليين يمكن لأي دولة محاكمتهم ومعاقبتهم – استنادا للمادتين 1و146 من الاتفاقية – إذا لم تشأ تسليمهم إلى الدولة التي ارتكبوا جرائمهم في أراضيها أو ضد أملاكها ورعاياها – بينما يعتبر مرتكبوا المخالفات الأخرى التي تشكل خرقا لأحكام الاتفاقية مجرمين عاديين لا يعاقبون على أعمالهم إلا إذا نص القانون الجنائي الوطني للدولة التي تريد محاكمتهم على تجريم الأعمال التي قاموا بها.
غير أن هناك بعض العوائق التي تعترض تطبيق مبدأ الاختصاص العالمي. بعضها عملية مثل وجود الأدلة في الخارج وصعوبة إثباتها. وعوائق مادية، فالتحقيق في العديد من الجرائم يكلف مبالغ باهظة ، إذ أن من الصعب أحيانا علي القاضي النظر في دعاوى جرائم ارتكبت على بعد آلاف الأميال في بلاد لا يتقن لغاتها وليس له معرفة بتاريخها وعاداتها وتقاليدها. لم يستطع هذا المبدأ في أن يحول دون إفلات بعض الدول من العقاب، سنرى ذلك من خلال القانون الذي تبناه القضاء البلجيكي قبل أن يتراجع عنه أمامالولاياتالمتحدةالأمريكية التي لم تتردد في استغلال نفوذها في مجلس الأمن للتهرب من العقاب وأخيرا عدم الاعتراف به من قبل محكمة العدل الدولية.
رابعاً: محاكمة المتمتعين بالحصانة الدبلوماسية
عملت المحكمة الجنائية الدولية في المادة27 من نظامروماالأساسي على إسقاط امتياز الحصانة الذي يعتبر من الضمانات القانونية الدولية المتعارف عليها لحماية رموز الدولة الذين يمثلون رمز السيادة الوطنية والتي أكدت أحكام القانون الدولي على حمايتها وصونها في المادتين29و31 من اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لعام1961 والمادتين41 و43 من اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963. ونظام الحصانة كان دوما مثارا للجدل، فتحديه لقانون الاختصاص العالمي البلجيكي في قضية الكونغو ضدبلجيكابتاريخ 11 أبريل2000 (قضية يروديا ) أثار ردود فعل واسعة، كالتساؤل عن ترادف مصطلحين وأوجه الشبه بينهما هما “الحصانة والإفلات من العقاب، Immunity=Impunity.
وتتلخص وقائع القضية في أنبلجيكاأصدرت تهمة بالقبض بحق وزير خارجية الكونغو عبد الله يروديا ندومباسي لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، اعترضت جمهورية الكونغو الديمقراطية واعتبرتها انتهاكا للحصانة الدبلوماسية للوزير، ورفعت دعوى ضدبلجيكاأمام محكمة العدل الدولية التي أصدرت حكمها قائلة أن تهمة القبض على الوزير تمثل انتهاكا لالتزام قانوني تجاه جمهورية الكنغو الديمقراطية وهي حماية الحصانة القضائية الكاملة للدبلوماسي التي يتمتع بها بموجب القانون الدولي.
وقد قامت محكمة العدل الدولية بعمل مراجعة دقيقة للتشريعات الوطنية الداخلية المختلفة بالإضافة إلى القرارات الدولية والسوابق القضائية لم تجد -في القانون الدولي العرفي- أي دليل يذكر عن وجود أي استثناء لقاعدة حماية حصانة وزراء الخارجية في حالة ارتكابهم جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. مما يعني بأن قواعد القانون الدولي التي تخص أجهزة الدولة الخارجية لها أولوية على قواعد القانون الداخلي التي تحكم اختصاص المحاكم الوطنية حتى في حالة تمتع هذه المحاكم باختصاص واسع بموجب عدة معاهدات دولية لقمع بعض الجرائم الخطيرة.
الجدير بالذكر أن هذا الحكم الصادر في14 فبراير2002 قد حدد الحالات التي لا تشكل الحصانة التي يتمتع بها وزير خارجية أو وزير خارجية سابق، مانعا لمسئوليته الجنائية. هذه الحالات هي: إذا كان ملاحقا من قبل دولته، وإذا رفعت الدولة الحصانة عن رعاياها، وإذا كان المسئول ملاحقا من محكمة دولية مختصة ad hoc،مثل محاكم يوغسلافيا ورواندا.
والحالة الجديرة بالاهتمام هي عندما يتوقف المسئول عن مباشرة وظيفته، يمكن ملاحقته في الخارج بتهمة ارتكاب مخالفات حدثت قبل استلامه المهام أو بعد تركه لها، أو بتهمة جرائم ارتكبها بصفته الشخصية أثناء ممارسته لوظيفته. ولكن تهمة القبض التي أصدرتهابلجيكالا تخص أي من الحالات المذكورة، لذا فان قرار محكمة العدل الدولية اعتبرها انتهاكا من جانببلجيكالالتزام دولي ألا وهو حماية الحصانة الكاملة لوزير الخارجية الكنغولي.
ولم تفصل المحكمة في مسألة الاختصاص العالمي لأسباب إجرائية، ولكن رئيس المحكمة بعد الحكم بتأكيد الحصانة أضاف رأيا قانونيا ” أن القانون الدولي لا يعترف بمبدأ الاختصاص العالمي خارج نطاق المعاهدات الدولية. ذلك أن تطبيقه يمكن أن يسبب الكثير من المشاكل خاصة بين الدول الكبرى، لم يجد مبدأ الاختصاص العالمي الإجماع والقبول الكافيين. أقر وزير الخارجية البلجيكي لويس ميشيل بأن قانون 1993 به نقاط ضعف تحتاج للمراجعة. وأقر البرلمان الفرنسي بتصويت حوالي50 نائب فقط مشروع للاختصاص العالمي، أثار غضب منظمات حقوق الإنسان التي وصفته بدعم الإفلات من العقاب.
فقد تبنى البرلمان الفرنسي في13يوليو2010مشروع قانون الاختصاص العالمي الذي يؤهل القضاء لملاحقة ومحاكمة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية، جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ولكن بالنظر في شروط تطبيقه نلاحظ أنه يفرغ مبدأ الاختصاص العالمي من جوهره ويبدو مساندا للإفلات من العقوبة : لا يحق للضحايا رفع الدعاوى، هذا الحق يتمتع به النائب العام وحده، ويشترط إقامة المتهمين بصورة دائمة في الأراضي الفرنسية، ويشترط أن يكون الجريمة معاقبا عليها أصلا في قانون القطر الذي ارتكبت فيه، حتى يمكن للمحاكم الفرنسية تطبيق الاختصاص العالمي.
وهنا تجدر الإشارة إلى جهود بعض الخبراء القانونيين فيما يسمى ب”مبادئ برنستون”، وهي عبارة عن وثيقة قانونية تصلح كدليل لمبدأ الاختصاص العالمي. وتقوم بتنسيق وتوحيد التشريعات المختلفة فيما يتعلق بالاختصاص العالمي. إضافة لتميزها بالاعتراف بحصانة مؤقتة لمسئولي الدولة أثناء توليهم لمناصبهم تنتهي بانتهاء فترة عملهم ، فلكي يجد مبدأ الاختصاص العالمي قبولا واسعا بين الدول، يجب أن يطبق بمعايير وأسس يتفق عليها الجميع، أي لا يكون حكرا على الدول الكبرى الغنية. عندئذ بالإمكان مثول شخصيات مثل أريل شارون وجورج بوش للمحاكمة أمام محاكم إفريقية، آسيوية، أو أوروبية، لارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
تنص المادة من نظامروماالأساسي على ما يلي :
“1-لا يجوز للمحكمة أن توجه طلب تقديم أو مساعدة يقتضي من الدولة الموجه إليها الطلب أن تتصرف على نحو يتنافى مع التزاماتها بموجب القانون الدولي فيما يتعلق بحصانات الدولة أو الحصانة الدبلوماسية لشخص أو ممتلكات تابعة لدولة ثالثة، ما لم تستطع المحكمة أن تحصل أولا على تعاون تلك الدولة الثالثة من أجل التنازل عن الحصانة
2ـ لا يجوز للمحكمة أن توجه طلب تقديم يجبر الدولة الموجه إليها الطلب أن تتصرف على نحو لا يتفق مع التزاماتها بموجب اتفاقات دولية تقتضي موافقة الدولة المرسلة كشرط لتقديم شخص تابع لتلك الدولة إلى المحكمة، ما لم يكن بوسع المحكمة أن تحصل أولا على تعاون الدولة المرسلة لإعطاء موافقتها على التقديم.”
خامساً: ملاحقة الجرائم ضد الانسانية وفقا لاتفاقية جنيف الرابعة:
لدينا رأي سائد في فقه القانون الدولي بأن جرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية تخضع لما يسمي اختصاص دولي عام Universal Jurisdiction وأن هذا المبدأ تم تطبيقه في محاكمات نورومبورج واعتبرها من القواعد الأساسية Fundamental Norms في مفهوم اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات . وعليه يصبح للقاضي الوطني في اي دولة في العالم ان ينظر في هذه الجرائم وأن يحكم علي مرتكبها بالعقوبات المقررة في قانونه الجنائي الوطني عن الأعمال المماثلة (قتل..تعذيب..حصار..عقوبات جماعية..تدمير مدن ومرافق..استخدام أسلحة محرمة دوليا.
وكذلك تعتبر جرائم الإعتقال دون إذن قضائي والتعذيب وغيرها التي نحن بصددها من جرائم الحرب وفقا لنصوص اتفاقية جنيف الرابعة (وقبلها قواعد لاهاي 1907 ) وخاصة في قسميها الثاني الخاص بحماية المدنيين من بعض نتائج الحرب (المواد من 13-26) والثالث( المواد 47-78) وعلي وجه خاص المادة 147 التي تتعلق بالمخالفات التي تخلف عواقب وخيمة وتستلزم محاكمة المسئولين عنها.
وقد جاء ذكر مبدأ الاختصاص العالمي صراحة لأول مرة في اتفاقياتجنيفلعام 1949. في المواد التي تتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر بجرائم الحرب ومعاقبتها من اتفاقياتجنيفالأربع لعام 1949هي المواد(1) و(29) و(146) و(147) من اتفاقيةجنيفالرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب وما يقابلها من مواد في الاتفاقيات الثلاث الأخرى علما بان المادتين (1)و(29) تقرران مسئولية الدولة ، والمادتان (146)و(147) تقرران مسئولية الأفراد.، حيث تقضي بإلزام الدول الأطراف في الاتفاقية بوضع التشريعات الوطنية اللازمة لفرض عقوبات فعالة بحق الأشخاص الذين يقترفون إحدى المخالفات الخطيرة الوارد ذكرها في المادة التالية أو يأمرون بها. كما تضع على عاتق هذه الدول التزاما قانونيا صريحا بوجوب البحث عن الأشخاص المتهمين باقتراف مثل هذه المخالفات الخطيرة أو من أمروا بها وتقديمهم- بغض النظر عن جنسيتهم – إلى محاكمها الوطنية لتنظر في جرائمهم ا وان تسلمهم إلى طرف آخر من الأطراف لمحاكمتهم بشرط أن يكون لدى هذا الطرف الأخير أدلة اتهام كافية ضد هؤلاء الأشخاص. أما المادة 147فتعتبرجريمة القتل العمد، التعذيب أو المعاملة غير الإنسانية، الاعتقال غير القانوني، أخذ الرهائن، التدمير الشامل للممتلكات والترحيل والإبعاد غير القانوني لأشخاص محميين من الأعمال التي تشكل مخالفات خطيرة ويجب على كل دولة أن تسن تشريعا للمعاقبة عليها.
ويعتبر مرتكبو المخالفات الوارد ذكرها في المادة 147مجرمي حرب دوليين يمكن لأي دولة محاكمتهم ومعاقبتهم – استنادا للمادتين المذكورتين من الاتفاقية – إذا لم تشأ تسليمهم إلى الدولة التي ارتكبوا جرائمهم في أراضيها أو ضد أملاكها ورعاياها – بينما يعتبر مرتكبو المخالفات الأخرى التي تشكل خرقا لأحكام الاتفاقية مجرمين عاديين لا يعاقبون على أعمالهم إلا إذا نص القانون الجنائي الوطني للدولة التي تريد محاكمتهم على تجريم الأعمال التي قاموا بها.
وهناك بعض العوائق التي تعترض تطبيق مبدأ الاختصاص العالمي. بعضها عملية مثل وجود الأدلة في الخارج وصعوبة إثباتها. وعوائق مادية، فالتحقيق في العديد من الجرائم يكلف مبالغ باهظة ، إذ أن من الصعب أحيانا علي القاضي النظر في دعاوى جرائم ارتكبت على بعد آلاف الأميال في بلاد لا يتقن لغاتها وليس له معرفة بتاريخها وعاداتها وتقاليدها. لم يستطع هذا المبدأ في منع إفلات بعض الدول من العقاب، سنرى ذلك من خلال القانون الذي تبناه القضاء البلجيكي قبل أن يتراجع عنه أمامالولاياتالمتحدةالأمريكية.
وكان أول تطبيق واضح للاختصاص الشامل هو قضية الجنرال بينوشيه طاغية شيلي التي سنشير إليها لاحقا. والتي استندت المحاكم البريطانية في الإختصاص نظرها إلى قاعدة “عالمية الاختصاص القضائي”، أي المبدأ الذي يقضي بأنه من مصلحة كل دولة أن تحيل إلى العدالة مرتكبي جرائم معينة تهم المجتمع الدولي بأسره، بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة، وبغض النظر عن جنسية مرتكبيها أو جنسية ضحاياها.
ويعتمد الاختصاص القضائي بجريمة ما، في الأحوال العادية، على الصلة بين الدولة التي ترفع الدعوى وبين الجريمة نفسها، وهي صلة إقليمية في العادة؛ “أما في حالة الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية”، على نحو ما أوضح أحد كبار المحامين، “فيكفي أن تكون هذه الصلة أننا جميعاً من أبناء البشر”. والسبب الواقعي الرئيسي لنص القانون الدولي على عالمية الاختصاص القضائي هو أن يضمن عدم إتاحة “الملجأ الآمن” للمسؤولين عن ارتكاب أخطر الجرائم
سادساً: سريان المسئولية الجنائية علي الجرائم التي تحدث داخل الدول:
ازداد عدد الجرائم التي تتطلب عالمية الاختصاص القضائي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وطالت القائمة فأصبحت تتضمن كثيراً من الفظائع التي ترتكب داخل الحدود الوطنية، مثل جريمة الإبادة الجماعية، والتعذيب، والفصل العنصري، وغيرها من “الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية”.
وقد قدمت إسرائيل أول تطبيق مشهود لهذه الملاحقة ففي عام 1961 قامت إسرائيل باختطاف ومحاكمة أدولف أيخمان وأدانته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، واعتمدت في ذلك، إلى حد ما، على مبدأ عالمية الاختصاص القضائي.
كما نظرت إحدى محاكم الولايات المتحدة قضية هامة أصبحت من معالم تاريخ القضاء، وهي قضية فيلا اروتيجا التي رفعت فيها أسرة شخص من باراجواي كان من ضحايا التعذيب ثم انتقل للإقامة في الولايات المتحدة، دعوى مدنية ضد من قام بتعذيبه بعد أن انتقل هو أيضاً إلى الولايات المتحدة؛ وقالت المحكمة في حكمها: “لقد أصبح مرتكب التعذيب، مثل القرصان وتاجر الرقيق من قبله، عدواً للبشرية بأسرها “.
وفي هذا السياق تبرز قضية الجنرال “بينوشيه” طاغية شيلي، كواحدة من أشهر وأوائل الجرائم التي تنطبق عليها عالمية الاختصاص القضائي العالم هي من العسكريين في شيلي عام 1973وكان الجنرال بينوشيه كان قد أقام لنفسه ولمعظم شركائه هيكلاً قانونياً يكفل لهم الإفلات التام من العقاب ـ أو قل إن ذلك ما كان يتصوره.
ففي ليلة 16 أكتوبر 1998 ألقت شرطة مدينة لندن القبض على الجنرال أوغسطو بينوشيه، بناءً على أمر قضائي إسباني أصدره القاضي الأسباني بلتسار جارثون بالقبض على الدكتاتور السابق بتهمة ارتكاب جرائم ضد حقوق الإنسان في شيلي إبان فترة حكمه التي دامت 17 عاماً؛ ورفضت المحاكم البريطانية ما زعمه بينوشيه من الحق في الحصانة، وحكمت بجواز تسليمه إلى إسبانيا لمحاكمته هناك.وقد قدمت إسبانيا طلباً رسمياً بتسليم بينوشيه إليها، وحذت حذوها كل من بلجيكا وفرنسا وسويسرا. وطعن بينوشيه في أمر اعتقاله بدعوى أنه يتمتع بالحصانة من الاعتقال والتسليم لبلد آخر باعتباره رئيس دولة سابقاً.
ولكن مجلس اللوردات البريطاني، وهو أعلى محكمة في بريطانيا، رفض مرتين مزاعم الحصانة التي قدمها بينوشيه؛ فقضى في الحكم الأول، الذي ألغاه فيما بعد، بأن رئيس الدولة السابق يتمتع بالحصانة فيما يتعلق بالأفعال التي يقوم بها في إطار ما يؤديه من وظائف باعتباره رئيساً للدولة، ولكن الجرائم الدولية مثل التعذيب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية ليست من “وظائف” رئيس الدولة.
أما في الحكم الثاني، الذي كان ذا نطاق أضيق، فقد أفتى مجلس اللوردات بأنه ما دامت بريطانيا وشيلي قد صادقتا على “اتفاقية مناهضة التعذيب” الصادرة عن الأمم المتحدة، فليس من حق بينوشيه أن يطالب بالحصانة من المحاكمة فيما يتعلق بالتعذيب. ومن ثم حكم أحد القضاة البريطانيين بجواز تسليم بينوشيه إلى إسبانيا بناءً على اتهامه بارتكاب التعذيب والتآمر لارتكاب التعذيب. ولكن الفحوص الطبية التي أُجريت على بينوشيه أظهرت، فيما قيل، أنه لم يعد يتمتع بالأهلية العقلية اللازمة لمحاكمته؛ ومن ثم أُفرج عنه في مارس 2000 وعاد إلى وطنه شيلي، إلا أنه فوجئ بالغاء النص الذي يحصنه في الدستور الشيلي ومحاكمته .
وقد وصفت منظمة “مراقبة حقوق الإنسان” اعتقال بينوشيه بأنه “رنين الهاتف الذي يوقظ” الطغاة في كل مكان، وقال ريد برودي، من منظمة “مراقبة حقوق الإنسان”، الذي عمل في قضية بينوشيه وقضية حبري: “إن قضية بينوشيه قد أكدت من جديد مبادئ القانون الدولي التي تقضي بأن بلداً ما يستطيع محاكمة مرتكب جريمة التعذيب، بغض النظر عن مكان ارتكابها، وأنه لا حصانة من المحاكمة حتى لرئيس دولة سابق؛ ولكنها أظهرت لنا أيضاً أن هناك بلداناً يمكن تطبيق هذه المبادئ السامية فيها عملياً، ولنا أن نعد السنغال اليوم من بين هذه البلدان.
وأثارت قضية بينوشيه في بريطانيا من غير المؤكد ما إذا كان القانون الدولي العرفي يستطيع أن يسمو علي قاعدة اقليمية الجريمة دون الاستناد الي قانون بريطاني كما بدي في احكام مجلس اللوردات. وهكذا فإن القضايا المرفوعة ضد بينوشيه في بلجيكا وفرنسا وسويسرا كانت تستند إلى الشكاوى التي قدمها أفراد من مواطني هذه الدول، وزعموا فيها أنهم تعرضوا للضرر على يدى بينوشيه في شيلي. ولا شك أن وجود ضحايا من أبناء الدولة نفسها يزيد من المصلحة السياسية للدولة في إقامة الدعوى.
سابعاً: الإختصاص العالمي في مواجهة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية
أسقط نظام روما الأساسي في المادة 27 امتياز الحصانة الذي يعتبر من الضمانات القانونية الدولية المتعارف عليها لحماية رموز الدولة الذين يمثلون رمز السيادة الوطنية والتي أكدت أحكام القانون الدولي على حمايتها وصونها في المادتين29و31 من اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لعام1961 والمادتين41 و43 من اتفاقية فينا للعلاقات القنصلية لعام 1963.
ونظام الحصانة كان دوما مثارا للجدل، فتحديه لقانون الاختصاص العالمي البلجيكي في قضية الكونغو ضدبلجيكابتاريخ 11 أبريل2000 (قضية يروديا) أثار ردود فعل واسعة، كالتساؤل عن ترادف مصطلحين وأوجه الشبه بينهما هما “الحصانة والإفلات من العقاب”. تتلخص وقائع القضية في أنبلجيكاأصدرت أمرا بالقبض بحق وزير خارجية الكونغو عبد الله يروديا ندومباسي لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، اعترضت جمهورية الكونغو الديمقراطية واعتبرتها انتهاكا للحصانة الدبلوماسية للوزير، ورفعت دعوى ضدبلجيكاأمام محكمة العدل الدولية التي أصدرت حكمها قائلة أن تهمة القبض على الوزير تمثل انتهاكا لالتزام قانوني تجاه جمهورية الكنغو الديمقراطية وهي حماية الحصانة القضائية الكاملة للدبلوماسي التي يتمتع بها بموجب القانون الدولي.
وقد قامت محكمة العدل الدولية بعمل مراجعة دقيقة للتشريعات الوطنية الداخلية المختلفة بالإضافة إلى القرارات الدولية والسوابق القضائية لم تجد -في القانون الدولي العرفي- أي دليل يذكر عن وجود أي استثناء لقاعدة حماية حصانة وزراء الخارجية في حالة ارتكابهم جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. مما يعني بأن قواعد القانون الدولي التي تخص أجهزة الدولة الخارجية لها أولوية على قواعد القانون الداخلي التي تحكم اختصاص المحاكم الوطنية حتى في حالة تمتع هذه المحاكم باختصاص واسع بموجب عدة معاهدات دولية لقمع بعض الجرائم الخطيرة.
ثامناً: المعاهدات الدولية والقوانين الوطنية والجرائم ضد الإنسانية:
في بلدان كثيرة نجد أن المعاهدات (بل والقانون الدولي القائم على العرف في بعض الحالات) تصبح بصورة تلقائية جزءاً من القانون الوطني، دون حاجة إلى إصدار تشريع محدد “بتنفيذ” تلك المعاهدات، وذلك أساساً في البلدان التي استوحت قانونها المدني من تقاليد القانون المدني الفرنسي، على نحو ما نشهده في بلدان إفريقيا الناطقة بالفرنسية.
وصدرت هذه الملاحقات والأحكام علي أساس أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية تخضع لما يسمي اختصاص دولي عام Universal Jurisdiction الذي قررته اتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكول الأول الملحق بها، وهذا المبدأ نشأ وتم تطبيقه لأول مرة، قبل توقيع اتفاقية جنيف الرابعة، في محاكمات نورومبورج وتم اعتبارها من القواعد الأساسية Fundamental Norms في مفهوم اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات.
وتصر بلدان كثيرة على ضرورة “إدماج” المعاهدات بصورة محددة في القوانين الوطنية قبل الارتكان إليها؛ وكثيراً ما تقوم البلدان بالمصادقة على المعاهدة ثم لا تصدر اللوائح التنفيذية لإدماج المعاهدة في القانون الوطني.
حيث توجد في بلدان كثيرة تشريعات محددة تضع “اتفاقية مناهضة التعذيب” موضع التنفيذ، مثل قانون العدالة الجنائية في المملكة المتحدة، قبل تعديله وهو ينص على ما يلي: “تتوافر أركان جريمة التعذيب إذا تعمد مسؤول حكومي أو أي شخص يمارس عمله باعتباره مسؤولاً حكومياً، أياً كانت جنسيته، وسواء كان ذلك في المملكة المتحدة أو في أي مكان آخر، إحداث ألم أو معاناة شديدة لغيره، في غضون أدائه لواجباته الرسمية أو بقصد أدائه لهذه الواجبات”. وتوجد تشريعات مماثلة فيما يتعلق بالتعذيب لدى دول أخرى من بينها أستراليا وكندا وبلجيكا وفرنسا ومالطا، وهولندا، ونيوزيلندا والولايات المتحدة.
وعلى غرار ذلك قامت بلدان كثيرة بإدماج اتفاقيات جنيف في قوانينها الوطنية، وإن كان ذلك عادة دون التعميم الذي تتسم الاتفاقيات به؛ وهكذا فإن قوانين الولايات المتحدة تقضي بمعاقبة “كل من يرتكب جريمة حرب، سواء أكان ذلك داخل الولايات المتحدة أم خارجها”، وهي تحدد جريمة الحرب هنا بأنها أي انتهاك خطير لاتفاقيات جنيف أو أي انتهاك للمادة الثالثة المشتركة بينها. ولكن هذا النص لا يُطبَّق إلا إذا كان الجاني أو المجني عليه فرداً من أفراد قوات الولايات المتحدة أو مواطناً من مواطنيها.
ولدي اللجنة الدولية للصليب الأحمر بيان وافي بأسماء كثير من البلدان التي أدرجت في قوانينها الأحكام الخاصة بجرائم الحرب المرتكبة خارج إقليمها وبعض البلدان التي تمنح محاكمها الاختصاصات والسلطة اللازمة لمحاكمة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية خارج إقليمها، مثل بلجيكا وكوستاريكا وألمانيا ونيكاراجوا وإسبانيا. وثمة بلدان قليلة لديها من القوانين ما يسمح بصفة محددة بمحاكمة من يرتكب جريمة ضد الإنسانية في الخارج، ومن بينها بلجيكا وفرنسا وإسرائيل وفنزويلا؛ كما إن بعض بلدان شمال أوروبا، مثل النرويج والسويد، تعتبر أن جميع الجرائم المرتكبة في الخارج من الجرائم التي يعاقب عليها القانون مادام مرتكبها موجوداً في دولة الادعاء.
ولكن الصورة ليست وردية تماما فما زالت إرادة الدولة التي ترفع الدعوى عنصرا هاما في حسم إمكانية مقاضاته، خصوصاً إذا كان القانون لا يسمح للمجني عليهم بالشروع في إجراءات التقاضي الجنائي بصورة مباشرة. ففي حالة بينوشيه، قامت الشرطة البريطانية على الفور بتنفيذ الأمر القضائي الذي أرسلته إسبانيا لإلقاء القبض عليه؛ كما قام وزير الداخلية البريطاني جاك سترو مرتين باتخاذ القرار الصعب من الناحية الدبلوماسية وهو قرار السماح بالمضي في إجراءات طلب التسليم الذي قدمته إسبانيا.
وأغلب الظن أن بعض الدول الأخرى، إذا واجهت مثل هذا الموقف، ستميل إلى اتخاذ قرار يعفيها من الثمن السياسي الذي لابد من دفعه مقابل الخروج على الأوضاع الدولية الراهنة، على نحو ما حدث في النمسا سنة 1999 لتفادي مقاضاة صدام حسين ومن جنوب افريقيا في العام ذاته بالتغاضي عن ملاحقة منجستو هايلي ماريام دكتاتور اثيوبيا بتهمة الإبادة الجماعية. وعندما اعتقل أبو داود في فرنسا عام 1976، وهو المتهم في حادثة المذبحة التي وقعت لفريق ألعاب القوى الإسرائيلي في دورة ميونيخ الأوليمبية عام 1972، لم تأبه باريس لطلبات تسليمه التي قدمتها ألمانيا الغربية وإسرائيل، بل أطلقت سراحه بعد القبض عليه بأربعة أيام.
وعلي العكس من ذلك سمحت السنغال بالسير في إجراءات الدعوى المرفوعة على حسين حبري دون تدخل سياسي، وتفخر السنغال بأنها كانت أول دولة في العالم تصادق على معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، كما كان لها وجودها البارز في القضايا الدولية لحقوق الإنسان. ومن الصعوبات التي تعرقل الملاحقة القانونية حيث يتعذر غالبا إقناع قضاة بعض الدول بالتحقيق في جريمة ارتكبت خارج بلده لتشابك الإختصاص وعدم توفر مواد الإدانة تصلح للملاحقة في التشريع الداخلي.
وفي عام 1985 قضت إحدى محاكم الولايات المتحدة بالسماح بتسليم جون ديميانيوك إلى إسرائيل، الذي زُعم أنه ارتكب جريمة الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية أثناء الحرب العالمية الثانية، بناءً على حق إسرائيل في رفع الدعوى الذي يستند إلى عالمية الاختصاص القضائي. (ولكن ديميانيوك أُطلق سراحه، بعد محاكمته وصدور الحكم بإعدامه في إسرائيل، وذلك على أساس عدالة الإجراءات، بعد أن أثارت الأدلة المقدمة شكوكاً في صحة إثبات التهمة المحددة التي أدت إلىتسليمه لإسرائيل.
ومن الملاحظ أن مثل هذه الملاحقات قد تزايدت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ففي أعقاب جرائم الإبادة الجماعية التي وقعت في يوغوسلافيا السابقة وفي رواندا، أحال عدد من البلدان الأوروبية مرتكبيها إلى المحاكمة استناداً إلى مبدأ عالمية الاختصاص القضائي؛ ففي بلجيكا، اعتقلت السلطات البلجيكية مواطناً رواندياً يُدعى فنسنت نتزيمانا، ووجهت إليه تهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. وفي ألمانيا، حكمت محكمة عليا من محاكم بافاريا على مواطن من صرب البوسنة يدعى نوفيسلاف ديايتش بالسجن خمس سنوات في عام 1997، بموجب اتفاقيات جنيف، بتهمة المعاونة والتواطؤ في قتل 14 رجلاً من مسلمي البوسنة في عام 1992.
وفي سبتمبر 1997 حكمت محكمة دوسلدورف العليا على نيكولا يورغيتش، الزعيم الأسبق لإحدى الجماعات البرلمانية الصربية، بالسجن المؤبد بعد إدانته بإحدى عشرة تهمة في إطار جريمة الإبادة الجماعية، وثلاثين تهمة بجريمة القتل العمد؛ ولكنها لم تبت بعد في قضية ثالثة مرفوعة ضد رجل من صرب البوسنة متهم بجريمة الإبادة الجماعية. وفي الدانمرك، يقضي رجل من مسلمي البوسنة يُدعى رفيق ساريتش حكماً بالسجن ثماني سنوات لارتكابه جرائم الحرب، بعد أن وُجِّهت إليه تهمة تعذيب المعتقلين في أحد السجون التي كان يديرها الكرواتيون في البوسنة عام 1993، وذلك بموجب اتفاقيات جنيف.
وفي إبريل 1999 أدانت إحدى المحاكم العسكرية السويسرية مواطناً روانديا بارتكاب جرائم حرب في رواندا. وتحاكم السلطات الهولندية حالياً رجلاً من صرب البوسنة بتهمة ارتكاب جرائم حرب، أمام محكمة عسكرية. كما تحاكم السلطات الفرنسية حالياً قساً رواندياً يدعى ونسيسلاس مونيشياكا، بتهمة الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والتعذيب. كما قامت الشرطة الفرنسية في يوليو 1999 باعتقال ضابط موريتاني برتبة عقيد يُدعى علي ولد داه، أثناء دراسته بإحدى الأكاديميات العسكرية الفرنسية، استناداً إلى أحكام “اتفاقية مناهضة التعذيب”، وذلك عندما تعرّف عليه مواطنان موريتانيان يقيمان في المنفى، وقطعاً بأنه هو الذي قام بتعذيبهما. وفي فبراير 2000 وجهت محكمة سنغالية إلى دكتاتور تشاد المنفي حسين حبري تهمة ارتكاب التعذيب.
ومن المتفق عليه قضاء وفقها في المجتمع الدولي أن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، والتعذيب، وإبادة الجنس وجرائم الحرب ليست من الجرائم السياسية. بل إن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية تنص صراحة على أن هذه الجريمة لا تعتبر جريمة سياسية فيما يتعلق بتسليم الأشخاص. وتنص “اتفاقية مناهضة التعذيب” على مثل هذا ضمناً، إذ تستوجب إدراج التعذيب في قائمة الجرائم التي يجوز فيها تسليم الأشخاص فيما بين الدول الأطراف في معاهدات تسليم الأشخاص.
كما أنه من القواعد المستقرة في القانون الدولي ومعظم القوانين الداخلية لا تقر التقادم بالنسبة للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وقد صادقت 43 دولة على اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بعدم سريان قوانين التقادم على جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. وقد قطعت المحاكم الفرنسية والبلجيكية بعدم جواز تطبيق قوانين التقادم على الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية تحديداً. كما أنه يجوز لنا أن نقول إن شروط قوانين التقادم تعتبر “معطلة” (أي غير سارية) ما دام المتهم يتمتع فعلياً بما يقيه سيف العدالة؛ ومع ذلك فإن القضاة المحليين يقومون أولاً بالنظر في القانون الوطني، فإذا وجدوا أن الحد الزمني المنصوص عليه في القانون الذي ينطبق على الدعوى المرفوعة قد فات، فإن بلداناً كثيرة قد ترفض الدعوى شكلاً.
وتقدم الحصانة عائقا آخر قد يعرقل ملاحقة الجرائم ضد الإنسانية عندما قد يدفع المتهم بالحصانة التي يتمتع بها باعتباره من المسؤولين حالياً، أو من المسؤولين العموميين، أو باعتباره دبلوماسياً، أو باعتباره رئيساً حالياً أو سابقاً للدولة. ولكن الحصانة، مهما تكن، تنتمي للدولة لا للمتهم، ولذلك فمن حق الدولة أن تتنحى عنها، بل يجب الضغط عليها حتى تتنحى عنها.
ويكاد يكون من المؤكد أن الرئيس الحالي لدولة ما، أو الدبلوماسي المعتمد في بعثة رسمية، سوف يعتبر ذا حصانة تمنع اعتقاله في أي بلد أجنبي (ولو أن ذلك لا ينطبق على المحاكم الدولية، مثل المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، والمحكمة الخاصة برواندا، والمحكمة الجنائية الدولية في المستقبل). فالحصانة المذكورة تستند إلى مكانة الشخص لا إلى فئة الأفعال المرتكبة؛ وهكذا رفضت فرنسا وبلجيكا الطلبات التي تقدمت بها المنظمات الأوروبية في نوفمبر 1998 لمحاكمة لوران كابيلا، رئيس جمهورية الكونغو الديموقراطية، أثناء زيارته لتلك الدولتين.
ولكن المسؤولين العموميين لا يتمتعون، بصفتهم هذه، بالحصانة وفقاً للقانون الدولي؛ بل إن “اتفاقية مناهضة التعذيب”، على سبيل المثال، تعتبر مشاركة المسؤول الحكومي أو أي شخص يعمل بصفته مسؤولاً حكومياً، ركناً من أركان جريمة التعذيب.
ويقول القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الناشئة، وفقاً للمبادئ التي أرسيت في نورمبرج، إن “الصفة الرسمية للشخص باعتباره رئيساً للدولة لا تعفيه بحال من الأحوال من المسؤولية الجنائية”. وتوجد أحكام مماثلة في القانون الأساسي للمحكمتين الجنائيتين الدوليتين لرواندا وليوغوسلافيا السابقة (وقد وجهت الأخيرة الاتهام في عام 1999 إلى سلوبودان ميلوسيفيتش، رئيس جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية). ولكن هذا المبدأ لم يطبق بعد في المحاكم الوطنية، ولو أن القانون الجديد الذي أصدرته بلجيكا بشأن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الحرب يرفض بصورة محددة أي حصانة حكومية.
وتبقي امامنا ان نبحث مسئولية كبار المسؤولين الذين لا يشتركون مشاركة شخصية في التعذيب أو القتل، في معظم الحالات، وإن كان من الممكن محاكمتهم، بطبيعة الحال، إذا كانوا قد أصدروا الأمر فعلياً بارتكاب مثل هذه الجرائم. وبالإضافة إلى ذلك، فإن مبدأ مسؤولية القيادة يقضي بإلقاء المسؤولية الجنائية على كل من يملك السيطرة على مرؤوسيه وكان يعلم، أو كان عليه أن يعلم، بأن جريمة ما توشك أن تُرتكب ثم لم يمنع وقوعها أو لم يحاول منعها، أو لم يعاقب المسؤولين عنها. وينطبق هذا المبدأ على السلطات العسكرية وعلى المدنيين الذين يتمتعون بمواقع السلطة القيادية.
تاسعاً: حق الإدعاء والقانون الجنائي الدولي:
قبل سريان نظام المحكمة الجنائية الدولية فإن ذلك يختلف من بلد إلى بلد؛ ففي بعض الدول ذات التقاليد القائمة على القانون العام الأنجلو أمريكي، يقتصر حق الأمر بإجراء تحقيق جنائي على النيابة العامة،ولكن في الكثير من بلدان القانون المدني المستوحى من القانون الفرنسي، نري أن من حق المجني عليه أن يرفع الشكوى مباشرة إلى قاضي التحقيق الذي يعتبر ملتزماً في هذه الحالة بالشروع في التحقيق. وفي بعض الحالات يكون الضحية أو أحد أقاربه طرفاً من أطراف الإجراءات الجنائية (أطراف مدنية)، وقد تحكم له المحكمة بالتعويض عما أصابه.
ففي القضية السنغالية المرفوعة على حسين حبري، أقام سبعة من الضحايا التشاديين، والأرملة الفرنسية لمواطن تشادي، ورابطة الضحايا التشادية، دعواهم باعتبارهم أطرافاً مدنية. أما القضية الإسبانية المرفوعة على بينوشيه فقد اتخذت شكل الدعوى الشعبية، وهو شكل إجرائي يسمح لأي من المواطنين الإسبان بإقامة دعوى جنائية خاصة في حالات تمس المصلحة العامة، بغض النظر عما إذا كانت قد عادت بالضرر على أحدهم شخصياً أم لا.
وقد سمحت بعض بلدان أمريكا اللاتينية في الآونة الأخيرة، مثل غواتيمالا وكوستاريكا، للضحايا باكتساب صفة “المدعين المرافقين” بحيث يكون من حقهم صياغة التهم، واتخاذ قرارات الاستئناف، وتوفير الأدلة. وبالنسبة لبعض الجرائم، تعترف هذه البلدان بالمنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية باعتبارها من قبيل “المدعين المرافقين” إذا كانت لها مصلحة مباشرة في القضية، وخصوصاً فيما يتعلق بحقوق الإنسان.
وفي عام 1991 قاد اثنان من الجنرالات في جمهورية هايتي هما راؤول سيدراس وفيليبي بيامبي، انقلاباً دموياً ضد رئيس هايتي جان برتراند أريستيد، الذي وصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات الدستورية؛ ومن ثم قاما بفرض حكم دكتاتوري في البلاد، تعرض فيه الآلاف للقتل والتعذيب والاغتصاب. وعندما أعيد الرئيس أريستيد إلى هايتي، فر الاثنان إلى بنما حيث ظفرا باللجوء السياسي، ويقيم ألفريدو سترونسر، رئيس باراجواي السابق، في البرازيل اليوم؛ وكان حكمه الدكتاتوري (1954 ـ 1989) يستخدم التعذيب على نطاق واسع ضد الخصوم السياسيين. كما كان سترونسر حليفاً للجنرال بينوشيه فيما يسمى “بعملية الكندور”، وهي شبكة متعددة الجنسيات تقوم بعمليات بوليسية وعسكرية في شتى أرجاء الأرجنتين والبرازيل وشيلي وباراغواي وأوروغواي؛ وقد دأب أفرادها على ممارسة التعذيب، والإخفاء، والقتل العمد، إلى جانب شن “حرب قذرة” ضد المشتبه في ميولهم اليسارية في المنطقة.ويقيم جان كلود “بيبي دوك” دوفالييه، الذي كان قد عُين “رئيساً مدى الحياة” لجمهورية هايتي (1971 ـ 1986) في فرنسا.
خاتمة
لما كانت أوسع انتهاكات حقوق الإنسان نطاقاً قد ارتكبت باسم الدولة، فمن المستبعد والمتعذر ملاحقتها في الدول التي وقعت بها، دون حدوث تغيير سياسي شامل، أن تتمتع محاكم تلك الدولة بالقدرة أو أن يتاح لها المجال السياسي اللازم لإجراء تلك المحاكمات. بل إننا نشهد في حالات كثيرة صدور مراسيم العفو العام التي ترمي إلى عرقلة أو حظر المحاكمات. وذلك هو ما حدث في شيلي في قضية بينوشيه، وكذلك في بعض البلدان الأخرى مثل البرازيل وجواتيمالا والسلفادور وسيراليون وأوروجواي.
ولمواجهة ذلك أنشأ مجلس الأمن بالأمم المتحدة محكمتين جنائيتين دوليتين ليوغوسلافيا السابقة ورواندا؛ وتشمل الاختصاصات القضائية لكل من هاتين المحكمتين “المخصصتين” جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية في هاتين الدولتين. ولكن كان من المحال تكرار الحصول على اتفاق الآراء السياسي النادر الذي أدى إلى إنشاء هاتين المحكمتين عندما طرأت أحوال مماثلة اقتُرح فيها إنشاء محاكم من هذا اللون، على نحو ما شهدنا في تيمور الشرقية، وفي كمبوديا، وفي مذبحة اللاجئين من طائفة الهوتو في زائير في عام 1996-1997
ومن هذا العرض يتضح أنه أصبح من الممكن ملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الانسانية المقيمين في اي دولة وامام محاكمها دون الأخذ بادعاءات الحصانة او التقادم وفقا لمبدأ الإختصاص العالمي الشامل أيا كان موقع الجريمة وتاريخ وقوعها.
وبصفة عامة وبعد قيام المحكمة الجنائية الدولية يمكن القول بأنه تم ارساء المبادئ التالية:
1ـ أن الجريمة الدولية قد استقرت وأصبحت أمرا مفروغا منه فى مجال القانون الدولي .
2ـ أن الجرائم ضد الإنسانية تشمل جرائم الاعتقال والتعذيب واهانة الكرامة وغيرها التي بينتها اتفاقية جنيف الرابعة والتي تقع داخل الدول لرعاياها.
3ـ أن كبار رجال الدولة مسئولون مسئولية جنائية مفترضة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التى تقع من قواتهم خارج دولهم أو في داخل بلادهم أثناء تقلدهم مناصبهم .
4ـ أن الحصانة الدولية والداخلية لا تمنع من ملاحقة هؤلاء المسئولين عن تلك الجرائم.
5ـ أن هذه الجرائم لا تنقضي بالتقادم .
6ـ أنه يمكن لمحاكم أي دولة أن تحاكم أي مسئول في دولة أخرى عن الجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبت في عهده بواسطة قواته العسكرية علي أرض أجنبية أو حتي فى بلده ضد شعبه .
كذلك تجدر الإشارة هنا إلي أن الجرائم ضد الانسانية ومن بينها افعال التعذيب وانتهاك الكرامة الانسانية وحقوق الانسان مجرمة حتى في حالة السلم وعندما يقوم به بعض المسئولين داخل الدولة وذلك بموجب اتفاقية الأمم المتحدة ضد التعذيب A/39/ 51/(1984) وبمقتضى نصوص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
المركز الدبلوماسي