تقديم:
في فضاء جيوسياسي خليجي ترتطم الإرادات الخليجية بفعل تسارع الأحداث الأمنية والإقتصادية وبفعل تطور البيئة الهيكلية الداخلية للمجتمع الخليجي من جهة والهيكلة الإقليمية بفعل التوازنات الجديدة من جهة ثانية، وقد كان الطموح الواعد أن تتسلحّ الإرادات الخليجية لدول الخليج العربي برسم معالم لسياسة خارجية موحدة وعملة موحّدة وسياسة أمنية متقاربة ودبلوماسية تجابه تسارع الأحداث في الجوار والإقليم على حد السواء، غير أن الذي يحدث هو أن الدول الخليجية حاليا تعيش حالة من الإنكفاءات الجديدة بفعل رسم مقاربة أولوية الداخل على الخارج وذلك في ظل هشاشة البنية الداخلية لبعض الدول، فباستثناء الشراكة الإستراتيجية التي رسمتها السعودية والبحرين والاتفاقيات الخاصة بالتعاون المشترك فقد أبان الربيع العربي عن سياسات المحاور الجديدة. وقد أبرزت مسألة التعاطي مع قضايا الإرهاب والتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) رؤى متباينة في فهم الدول الخليجية وآليات التحرك الإقليمي وظهرت سياسات جيوسياسية وجيواستراتيجية لم تكن بارزة بشكل جلي في السابق.
ومع سياسة التمدد الإيراني في شكل زحف ناعم تارة أو زحف صلب تارة أخرى، كحالة التحالف الصلب بين إيران وحزب الله وسوريا، وكذا الدور المتعاظم لإيران في الحالة اليمنية، أصبحت التساؤلات تطرح بشكل أكثر عمقاً: هل يمكن الحديث عن “يمننة” (نسبة إلى اليمن) الدول الخليجية التي تعيش فسيفساء اجتماعية وديمغرافية وبنيوية؟ وإلى أي مدى يمكن أن تتصالح الإرادات الخليجية في رسم عقيدة أمنية مشتركة وسياسة خارجية متقاربة تجابه التهديدات الجديدة كتهديد الإرهاب الدولي وتهديد التنظيمات الدينية المسلحة وتهديد الصراع الهوياتي؟ وفوق ذلك كله إشكالية بناء المواطنة الخليجية؟
إلا أنه لا يزال أمام دول الخليج فرص للتكتّل والوحدة التي تفضي إلى كيان موحد في مواجهة أيّة تهديدات خارجية، ولا يوجد أمامها سبيل سوى تقوية مجلس التعاون الخليجي لبلوغ هذا الهدف، حيث تتسم الأوضاع الدولية في منطقة الشرق الأوسط بالتعقيد والتحوّل المستمرّ، وتخفي زخما متداخلا ومتراكما ومتناميا من التحديات والمخاطر والتهديدات المرتبطة بالأدوار والمصالح الأمريكية في منطقة الخليج[1].
ومن الطبيعيّ أن تتأثّر دول الخليج، بجميع الأزمات المحيطة بالمنطقة الخليجية ذات الأهمية الإستراتيجيّة، بدءاً بالصراع العربيّ – الإسرائيليّ، إلى الخلاف الغربيّ – الإيرانيّ حول البرنامج النوويّ لإيران، ونتائج التحوّلات التي فرضتها الثورات العربية في مصر وسوريا تحديداً، والحرب على الإرهاب والحملة الدولية للقضاء على تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية “داعش”، إضافة إلى تنامي الصراع الطائفيّ الشيعيّ – السنيّ، وتمثّلاته في البحرين والعراق وسوريا ولبنان، والأزمات المحتملة والمتكرّرة لتصدير النفط، وتقلبات أسعاره، نتيجة الحرب في ليبيا، وغيرها من الدول النفطية التي تعرف صراعات وأزمات سياسية.
هناك عجز في الناتج النهائيّ لسياسات دول الخليج العربيّ، عن تنفيذ خطة تنتهي بهم إلى ظهور “كيان جديد”، موحّد على الصعيد الاقتصاديّ، لا تؤثّر فيه التحولات السياسية الإقليمية، ويقف في مواجهتها ككتلة موحدة، وليس كدول متفرّقة، تعقد كلّ واحدة منها صفقات أو اتفاقات خارجية منفردة، مع القوى الدولية، فكلّما فرضت القضايا الإقليمية الشائكة تعطيل الحلم الخليجيّ بالوحدة الاقتصادية، تأكّد التهديد الخارجيّ للتجربة الوحدوية الخليجية، التي تتحرّك ببطء شديد في مقابل خطط خارجية لتفتيت الشرق الأوسط تتطلّب وعيا كبيرا وتنسيقا مستمرين من قبلها[2].
وبناء على ما تقدّم تسعى هذه الدراسة إلى الإجابة على التساؤلات التالية: لماذا لم ينجح مجلس التعاون الخليجيّ في توحيد السياسات الخليجية تجاه مختلف القضايا والأزمات المحيطة به، ولماذا توقف مسار الوحدة الاقتصادية الخليجية، وهل يمكن تدارك هذا التوقف في ظل بروز قيادات خليجية جديدة؟ وهل ستشكل السياسات الخليجية خطاً متناغماً تحركه المصالح الخليجية الموحدة أم ستحدّد أجندته وتضبط إيقاعه القوى الإقليمية والدولية؟
أولًا: توحيد الاقتصاد الخليجيّ.. الفرص والقيود:
تمتلك الدول الخليجية محدّدات قوة جماعية تجعلها مرشحة بقوة للتحول إلى كيان موحد في حال نجاحها في توحيد سياساتها القُطرية نحو سياسة اقتصادية اقليمية موحدة، فبالإضافة إلى النفط، نجحت الدول الخليجية في تطوير البنية التحتية لاقتصادياتها، إضافة إلى نوعية القوة البشرية للشعوب الخليجية التي تشقّ طريقها للحداثة الاقتصادية والاجتماعية بنجاح، باستخدام الجامعات والمدارس العصرية، إضافة إلى تطور لافت للقطاعات التجارية والصحية والخدمات…، أو ما أصبح يسمى في الواقع العربيّ، بالنهضة الخليجية الماثلة بوضوح في التجربة الاقتصادية لدولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان والكويت، وقطر.
وعلى صعيد توحيد السياسات الاقتصادية أقر المجلس إستراتيجية التنمية الشاملة بعيدة المدى: (2000 إلى 2025)، بالإضافة إلى سياسات التنمية قصيرة المدى، كما أقر الإستراتيجية الموحدة للتنمية الصناعية والسياسة الزراعية المشتركة، كذلك الإستراتيجية السكانية لدول مجلس التعاون. وفى مجال ربط البنى الأساسية تم البدء فى برنامج الربط الكهربائي بين دول المجلس والذي من شأنه تشغيل محطات توليد كبيرة تعمل بالغاز بما يحقق وفرة في تكلفة الإنتاج.
لكن ورغم النجاحات التي بات المجلس يحققها خلال العقدين الماضيين، إلا أنه عانى في ذات الوقت من عدة إخفاقات أبرزها:
1. تواضع حجم التجارة البينية لدول الأعضاء: ويرجع ذلك بصفة أساسية إلى تشابه هياكل الصادرات لتلك الدول والتي يمثل البترول عمودها الفقري.
2. استمرار هيمنة الصناعات الإستراتجية على هيكل الإنتاج السلعي ومحدودية مساهمة قطاع الزراعة والصيد والغابات في هيكل هذا الإنتاج.
3. استمرار الدور المحوري للإيرادات النفطية في دعم الموازنات العامة لدول الخليج وتوفير التمويل اللازم للارتقاء بمستوى الخدمات، إلا أن استمرار هذا الوضع مرهون باستمرار تدفق ريع النفط.
4. استحواذ القطاع المالي على الجانب الأكبر من رؤوس أموال المشروعات المشتركة، وهو الأمر الذي لا يتفق مع جهود تنويع هيكل الإنتاج فضلاً عن وجود فجوة زمنية كبيرة بين التصديق على عدد من القرارات الإستراتيجية وبين دخولها حيز التنفيذ.
5. عكس التطبيق العملي للاتحاد الجمركي إصرار بعض الدول على استمرار المطالبة بشهادة المنشأ عند انتقال السلع الوطنية بين الدول الأعضاء إلى جانب عدم اكتفاء بعض الدول بالرسوم الجمركية المستوفاة على السلع الأجنبية عند نقطة الدخول الواحدة، والمطالبة برسوم أخرى عند دخول تلك السلع لأراضيها[3].
إن أهم إنجازات المجلس إلى الآن يكمن في نجاحه في تنشيط حركة التجارة بين دوله، وقد تمّ ذلك بفضل الاتحاد الجمركي وإنشاء السوق الخليجية المشتركة، فالوصول إلى هذه المرحلة كان من شأنه أن يعطي نتائج إيجابية ملحوظة فيما يتعلق بالجارة البينية لدول المجلس، وتُشير الجداول المرفقة في هذه الدراسة فيما يتعلق بهذا الجانب إلى أن التجارة البينية في دول مجلس التعاون حققت قيمة تقارب الـ 100 مليار دولار في عام 2013، مرتفعة بقدر يفوق السبعة أضعاف عما كانت عليه في عام 2000، أي قبل البدء في التنفيذ الفعلي للاتحاد الجمركي، وعلى الرغم من هذا النمو الكبير في حركة التجارة البينية في دول المجلس، فإنها تمثل 7.1 % من إجمالي القيمة الكلية للتجارة الخارجية لدول المجلس.
ويبدو أن هناك أسباباً أبطأت تسارع نمو التجارة البينية بدول المجلس، فمن أهم مقومات نمو التجارة البينية هو وجود شبكة مواصلات متطورة ومتنوعة تستوعب حركة نقل البضائع والسلع بين دول المجلس، وهذه الشبكة تتضمن الطرق والمواني والمطارات وشبكات السكك الحديدية، وعلى الرغم من تفعيل اتفاقية الاتحاد الجمركي ما زالت حركة التجارة البينية تعاني من طول أمد الاجراءات الجمركية عند منافذ الحدود، خاصة البرية منها، كما أن شبكة الموصلات البرية بين دول الخليج لا تزال ضعيفة البنية، وقليلة الصيانة، وتفتقر إلى خدمات الطريق، وهناك مشاريع ربط طرق برية بين دول الخليج، ولكنها لم تنفذ بسبب أنها في طور الدراسة وإعداد التصاميم، مثل مشروع سكة الحديد الذي أقره المجلس العلى لمجلس التعاون في عام 2003 ليتم إنجازه وتشغليه في 2018[4].
ثانيًا: الخليج: عواصف النفط واضطرابات السياسة:
يقوم الاقتصاد الخليجي على النفط، ومن الطبيعيّ أنّ يتوحد الخليج في سياساته النفطية، سواء من داخل مجلس التعاون أو من داخل منظمة أوبك، إذ تعتبر المملكة العربية السعودية أكبر مصدّر للنفط في العالم وهي تصدّر وحدها نسبة 3/1 نسبة الإنتاج العالميّ للطاقة الأحفورية، وتمتلك دول الخليج ورقة النفط التي تعكس فوائض ومخزونات هامة وصراعا جيوبوليتيكيا دوليا عليه[5]، خصوصا وأنّ توحيد السياسات النفطية يقتضي توحيد السياسات الأمنية الخليجية[6]، التي لا يمكن لها أن تتعارض مع السياسات الأمريكية والأوروبية حول النفط، حيث أنّ الحرب على الإرهاب هي في النهاية حماية لموارد النفط[7].
لا تغفل الدراسات العسكريّة عامل التهديد السيكولوجيّ للدول والشعوب الخليجية المحاطة بعدد من القوى الإقليمية العدوانية كإسرائيل والعراق في عهد صدام حسين، إيران، وأزمات اليمن المتكرّرة، ناهيك عن المعضلة الفلسطينية وأبعادها المتفاقمة في سوريا ولبنان، ولا يمانع الخليجيون في القول بأنّهم لا يملكون بديلا عن عقد علاقة دفاعية مشتركة مع الجانب الأمريكيّ في مقابل ضمان النفط الخليجيّ لصالحه، حيث لا يتعارض دفاع الخليجيين عن استقرارهم السياسيّ مع فكرة بناء “صداقة كولونيالية أمريكية خليجية دائمة”[8]، وهو ما يبرّد قيام الاستراتيجية الاقتصادية لتنظيم القاعدة على استهداف أنابيب النفط الخليجيّ في عملياته الإرهابية، ومنع هذه العلاقة من التطوّر، وتحوّل النفط الخليجيّ إلى هدف لجميع أطراف الصراع في المنطقة[9].
من ناحية ثانية يمكن القول أن ” النفط ” سيبقى يؤدي دورا حاسما في معركة التوازنات الإقليمية والدولية، ومحددا أساسيا في المجال “الأمني”.
وبعد أكثر من ثلاثة عقود على قيام مجلس التعاون الخليجي، لم يحقق المجلس الأهداف الإستراتيجية والأمنية التي أنشأ من أجلها لعدم قدرته على إيجاد توازن يمنع ويردع عراق صدام حسين من احتلال الكويت، ويضمن لاحقا تحريرها دون الإعتماد على تحالف عالمي بقيادة الولايات المتحدة، كما ان مجلس التعاون على رغم الإتفاقيات العسكرية والأمنية بين أعضائه الستة لم يكن يملك القدر على منع وردع إيران من التغول والتدخل في الشؤون الخليجية والعربية، ولهذا تتحرك إيران دون رادع اتنفيذ مشروعها التوسعي للهيمنة على المنطقة.
وتختلف دول المجلس حول الأولويات الأمنية، وفي سياساتها وتحديد مصادر الخطر والتهديد. وربما عمق رفع اليد الأمريكية بعد تراجع إعتماد واشنطن على نفط الخليج، وتقاربها مع إيران، وتهديد الفاعلين من غير الدول، وتغير طبيعة التهديدات إلى ” القاعدة ” و” داعش ” والجماعات المتطرفة، من العقدة الأمنية الخليجية.
والخلل في السياسات والإستراتيجات الخليجية بالتعويل على التحالف الثنائي مع واشنطن بديلا عمليا عن التعاون لم يساعد على الإنتقال بمجلس التعاون إلى طرف محوري في المواجهة الإقليمية. وخاصة في ظل عقلية الحصار الأمني، والحرب الباردة الإقليمية، وتبدل التحالفات.
وقد عزز هذا قناعة الدول الأعضاء بأن مجلس التعاون بتركيبته ومراوحته وبطئه وعجزه عن الردع والصد وتحقيق التوازن وخاصة تجاه إيران لن يوفر المظلة الأمنية التي تقي جميع الدول أخطار العواصف العاتية، التي تهب من إيران والعراق واليمن وسوريا[10].
لقد عمل التحالف الذي تقوده السعودية بحسم على ردع إيران، وإستقرار اليمن، وتوحيد أكبر عدد من الدول العربية والإقليمية حول مصالح محددة، وإقامة توازن قوى جديدة في ضوء إنسحاب الولايات المتحدة التدريجي من المنطقة، وإستعادة المبادرات السياسية والأمنية، والبدء في حوار بناء من أجل إعادة تقييم الأمن القومي العربي. ولم يكن تحقيق الأهداف الإستراتيجية ممكنا بدون التدخل العسكري في اليمن، والذي بعث برسائل واضح إلى كل الأطراف في المجتمع الدولي بأن دول مجلس التعاون الخليجي والعديد من الدول الأخرى في الشرق الأوسط مستاءة من سياسات إيران التوسعية وسلبية الولايات المتحدة تجاه التهديدات التي تواجه المنطقة.
إن الحرب في أفغانستان والعراق إستنفذت القوة العسكرية والمالية الأمريكية، وأضعفت قدرة الولايات المتحدة على الإستمرار بإعتبارها القوة العظمى الوحيدة في المنطقة، وكانت الخيارات أمام الذي تقوده السعودية محدودة جدا، فإما أن تسمح بوقوع عاصمة عربية أخرى في قبضة إيران، أو أن تقف بحزم لمنع تدمير المزيد من الدول العربية الأخرى.
لقد فرضت هذه الحرب على التحالف الذي تقوده السعودية، ولم يكن لدى الأطراف المشاركة خيارا سوى التحالف لمواجهة التهديد الوجودي من إيران، إذ أن البديل يتمثل في المزيد من الفوضى والتدمير لدول عربية أخرى ولو لم يتدخل التحالف الذي تقوده السعودية في تلك اللحظة، لكان الوضع الإنساني والسياسي على الأرض لا يحتمل، حيث تذكر الصور القادمة من العراق وسوريا كل صناع القرار في المنطقة بالبديل المحتمل، لقد كان قرار إجهاض محاولة تفكيك اليمن ومنع حدوث كوارث إنسانية عديدة في البلاد قرارا شجاعا جريء، ولكن يمكن أن يفرض مخاطر عديدة أيضا في حالة عدم إدارة الأزمة اليمنية بفاعلية إذ سيحول حالة (اليمن) كجار مقلق للسعودية مثل حالة أفغانستان الجارة المقلقة لباكستان، وعليه فالعمل يجب أن يستمر لمنع تحول اليمن إلى دولة فاشلة تهدد الجيران[11].
ثالثًا: المسألة الإيرانية.. والتهديد الطائفيّ المتنامي[12]
لقد وضع الأمريكيون خططهم للتدخّل العسكريّ في منطقة الشرق الأوسط منذ بدايات الحرب العراقية الإيرانية مطلع ثمانينيات القرن الماضي[13]، ولم يتعاملوا بحزم مع طهران على الرغم من المواجهة الكبيرة بين الطرفين عقب الثورة الخمينية سنة 1979 وأزمة الرهائن، وتركت دول الخليج العربيّ في مواجهة ما أسماه مرشد الثورة الإيرانية “الدولة الإسلامية الحقيقية” معلنا عن مواجهة الإسلام السنّيّ للإسلام الشيعيّ، وبعد التخلّص من صدّام حسين في العراق سنة 2003، اكتشف الأمريكيون صدق المخاوف الخليجية تجاه الدور الإيرانيّ المتمدّد، الذي جعل العراق وسوريا ولبنان تحت قيادة طهران، وأصبح يخلق المشكلات في البحرين والكويت واليمن، دعما للطوائف الشيعية، المستفيدة من الدول القطريّ الداعم لما يسمى بـ: “الربيع العربي”. وبهذا تكون طهران أكثر القوى الإقليمية استفادة من نفوذها الدينية في منطقة الخليج، والأوفر حظا للعب دور إقليميّ فاعل في الشرق الأوسط[14].
إن ما يحدث في اليمن، من صعود كارثيّ للحوثيين، وتهديدهم للدولة اليمنية بالتقسيم إنطلاقا من صعدة، وتهديدهم للجيش السعوديّ[15]، يعيد دول الخليج إلى مربع الصفر مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث لم يتخذوا سياسة حكيمة تجاه المسألة اليمنية التي تركت للإهمال، مقابل الدور الأمريكيّ والإيرانيّ المتنامي في هذا البلد، الذي يهدّد ضياعه، بتحويل جميع دول المنطقة إلى قوى دولية اقليمية على حساب دول الخليج العربي المنقسمة.
أما الدور الإيرانيّ في سوريا، فقد خرج من اعتبار سوريا تشهد تحولا في سياق الربيع العربي[16]، إلى إيرانيّ جيو- استراتيجيّ للسيطرة على الدولة السورية، ويتضح ذلك بشكل جليّ في دور حزب الله اللبنانيّ، في دعم الجيش السوريّ ضدّ المعارضة، ومحاولة دمشق الإدعاء بأنّها هي من سيقضي على تنظيم داعش في المنطقة، ومساعدة الغرب على القضاء عليه، مستغلة التقارب الذي عمل على تحقيقه الرئيس الإيراني روحاني مع الرئيس الأمريكيّ باراك أوباما، لإعادة تطبيع الدور السوريّ في المنطقة.
وهكذا، رفعت إيران تدريجياً من سقف تدخلاتها موظفة الحراك الطائفي حول الخليج وداخله بهدف من مجرد تفريعات مذهبية للديانة الإسلامية تعايشت قروناً ليصبح وحدات سياسية واجتماعية وثقافية متباغضة ثم متنافرة فمتناحرة لذلك، أوت بعض قادة القاعدة وتنبت الفصائل الشيعية كحزب الله اللبناني، مروراً بجمعية الوفاق البحرينية، وصولاً للتمرد الحوثي على بحر العرب، مما أوقع الخليجيين بين فكي كماشة طائفية إيرانية[17].
إن تأزمّ الحالة اليمنية من خلال التدخل الإيراني قد بات واضحاً[18]. ويمكن حصر أبرز تداعيات الأزمة اليمنيةّ على دول مجلس التعاون فيما يلي:
أ) تهديد استقرار دول مجلس التعاون: فنجاح “الحوثيين” في التماسك والاحتفاظ بالمناطق التي يسيطرون عليها يمكن أن يغير من معادلة التيارات الشيعية في منطقة الخليج ككل، كما يمثل تصاعد سيطرتهم دافعًا لإذكاء النعرة الطائفية في دول المنطقة.
ب) عدم استقرار اليمن وسيطرة الحوثيين على صنعاء يمكن أن تترتب عليه العديد من التداعيات الجيوسياسية والاقتصادية على دول مجلس التعاون؛ حيث يتحكم اليمن بموقعه الجغرافي في مضيق “باب المندب” الذي تمر عبره تجارة الخليج مع الدول الغربية لاسيما النفط، كما أن اليمن يمثل حاجزًا لدول الخليج من الهجرة غير الشرعية والتنظيمات الإرهابية كتنظيم “القاعدة”، ويمثل أيضًا ظهيرًا أمنيًّا لكل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان من خلال حمايته لحدودهما البرية الجنوبية بالنسبة للسعودية والغربية بالنسبة لسلطنة عمان.
ج) يمثل اليمن فرصة إستراتيجية لإيران، فإذا ما قامت دولة حوثية مستقلة في الجنوب أو إستمرت سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء فسيكون لإيران موطئ قدم إستراتيجي على مضيق هرمز، وكذلك فإن موقع اليمن الجغرافي المميز من شأنه تمكين إيران من تعطيل جزء مهم من خطوط الملاحة الدولية، وبالتالي الإضرار بالمصالح الخليجية والغربية في المنطقة. ويرى ” أنتوني كوردسمان” الخبير الأمريكي في شئون منطقة الخليج، بأن الموقف الإيراني تجاه اليمن يمثل محاولة إيرانية للضغط على الولايات المتحدة وحلفائها من دول المنطقة، وخلق حالة من التوتر الإقليمي المستمر، من شأنه أن يلحق أضرارًا بمصالح هذه الدول بدرجة أو بأخرى، الأمر الذي يساعد على إيجاد قدر من التعاون بين دول المجلس والولايات المتحدة في التعامل مع الأوضاع في اليمن.
وعليه، فمن مصلحة دول المجلس الحفاظ على اليمن كدولة آمنة ومستقرة، لأنه بمنزلة صمام الأمان لمصالحها، حتى وإن كانت السبيل إلى الحفاظ على هذا الأمن والاستقرار على حساب اليمن ذاته[19].
لقد مثل التدخل العسكري السعودي (المدعوم دوليا وعربيا) في اليمن نقطة تحول ورسالة قوية إلى (إيران) في كون اليمن لا يمكن أن تشكل ظهيرا للسياسة الفارسية الإيرانية، وقد مثلت (عاصفة الحزم) إنعطافا مهما في هذا الإتجاه غير أنه يمكننا الإشارة إلى عدة ملاحظات تبين (عدم فعالية الحسم العسكري كخيار وحيد).
لقد شكلت الضربات العسكرية لمواقع الحوثيين رسالة قوية إذ تم بموجبها تدمير (القوى الدفاعية الحوثية) ولكنها لم تستطع أن تعيق تقدم الحركة نحو (عدن)، بل إن “الأمر” تجاوز “عدن” ووصل إلى المحافظات التي يفترض أنها تشكل الحاضنة القبلية للنظام الشرعي بقيادة الرئيس (هادي).
كما تثبت الوقائع أن التركيبة القبلية لليمن تشكل على الدوام (رافعة) لرفض أي تدخل خارجي مهما كان نوع التدخل الدولي ولذلك لم تجازف القوى الخليجية لحد الساعة بالتدخل العسكري البري وهو الذي كان ولا يزال (مثار) تخوفات من لدن السلطة السعودية التي تحاول تجنب الخسائر البشرية وسط قواتها، ومادام التدخل البري لم يحدث فإن ” الإستقواء الحوثي ” بالحاضنة القبلية سيبقى مستمرا وذلك في ظل عدم التوازن العسكري بين (قوات أنصار الله وصالح) وقوات اللجان الشعبية اليمنية (البسيطة التسليح)
إن بروز خطابات دولية براغماتية العمق من التحرك السلس للقوات المتحالفة، إذ برزت خطابات إزدواجية متناقضة فبدل الدعم الأمريكي والأوروبي عسكريا فقد إكتفت بالتنديد والشجب، مع الرفع من شعارات الدعم اللوجيستي الإستخباراتي وهو بجميع الأحوال ينبئ عن (أجندة أمريكية) جديدة، ففي الوقت الذي تحقق فيه إيران إنتصارا في مفاوضات ملفها النووي، يلاحظ أن القوات الخليجية المتحالفة تعلن عن وقف (عاصفة الحزم) والبدء في مرحلة جديدة قوامها (الجهد والعمل الإنساني) لإعادة الإعمار وإعادة الأمل.
هذا ونسجل أنه في عاصفة الحزم ورغم الترحيب العربي (جامعة الدول العربية) والدولي إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي عجزت عن إقناع سلطنة عمان بالانضمام إلى التحالف رغم وجود ميثاق تعاون مشترك بين دول الخليج العربي فهل سيكون هذا دافعاً لدول الخليج لإعادة النظر في سياستها الأمنية الموحدة؟[20]
رابعا: الربيع العربي ودول الخليج العربي:
فرضت التحولات الإقليمية التي عرفها العالم العربيّ منذ بداية سنة 2011 أوضاعا إقليمية جديدة، نتيجة انسداد تجارب الديمقراطية التمثيلية المطوقة أمنيا في تونس ومصر، ونتيجة لذلك، كان على دول الخليج العربيّ، أن تراقب الأوضاع الإقليمية، وانعكاسات فرص تنامي حركات الإسلام السياسيّ في المنطقة، ويوضح الجدول رقم (01) الإجراءات التي اتخذتها الدول العربية لتفادي وصول موجة الربيع العربي إليها، وقد سبقت كلّ من البحرين والكويت نظيراتها في دول مجلس التعاون في تبني الديمقراطية النيابية، غير أنّ مشكلة تنامي دور الشيعة في البلدين يهدّد بتجاذبات خطيرة داخل كليهما.
من الأهمية بمكان عند الحديث عن إحتمالات أن يشهد الخليج تكرارا للحالة الثورية التي شهدتها بعض الدول العربية، أن نرصد عناصر الضعف ومصادر التهديد التي تتعرض لها دول مجلس التعاون الخليجي. أما عناصر الضعف الخليجية فيمكن إيجازها في التالي:
1ـ الندرة السكانية: حيث يبلغ عدد السكان في دول الخليج نحو 42.1 مليون نسمة
2ـ الإعتماد على مصدر أحادي للدخل الوطني ممثلا في النفط الذي يشكل 95 من الصادرات و80% من موارد الميزانية العامة في غالبية دول الخليج.
3ـ تباين مواقف الحكومات من الشؤون الخارجية وعدم التوحد السياسي
4ـ عدم وجود التجنيد الإجباري في صفوف القوات المسلحة.
5ـ الإفتقار إلى قطاع صناعي وتكنولوجيا تسليح وطني.
لقد عزَّز الربيع العربي من عناصر قوة القوى الإقليمية الرئيسية، كل منها على حدة لا سيما إيران وتركيا ما عدا العراق، مقارنة مع دول الخليج، والذي كان أبرز مؤشراته هامش المناورة الإيراني فيما يتعلق بقضاياها الرئيسية مع الخليج وعلى رأسها الأمن. وعلى الجانب التركي كانت أبرز تلك المؤشرات السلوك التركي الذي ركز على براجماتية اقتصادية لا سيما مع دول الخليج، مع تعزيز دور الشريك الاستراتيجي فيما يتعلق بدول الربيع العربي كليبيا، ومصر مع اختلاف…. واتفاق مطلق في الحال سورية، حيث تشكل بعداً استراتيجياً للأمن التركي، في حين يقبع العراق تحت مؤشرات ثورية، خصوصاً مع الإختراق الإيراني المهدد لأمن ووحدة العراق[21].
خامسا: القضية الفلسطينية وتراجع الدور الخليجيّ:
انتقل الخليج العربي من الراعي الأقوى للقضية الفلسطينية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيليّ، إلى أحد أكبر المتجاهلين لها نتيجة التهديدات الإقليمية المرتبطة بشكل أو بآخر بالقضية الفلسطينية نفسها، فبالنسبة للدور الإيرانيّ الذي يزعم أنّه دور “مقاومة” يناهض إرادة “دور الانبطاح الخليجيّ”، فهو يخفي حقيقة استخدام طهران للفصائل الفلسطينية ولحزب الله في لبنان لشغل إسرائيل عن أيّة مواجهة عسكرية محتملة ضدّ إيران[22]، في مقابل تهديد دول الخليج وإنشغالها بمشاكلها الداخلية حتى يتاح لطهران لعب أدوار إقليمية مؤثّرة، تتيح لها التفاوض مع واشنطن، وتقليص مساحة التفاهمات الخليجية الأمريكية في المقابل، وتدرك دول الخليج العربيّ أنّ هذا الدور الإيرانيّ يقوم على شغلها بالقضية الشيعية في دول الخليج، انطلاقا من العراق وسوريا ولبنان، التي تشكّل “الهلال الشيعيّ”، حيث تحوّل الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ إلى “حصان طروداة “، لتهيئة تفاوض إقليميّ: أمريكيّ روسيّ إيرانيّ تركيّ أوروبيّ، يستثني الدول العربية، وفي مقدمتها دول الخليج العربيّ.
تجني دول الخليج بسبب “عدم صدقية تجربتها الوحدوية” خسارة مزدوجة، حيث أنّها لم تتمكن من التحوّل إلى كتلة إقليمية من جهة، وقد أصبح لزاما عليها اليوم اللجوء إلى التنسيق الأمنيّ والعسكريّ، واستخدام المخابرات والتنسيق اللوجستيّ، لمنع تناميّ أيّ دور إيرانيّ معاد، ويشبه هذا الوضع سياسات دول الخليج العربي في مرحلة الحرب الباردة، إذ لا سبيل أما الخليجين سوى عقد الصفقات والتفاوض السريّ وفق ورقة المصالح، لضمان ولاء الحليف الأمريكيّ والغرب[23].
لقد كان الموقف الخليجي بالنسبة للقضية الفلسطينية، في سنة 2013 /2014 شديد التباين فقد برزت قطر كداعم مادي ومعنوي للقضية الفلسطينية وكوسيط براغماتي يملك قدرات مناورة مع اسرائيل وفلسطين والفصائل الإسلامية، كما وقفت ضد العدوان على غزة، في المقابل شهد الدعم الخليجي الفلسطينية تراجعاً كبيراً لأسباب كثيرة، ظهرت في مايلي:
1ـ تشديد الخناق على حركة المقاومة الاسلامية (حماس) باعتبارها تجسيد (الخطاب الإخواني) الذي تنعته مصر بالإرهاب، وعليه ومع تنامي خطاب ” شيطنة ” إلاخوان المسلمين بعد عزل الرئيس المنتخب (مرسي)، فقد التف حول هذا الخطاب قادة دول الخليج العربي ذات الثقل الإستراتيجي: السعودية والإمارات تحديداً.
2ـ التدمير الممنهج لخيار المقاومة بدعوى مكافحة الإرهاب في سيناء ورفح المصرية، وهو ما انعكس سلباً على القضية الفلسطينية وجعل كثير من المجلس والمتابعين يؤكدون بأن الخطاب الخليجي ينسجم بشكل متناغم مع الخطاب الاسرائيلي المصري الذي اعتبر ما تقدم به حماس تهديد مباشر للأمن المصري والإقليمي.
3ـ تكميم كل الأفواه التي تدعو إلى دعم القضية الفلسطينية (والمقصود هنا تيار المقاومة) وقد وصل الأمر بالبعض إلى مباركة ما أقّرته جهات قضائية مصرية بتصنيف كتائب القسام – الجناح العسكري لحماس كحركة إرهابية تهدد الأمن القومي المصري.
4ـ تراجع الخطاب الخليجي الداعي إلى مباركة “عمليات المصالحة الفلسطينية” والذي تزعمه الملك السعودي الراحل (عبد الله بن عبد العزيز) وبروز (مصر) من جديد كوسيط وُصف بغير “المحايد” في عمليات المصالحة (الفلسطينية / الفلسطينية).
سادساً:الخليج في المنظور الأمني:
إن تحقيق الأمن الجماعي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية يجب أن يرتكز على الأسس التالية:
1ـ لا يمكن تحقيق الأمن الجماعي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية إلا إذا كانت كل دولة عربية خليجية تتمتع بالأمن والاستقرار الداخلي.
2ـ يمكن تحقيق الامن الجماعي لدول مجلس التعاون إذا استجابت دول الخليج العربية لأي دولة يتعرض أمنها للخطر بمساعدتها على مواجهة التخريب الداخلي والمستورد
3ـ إن أمن دول مجلس التعاون هو قضية تهم أبناءها في المقام الأول، وأن الدفاع عنها هو مسؤولية دولها وشعوبها.
4ـ يرتبط أمن دول مجلس التعاون بقضية البناء الاجتماعي والسياسي، والقدرة على إقامة المؤسسات والأنظمة الجماعية القادرة عللى تحقيق مستويات من التنمية والتطور الذاتي، بما في ذلك إستثمار الثروة.
5ـ إعتبار أن أمن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، وأنه يتأثر به ويؤثر فيه سلبيا وايجابيا[24].
ونظرا لتعقد المصالح المحلية والإقليمية والدولية في منطقة الخليج العربي وتشابكها، فإن أمن المنطقة مؤهل ليكون عرضة لمجموعة من عوامل التهديد المحلية والإقليمية والدولية، يمكن إدراجها في العوامل المجتمعة التالية:
أ- التهديدات الداخلية:
تتمثل التهديدات الداخلية القائمة والمحتملة في العناصر الآتية:
الأقليات العرقية والدينية.
الاضطرابات السياسية وعدم الإستقرار السياسي
التركيبة الديمغرافية وقلة عدد السكان.
غياب الخدمة العسكرية الإلزامية
أعمال التخريب وإثارة القلاقل
برزوز خلافات بين الزعامات الحاكمة وإشعال نيران الحروب القبائلية.
زعزعة نظام القيم وتغيير الولاءات
تفكك النظام القبلي التقليدي وتحول قيم المجتمع التقليدية
صعود شرائح إجتماعية جديدة من التكنوقراط والمتعلمين الذين يرغبوا في إفساح المجال أمامهم للمشاركة.
وجود فجوات في البنية الإجتماعية
حجم العمالة الأجنبية وخاصة الأسيوية وغير العربية.
ب- التهديدات الإقليمية:
تتمثل التهديدات الإقليمية القائمة والمحتملة في العناصر الآتية:
تمدد النفوذ الإيراني جغرافيا ومذهبيا
عدم التوصل إلى تسويات مرضية مع العراق
عدم تسوية منازعات الحدود بين دول الخليج وشبه الجزيرة العربية
عدم استيعاب اليمن ضمن منظومة الدفاع عن الخليج والجزيرة العربية
زيادة عمليات الإستقطاب الإقليمي والدولي (تركيا، إيرن، الدول الغربية)
ج- التهديدات الدولية:
تتمثل التهديدات الدولية القائمة والمحتملة في العناصر الآتية:
أطماع الدول الكبرى
نهب الثروات من خلال إثارة الحروب واستغلال انهيار أسعار النفط
إمكانية توظيف الأقليات غير العربية واستعمالها وسيلة للتدخل في المنطقة
إبقاء التوتر في المنطقة وتأجيج الصراعات والنزاعات
محاربة الحركات الإسلامية تحت شعار مكافحة الإرهاب (أصبحت الدول الخليجية تمارس الحرب الوكالة في محاربة حركات إسلامية كثيرة)
الوجود العسكري الأجنبي في منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر والمحيط الهندي[25].
إن فقدان النموذج الأمني الجماعي النابع من إرادة دول المنطقة سوف يؤدي إلى استمرار التدخلات ما وراء الإقليمية، كما أن استمرار التدخلات ما وراء الإقليمية في غياب التكامل و”ما يشبه الإتحاد الإقليمي” سوف يؤدي إلى زيادة مستوى وحجم التحديات على الصعيدين الإقليمي والوطني، وبالتالي اتساع الهوة بين النسيج الإجتماعي والأنظمة السياسية لدول المنطقة.
إن الهوة بين النسيج الإجتماعي والأنظمة السياسية تؤدي إلى تنامي التطرف المدني، حيث يسهل ويسرع هذا الأمر تجنيد المتطرفين والمتشددين بوجود أرضية ملائمة للتيار الاسلامي الراديكالي، وإن نمو التطرف الديني من خلال التركيبة الإجتماعية للدول المحيطة بالخليج يمكنه مرة أخرى أن يؤدي إلى مضاعفة تبعية واعتماد البنى السياسية والحكومية للدول على العناصر ما وراء الإقليمية وخاصة على الولايات المتحدة، إذ أن هذا بحد ذاته يسهم أيضا في مزيد من تدخل الولايات المتحدة في هذه المنطقة[26].
إن محاولة تطبيق نظريات الأمن الإقليمي في الخليج العربي يجب أن تنطلق من التأثير السلبي للحروب الثلاثة التي شهدتها المنطقة في الفترة 1980-2003 على الأمن الإقليمي وما نتج عنها من تغيرات على صعيد التوازنات الإقليمية ومن أهمها:
1ـ تشكل مثلث إستراتيجي (strategic triangle) دول مجلس التعاون، والجمهورية الإيرانية والولايات المتحدة الأمريكية أضلاعه الثلاثة، بعد انهيار قوة العراق عسكريا، وخروجها من المعادلة الإستراتيجية.
2ـ زيادة تأثير الأطراف غير التابعة للدول (non state actors)، ومن أبرزها: الجماعات الإثنية والمذهبية، والتيارات السياسية، والمنظمات الدولية.
3ـ مؤثرات العوامل المحلية والإقليمية على الأمن الدولي، ومن أبرزها: متطلبات الإصلاح، ونمط العلاقة بين المجموعات الإثنية والمذهبية داخل المجتمع الخليجي، وعلاقة الدولة بالمجتمع، وتأثير العولمة وتعدد الثقافات وثورة الاتصالات على الأمن الداخلي، إضافة إلى الأزمات المالية التي عصفت بالإقتصاد العالمي.
لقد مثلت هذه العوامل في مجملها بؤر توتر في المنظومة الأمنية في دول الخليج العربي، وأتاحت لبعض القوى الخارجية أن تبادر إلى الإستفادة منها بهدف زيادة نفوذها والسعي إلى كسب تعاطف جماعات سياسية محلية من خلال توظيف الذاكرة التاريخية، والمعتقدات الدينية، كأدوات لتنفيذ أجنداتها[27].
في المجال الدبلوماسي الخليجي الموحد ينبغي التأكيد على المقومات التالية:
1ـ وضع إطار قانوني جديد يتضمن تحويل مجلس التعاون من منظمة دولية إقليمية ذات طابع حكومي، إلى منظمة دولية إقليمية ذات طابع إندماجي، وتعديل النظام الأساسي للمجلس للتغلب على ضعف بنيته الهيكلية.
2ـ إيجاد ألية حقيقية لتسوية المنازعات، بديلة عن “هيئة تسوية المنازعات” التي لم تخرج إلى حيز الوجود على الإطلاق.
3ـ تفعيل دور الأمانة العامة لتقترب في صلاحياتها المفوضية الأوروبية في بروكسل.
4ـ تحويل الهيئة الإستشارية إلى ” برلمان خليجي ” منتخب على غرار ” البرلمان الأوروبي”.
5ـ استحداث منصبى ممثل للشؤون الخارجية والأمنية لمجلس التعاون الخليجي على غرار منصب ممثل الشؤون الخارجية والأمنية للإتحاد الأوروبي[28].
ثمة ثلاث رؤى متباينة بشأن التغير في دول الخليج (من المنظور المستقبلي):
الأولى: ترى أن دول مجلس التعاون الخليجي استثناء من الحالة الثورية العربية، وأن هذه الدول شبه محصنة إزاء الثورات، وتعزو هذا الإستثناء إلى أن مواطني دول المجلس لديهم القليل من الأسباب الإقتصادية التي قد تدفعهم إلى المطالبة بالتغيير.
الثانية: ترى أنه لا إستثنائية بين أنظمة جمهورية وملكية في المطالبات الثورية الراهنة، وأن ما ينطبق على الدول العربية التي شهدت ثورات، ينطبق بالمثل على دول مجلس التعاون الخليجي، وأن ما تشهده هذه الدول صورة من صور الثورات، لكن الإختلاف هو في عدم توافر الشروط المساعدة على نجاح الثورات على الأقل في الوقت الحالي.
الثالثة: ترى أن ثمة فوارق بين دول مجلس التعاون من حيث كونها عرضة للثورات من عدمها، حيث لا تتعامل مع دول الخليج ككل متكامل، ولا تسوي بين أنظمتها فيما يتعلق بالمستقبل السياسي.و بوجه عام سيظل “الإصلاح المبادر” هو التغيير “الآمن” بالنسبة إلى دول الخليج[29].
ثمة قضايا محورية بحاجة إلى إعادة تقييم ونظر من قبل صناع القرار الخليجيين في ضوء التطورات التي يشهدها الإقليم، وأهمها:
1ـ ثبوت عدم صحة مقولة: إن دول الخليج محصنة من أي تغيير، بدعوى أنها تتمتع بخصوصية لا تتوفر لدى الأنظمة العربية. صحيح أن هناك خصوصية خليجية تتمثل في طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وانفتاح العلاقة بين السلطة والشعب كطبيعة لشبكة العلاقات الإجتماعية، إضافة إلى أن ثرواتها النفطية منحتها فرصة في تطوير دولها، غير أن هذه الخصوصية لا تنفي التغيير، بل تعني أن التغيير في الخليج لن يكون عبر الثورة بمفهومها التقليدي بقدر ما يتطلب مبادرة من القيادات السياسية التي يشكل وجودها ضرورة لضمان استقرار المنطقة الخليجية. بعبارة أخرى – وإن جاز التعبير – فإنه إذا كان شعار التغيير في دول الربيع العربي: ” الشعب يريد إسقاط النظام” فإنه في دول الخليج يكون: “الشعب يريد إصلاح النظام” على نحو ما نجحت فيه المغرب كنموذج يحتذى به في تعامل النظم الملكية مع مطالب التغيير الشعبي.
2ـ أن الثورات العربية وإن كانت تدريجية وبدرجات مختلفة من دولة إلى أخرى، من مقولة “الخصوصية الخليجية”. ومقولة “الإستثناء الخليجي” أو “حصانة الملكيات العربية” فالتغيير قادم لا محالة، وقد اتضح ذلك في تبدل ردود الأفعال الخليجية التي اتسمت بالإيجابية في التعامل مع مطالب الإصلاح والتغيير الداخلي. وقد أثبتت طريقة تعامل دول الخليج مع هذه التطورات دليلا واضحا على تبدل رد الفعل تدريجيا، والتعامل بإيجابية مع مطالب الإصلاح والتغيير، في محاولة لإكساب نظم الحكم القدرة على التكيف مع المطالب الجديدة والفعالية في الإستجابة للتحديات ومن الأمثلة على ذلك التغيير الناعم للسلطة في قطر[30].
لابد من الوعي بالموقف السياسي العربي – الخليجي المعاصر – وتبدلاته المستقبلية عند التعامل مع المتنافسين الإقليميين القدامى والجدد، فسوف تظل إيران التهديد الرئيسي للمنطقة على كافة المستويات، حيث يمكن التقليل من حجم الخطر الإيراني وقوته (تكتيكيا واستراتيجيا) وذلك من خلال تعزيز الوعي السياسي والشعبي الخليجي به،و التعاطي معه بحذر، وفي المقابل لا بد من التعاطي بوعي مع التقارب التركي[31] بما يحقق المصالح العليا لدول الخليج، فهي دولة صديقة من عدة أوجه، أولها وأعمقها أنها دولة إسلامية وثانيها أنها ذات عمق اقتصادي يمكن أن يكون شريكا استراتيجيا إضافة إلى أنها جغرافيا في الطرف الأسيوي الأوروبي وهذه ميزة حيوية ينبغي استثمارها[32].
لقد استطاعت دول الخليج العربي، على الرغم من جميع المعوقات التي اعترت طريق استكمال وحدتها، أو إعلانها ككيان جديد في المنطقة العربية، استطاع أن يتجنّب ويلات الحروب والنزاعات الدولية المحيطة به في العراق وسوريا وفلسطين واليمن ومصر، وأن يواصل خططه للتنمية الاقتصادية والحداثة، لكن دون انفتاح سياسيّ حقيقيّ، قد يهدّد طبيعة أنظمته السياسية الملكية والأسرية.
يجب أن ينتقل الخليج العربيّ من موقع المُشاهد إلى موقع المبادر، فصحيح أنّ أجهزة الاستخبارات الخليجية تعمل على إدارة الأزمات السياسية في المنطقة بطريقة حكيمة لتجنّب نفسها الآثار السلبية لتلك التحولات، غير أنّ غياب سياسة موحدة للدول الخليجية سيجعلها مستبعدة من الحسابات السياسية للقوى الإقليمية، كلما تقدّمت للتفاوض بشكل منفرد، إذ يدعم الخلاف الخليجيّ – الخليجيّ، الدور الإقليميّ لتركيا وإيران وإسرائيل على حساب دول المنطقة الخليجية، التي تحتاج إلى تخطيط محكم لمنع التهديدات من الوصول إلى حدودها الإقليمية، بالاعتماد على إمكاناتها الذاتية، ودون الحاجة إلى الحماية الأمريكية، التي يفترض بها أن تكون مكمّلة لا مشرفة ومسيطرة.
المستقبل الخليجي: الرهانات المفتوحة والاسئلة الحرجة:
عمليا أبان “الربيع العربي ” والمتعثر، خصوصا في الحالة المصرية، (وبعد إعلان براءة الرئيس المخلوع حسني مبارك وإخلاء سبيله في نوفمبر 2014) والزج بالرئيس الشرعي السابق (مرسي) في السجن، وتسييس القضاء المصري، وتغوّل “القرار الإيراني” على إدارة دواليب صناعة الهيكلية السياسية في “سوريا – لبنان – العراق – اليمن” عن عجز كبير في ديناميكية السياسة الخارجية الخليجية، ومع وجود تحالفات جديدة بين (مصر السيسي) والسعودية والكويت والبحرين من جهة، ووجود تحالف إستراتيجي قديم بين (دولة قطر) وحركات الإسلام السياسي (الإخوان تحديدا، وموقف قطر الداعم لمصر “مرسي”) ومع وجود قطب إعتزالي محايد (ممثلا في سلطنة عمان تحديدا) تبدو إستحالة صنع إرادة خليجية موحدة تضبط “إيقاع السياسة الخارجية الخليجية “.
ويبقى الخلاف قي وجهات النظر “سياسيا” لا يتنزّل على ساحة العمل الإقتصادي المشترك ولا يؤثر على حجم التبادل التجاري، وتبقى” المسألة الأمنية “مع الأسف غائبة بشكل محوري وهو ما يؤكده التغاضي عن مسألة انتهاك السيادة الإماراتية من طرف إيران في مسألة الجزر الثلاث، والتدخل الإيراني في الشأن الخليجي خصوصا (البحرين واليمن).
تتعاطى كل دولة في الخليج بمنطق براغماتي فرداني وهو ما يجعلها دائما في موقف “تفاوضي” ضعيف، رغم بقائها (محورا) أساسيا تتعامل معه القوى الغربية بمنطق براغماتي ” مقيت “، وما لم تتفطن دول الخليج إلى أن “مسألة الأمن الخليجي قضية ملحة” فإن الأطراف الدولية بإمكانها أن تعيد صياغة البوصلة السياسية لدول الخليج لغير صالحها، وإنما لصالح القوى العظمى أو لصالح القوى الإقليمية خصوصا إيران التي تمتلك “أجندة واضحة” وتملك تحالفات استراتيجية مع حركات الإسلام السياسي بمختلف أطيافه (سنة وشيعة) وهو ما يجعلها قادرة حقيقة على “المبادرة والتأثير” واللعب بأريحية في صياغة مستقبل الخليج العربي الذي يبقى في بوصلتها ورؤيتها “فارسيا”.
إن هذا الموقف يقتضي إعادة صياغة منظومة السياسة الخارجية الخليجية حتى تتمكن حقيقة من التأثير في صياغة القرار العالمي والإقليمي وبناء على ما سبق يمكن القول أن السياسة الخارجية الخليجية يجب إعادة ضبطها بناء على سلم الربح والخسارة بالمنظور الجماعي الخليجي وهو ما يقتضي تبني عقيدة عسكرية وأمنية خليجية تعلي من قيمة الأمن والمنافع البينية وليس من قيمة التحالفات والعلاقات الضيقة التي تحتمها إكراهات ظرفية فالخليج العربي وحدة اجتماعية واقتصادية تتوفر على عناصر القوة والضغط والتأثير وتمتلك مقومات صناعة القرار الدولي والإقليمي شريطة توفر الإرادة الجماعية.
صحيح أن لكل دولة أجندتها الخاصة لكن التهديد الجماعي واحد ولا يفرق بين السعودية وقطر والبحرين والكويت وعمان والإمارات وعليه فتبني محاور – سياسة الصقور – وسياسة الاعتدال – غير محبذة في التعاطي مع الشأن الدولي الضاغط والزاحف والذي يهدد دول الخليج العربي.
إن المعطى الطائفي لا يمكن إنكاره وبإمكانه أن يتحالف مع قوى راديكالية وقوى إسلاموية ويحول بعض دول الخليج الصغيرة إلى مشاريع لدول فاشلة وفي هذه الحالة فان دول الخليج العربي مجتمعة ستدفع فاتورة الفشل الدولتي الذي ستعاني منه أحداها.
وسيسعى الجنوب اليمني الى الانفراد بخاصية دحر انتشار المد الحوثي وهنا لا يمكن للسعودية أن تقف موقف المتفرج وهي تدرك ان الجهة الشرقية الغنية بالنفط تقطنها غالبية كبيرة من الشيعة الإثنا عشرية التي تتحرك ببطء وتنتظر لحظة الحسم لإعلان مشروعها ولكن بنزعة حقوقية وقانونية تعطيها مكانة في منظومة الخطاب السياسي الغربي والدولي مستفيدة من – الإنتصار الزائف للحوثيين- وهو ما يتطلب من دول الخليج العمل على زيادة تعزيز منظومة قيم المواطنة لدى جميع الطوائف الدينية والارتقاء بحقوق الإنسان بشكل يحجم من التدخل الإقليمي والإيراني تحديدا في الشأن الداخلي.
ويحدد الباحث عبد العزيز بن عثمان بن صقر 5 سيناريوهات للمستقبل الاستراتيجي للخليج العربي سنة 2025 وهي كالتالي:
السيناريو الأول: الأزمة الممتدة: أي استمرار الوضع الراهن في المنطقة على ما هو عليه، سواء لجهة الوضع في العراق، أو لجهة النفوذ الأميركي في المنطقة، أو لجهة الملف النووي الإيراني، أو الوضع الداخلي في إيران، أو العلاقات بين دول مجلس التعاون. وسيكون لهذا السيناريو إذا ما تحقق انعكاسات على دول الخليج، كاستمرار حالة القلق في شأن مستقبل المنطقة، واستمرار الصراعات الطائفية في العراق، واستمرار أسعار النفط عند معدلات مرتفعة،
السيناريو الثاني: الكارثي: وهو سيناريو سيتحقق في حالة توافر شروط ومعطيات من أبرزها تفكك العراق، واندلاع حرب خامسة في الخليج بسبب الملف النووي الإيراني، الأمر الذي سيترتب عليه تداعيات كارثية على المنطقة، بدءا من تصدير العنف والإرهاب إلى دول المنطقة بسبب تفكك الدولة العراقية، وتدفق اللاجئين العراقيين إلى دول المجلس، واستهداف المصالح الأميركية في المنطقة كرد فعل على الهجوم العسكري الأميركي ضد إيران، وتحرك عناصر من الجوالي الإيرانية الموجودة في دول الخليج، وكذلك تحرك بعض الفئات الشيعية من مواطني دول الخليج وقيامها بأنشطة وردود فعل احتجاجية تعاطفا مع إيران، فضلا عن احتمال تعطل الملاحة في مضيق هرمز، وباب المندب.
السيناريو الثالث: سيناريو هيمنة إيران النووية على الخليج: ومن أبرز تداعيات هذا السيناريو: تحول إيران إلى قوة مهيمنة على دول المنطقة، وسيطرتها على العراق، وتمسكها باستمرار احتلال الجزر الإماراتية، وتدخلها في الشئون الداخلية لدول المنطقة من خلال تحريكها للجماعات الشيعية في هذه الدول، وهو أمر يمكن أن يدفع بدول مجلس التعاون، وتحديدا السعودية، إلى السعي بدورها لامتلاك سلاح نووي في مواجهتها.
وتبرز في هذا الإتجاه بعض السيناريوهات الأمنية الجديدة مثل توقيع إتفاقية أمنية حمائية مع الدول العظمى خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية على(غرار الإتفاقية الأمريكية اليابانية) بشكل يحميها من أي ضربات عسكرية محتملة.
السيناريو الرابع: وقوع الخليج تحت هيمنة أميركية ـ إيرانية مشتركة: وسيكون لهذا السيناريو تداعيات كثيرة أبرزها: قيام تنسيق استراتيجي بين إيران والولايات المتحدة سيكون في الغالب على حساب دول مجلس التعاون الخليجي، الأمر الذي سيجعل هذه الدول، وتحديدا السعودية، بوصفها كبرى دول المجلس الست، محاصرة بمحور واشنطن – طهران، الذي لن يمنع إيران من الاستمرار في التدخل في شئون دول المجلس الداخلية بموافقة ضمنية أميركية.
السيناريو الخامس (التفاؤلي): وهو سيناريو تحقيق الأمن والاستقرار والديمقراطية والتنمية في المنطقة: ومن أبرز تداعيات هذا السيناريو: تجنب التهديدات الإقليمية، وشيوع الأمن والاستقرار على الصعيد الإقليمي والخليجي، والاهتمام أكثر بقضايا التنمية والإصلاح، وهو ما سينعكس تراجعا في الإنفاق على التسلح، وسيعزر فرص الإصلاح السياسي في دول المنطقة[33].
ومن هذه السيناريوهات يمكن القول أن السيناريو الأول هو الأكثر رجحانا (أي سيناريو الأزمة الممتدة)، مع تزايد احتمالات التدهور فى بعض المجالات، لكن دون أن تصل الأمور إلى حد السيناريو الكارثي، اللهم إلا إذا اندلعت حرب بالمصادفة لأخطاء في الحسابات. وفي هذا السياق، فإن الأمر يؤشر إلى استمرار حالة عدم الاستقرار في العراق لفترة من الزمن حتى وإن استمر العراق موحدا، واستمرار الخلل الاستراتيجي في بعض موازين القوى في المنطقة لمصلحة إيران، واستمرار الوجود العسكري الأميركي في المنطقة ولو بحجم أقل في بعض الدول.
لقد حصدت إيران الكثير وحققت أمريكا وحلفائها الكثير من تفكك وعدم وضوح الأجندة الخليجية وحققت تركيا وهجا دبلوماسيا وشعبيا على حساب الدبلوماسية العربية المتقاعسة. والخاسر الأكبر هو الخليج العربي الذي يراد له أن يكون فسيفساء ديمغرافية وقطع شطرنج على طاولة الكبار واللاعبين الإقليميين فإذا استطاعت أقلية لا تمثل 20 بالمائة أن تفرض منطقها بقوة السلاح والحديد والنار على اليمن فلا غرو أن نيران اللهب قد تمتد لتنال من كل الدول التي تشكل فيها الأقليات نسب معتبرة، وإعادة تشكيل البناء السياسي والديمغرافي المعاصر للخليج العربي في ظل وجود عمالة أجنبية فاقت في عددها سكان الخليج الأصليين.
إن إعادة صياغة الإنسان الخليجي والمواطنة الخليجية مهمة ضخمة تتطلب بناء نظام سياسي يقوم على وحدة المصير المشترك وفق مقاربة مهمة تقوم على توحيد الرؤى الأمنية والدبلوماسية التي تقف مع مصير الإنسان وتعلي دولة الحق والقانون، ودول مجلس التعاون مُطالبة بتبني عقيدة الأمن الجماعي المشترك وفق رؤية تحددها أجندة المصير المشترك وليس أجندة المصالح الضيقة وهو الرهان الاستراتيجي المستقبلي.
هناك العديد من الدلالات التي حملتها التحولات الداخلية في دول مجلس التعاون الخليجي، على مدار أربعة أعوام من إندلاع الثورات العربية يمكن إيضاحها فيما يلي:
1ـ إنتهاء قدسية رأس السلطة في دول الخليج، فلم تعد ذات الحاكم مصونة، سواء كان ملكا أو أميرا أو سلطانا أو رئيسا، وأصبحت هدفا مباشرا للنقد من جانب “قوى الشارع”، ولذلك عمدت كثير من الدول الخليجية لتدوير النخب وهو ما لاحظناه من بروز قوة سياسية شابة وجديدة في كل من الإمارات والسعودية وقطر والكويت كما تشير الدراسات التتبعية بان عصر العاهل السعودي الملك سلمان يشي بسياسة خارجية جديدة في ظل ما قام به من تعيينات جديدة وإقالات تصب كلها في التوجه الذي ينتظر من السعودية باعتبارها الأخت الكبرى التي يعول عليها في تحريك قاطرة السياسة الخارجية الخليجية الجديدة.
2ـ تصاعد مطلب الشراكة في الحكم وليس التبعية له، حيث بدا خلال مرحلة ما بعد الثورات العربية أن هناك طلب على الإصلاح السياسي من جانب شرائح مجتمعية في دول الخليج، عبر المطالبة بإصدار الدساتير الوطنية، وتوسيع التمثيل في السلطة التنفيذية، وإجراء الإنتخابات البرلمانية الدورية، وتزايد عدد التنظيمات الأهلية وتوسيع الحريات الإعلامية والتوقيع على الإتفاقيات الدولية الداعمة لحقوق الإنسان، على نحو يؤدي إلى نهاية مرحلة وبدء مرحلة جديدة.
3ـ تغير الشرائح الجيلية المطالبة بالتغيير السياسي، حيث تصاعد دور القطاعات الشابة في المطالبة بالإصلاح السياسي في دول الخليج، وهو ما برز في حركات التغير، لاسيما إن التركيبة الديمغرافية في دول الخليج يسيطر عليها الشباب، حيث تشير الإحصائيات إلى أن نسبة الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و34 عام (وفقا لمعيار الأمم المتحدة) تبلغ 28.8 % من إجمالي سكان دول المجلس، وتصل هذه النسبة إلى 27.8 % في سطنة عمان و69.4 % في السعودية، و67.2 % في الإمارات، 66.8 % في الكويت و65.1 % في قطر و62.3 % في البحرين، بما يشير إلى ضرورة إحتواء مطالب تلك الفئات الشابة التي لم تعد مقصورة على المطالب الإقتصادية والمعيشية بل تجاوزتها للمطالبة بالمشاركة السياسية، والحصول على نصيب من السلطة مثل الثروة وهو ما دفع أنتوني كووردسمان الخبير في شئون الخليج إلى إطلاق تعبير “الديمغرافيا والإنفجار الشبابي المقبل في الخليج”.
4ـ وجود تأكل نسبي في شرعية الدولة الريعية، بحديها الغني والفقير، فالسعي للتغيير السياسي من جانب قوى الإحتجاج برز في أغلب الدول الخليجية.
5ـ عدم وضوح دور العامل الدولي، إذ أن هناك إلتباس في مدركات النخب الخليجية الحاكمة للعامل الدولي وخاصة الأمريكي، بشأن كونه عامل داعم للأمن أو خصما منه. وفي هذا السياق، يمكن فهم التذبذب والغموض في الموقف الأمريكي، وقد دفع ذلك بالبعض إلى وصف الولايات المتحدة ” بالحليف غير المستقر لدول الخليج “، بل تزايد الإدراك الرسمي لعدد من الدول الخليجية بأن الولايات المتحدة ربما تكون واحدة من مصادر التهديد الجديدة لأمنها الوطني، وهو واحد من المتغيرات الرئيسية التي أفرزتها الثورات العربية، بما خالف التوجهات الرئيسية الحاكمة للعلاقات الأمريكية الخليجية على مدى أكثر من عقدين من الزمن، وتحديدا بعد خبرة التحالف الدولي لتحرير الكويت[34].
وفي ضوء هذه الاعتبارات يمكن القول أن دول مجلس التعاون معنية بإتخاذ خطوات إصلاحية على عدة أصعدة، من أهم هذه الخطوات ما يلي:
(1) تعزيز مفهوم المواطنة، ومأسسة إنتقال السلطة، وتطوير وتوسيع المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار
(2) المضي قدما في عملية التنمية وتوفير البيئة الإقتصادية والإستثمارية للإبداع والتطوير والإنجاز.
(3) القضاء على مصادر الإحباط لدى القطاعات الواسعة من المجتمع ولا سيما فئة الشباب، وذلك عن طريق إيجاد حلول ناجعة للمشكلات المستعصية وفي مقدمتها: البطالة والإسكان.
(4) ترسيخ وتعزيز لإحترام حقوق الإنسان والحريات المدنية في المجتمعات الخليجية التي أصبحت الآن في مرحلة إستراتيجية من الوعي السياسي والحقوقي.
للحصول على النص الكامل للدراسة مدعماً بالملاحق والجداول: الرابط
الهوامش :
[1]جمال سند السويدي، آفاق العصر الأمريكيّ – السيادة والنفوذ في النظام العالميّ الجديد (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية، 2014)، ص. 68.
[2]جيرمي سولت، تفتيت الشرق الأوسط.. تاريخ الاضطرابات التي يثيرها الغرب في العالم العربي (ترجمة: نبيل صبحي الطويل) (دمشق: دار النفائس، 2008)، ص. 153.
[3]هشام هيبة، مجلس التعاون الخليجي: قراءة تقييمية لعملية التكامل الاقتصادي، مجلة السياسة الدولية، القاهرة، عدد أكتوبر 2003، على الرابط
[4]خالد شمس عبد القادر، التعاون والتكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون، الانجاز والعقبات، ملفات مسيرة التعاون الخليجي: التحديات الراهنة والسيناريوهات المحتملة، مركز الجزيرة للدراسات – أبريل / نيسان 2014 – ص. 25.
[5]محمد مصطفى الخياط، الطاقة لعبة الكبار: ما بعد الحضارة الكربوينة (القاهرة: دار سطور الجديدة، 2012)، ص. 68.
[6]هاني حبيب، النفط استراتيجيا وأمنيا وعسكريا: مصدر الثروة والطاقة والأزمات.. خيار عربيّ (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2006)، ص. 95.
[7]عبد الحي يحي زلوم، حروب البترول الصليبية.. والقرن الأمريكي الجديد (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005)، ص. 61.
[8]مايكل هاردت، أنطونيو نيغري الإمبراطورية: إمبراطورية العولمة الجديدة (ترجمة: فاضل جتكر) (الرياض: مكتبة العبيكان، 2002)، ص. 179.
[9]عبد الباري عطوان، القاعدة والتنظيم السريّ (بيروت: دار الساقي، 2007)، ص. 318.
[10]الرابط
[11]الرابط
[12]للإستزادة حول الدور الايراني في الخليج طالع:
-Mohammad-reza djalili et thierry keller، politique régionale de l’Iran potentialités.défis et incertitudes، Geneva center for Security Policy.2012 Link
-Gérard groc, une nouvelle diplomatie Turquie observation de la turquie et de son environnement géopolitique, institut de relation s internationales et stratégiques 8 décembre 2011 Link
[13]Adrian R. Lewis, The American Culture of War: The History of U.S Military Force: From World War II to Operation Iraqi Freedom (Ne York – London: Routledge, 2007), p.339.
[14]منصور حسن العتيبي، السياسة الإيرانية تجاه دول مجلس التعاون الخليجي (1979 – 2000) (دبي: مركز الخليج للأبحاث، 2008)، ص. 224.
[15]هادي فقيهي، نازح من جازان… مفاجآت التمرّد الحوثيّ على الحدود السعودية (بيروت: دار مدارك، ط. 02، 2011)، ص. 11.
[16]جمال واكيم، صراع القوى الكبرى على سوريا: الأبعاد الجيوسياسية لأزمة 2011 (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط. 02، 2012)، ص. 16.
[17]من ملفات مسيرة التعاون الخليجي: التحديات الراهنة والسيناريوهات المحتملة، مركز الجزيرة للدراسات – أبريل / نيسان 2014 – ص. 59.
[18]إبراهيم منشاوي وأحمد عبد التواب، سيناريوهات وخيارات: الصعود الحوثي ومستقبل أمن دول مجلس التعاون،نوفمبر 2014 الرابط
[19]نفس المرجع السابق.
[20]نفس المرجع السابق.
[21]نفس المرجع السابق، ص 172.
[22]عادل الجوجري، أحمدي نجاد.. رجل في قلب العاصفة (دمشق – القاهرة: دار الكتاب العربي، 2006)، ص. 233.
[23]وليام سيمبسون، الأمير.. القصة السرية للأمير الأكثر إثارة للاهتمام في العالم.. الأمير بندر بن سلطان (ترجمة: عمر سعيد الأيّوبي) (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010)، ص. 313.
[24]كمال محمد الأسطل، نحو صياغة نظرية لأمن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية (أبوظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 1999)، ص.45 -46.
[25]كمال محمد الأسطل، مرجع سابق، ص.60 -62.
[26]الخليج: تحديات المستقبل،(أبو ضبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2005)، ص176 -177.
[27]محمد عبد الغفار، الإستراتيجية الإقليمية والدولية لأمن منطقة الخليج العربي،(مركز البحرين للدراسات الإستراتيجية والدولية والطاقة)، ص.8-9.
[28]محمد بدري عيد، جمال عبد الله، الخليج في سياق استراتيجي متغير(الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات،2014(. ص 77 – 78 – 172.
[29]محمد بدري عيد، جمال عبد الله، المرجع السالف الذكر، ص. 300.
[30]محمد عبد الغفار، الإستراتيجية الإقليمية والدولية لأمن منطقة الخليج العربي المرجع السابق
[31]إقرأ حول الدور التركي والسياسة الخارجية الجديدة التركية:
irina tica-diaconu, la politique éxtérieure de la turquie.lés défis du printemps arabe Link
hicham mourad،la turquie vue du monde arabe.entre attraction et méfiance observatoire de la turquie et de son environnemment géopolitique, 5e séminaire institut de relations internationales et stratégiques paris.20 novembre 2012 Link
[32]محمد عبد الغفار، الإستراتيجية الإقليمية والدولية لأمن منطقة الخليج العربي،(مركز البحرين)
[33]عبد العزيز بن عثمان بن صقر، الوضع الاستراتيجي في الخليج… دراسة استشرافية 2025، الرابط
[34]أماني الطويل وأخرون، النظام العربي والإقليمي، التقرير الإستراتيجي العربي 2011- 2010، (مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية)، مطابع الأهرام التجارية، ط1، 2013، القاهرة، ص 155 – 157
* أستاذ التعليم العالي في العلوم السياسية