بقلم: إبراهيم القادري بوتشيش
يعد موضوع العادات والتقاليد من الموضوعات التي عادة ما تثير اهتمام علماء الاجتماع والمتخصصين في الحقل السوسيولوجي أكثر من المؤرخين، لذلك لا غرابة أن تحظى الدراسات الاجتماعية الحديثة حول المجتمع العُماني بعناية علماء الاجتماع بنسبة تفوق اهتمام المؤرخين بالموضوع نفسه، والحال أن التكامل بين عمل المؤرخ والسوسيولوجي يعد من الأهمية بمكان، خاصة إذا تعلق الأمر بدراسة مقارنة بين عادات مجتمعين، وهو ما تسعى هذه الورقة إلى معالجته والوقوف على معالمه الكبرى. غير أننا لا نتوخى في هذه الدراسة الوقوف بالتفاصيل على العادات والتقاليد المشتركة بين المجتمعين العُماني والمغربي، خاصة أن بعض الدراسات قد كفتنا مؤونة الحفر في أغواره والتنقيب في محدباته، مثل الدراسة المهمة التي قام بها الباحث سعود بن سالم العنسي في كتابه حول “العادات العُمانية”[1]، وهي دراسة تسمح بإيجاد خيوط التقارب بين العادات والتقاليد العُمانية – المغربية.
إن ما يطمح إليه هذا البحث هو محاولة إيجاد تفسير مقنع لهذا القاسم المشترك بين العادات في المجتمعين العُماني والمغربي انطلاقاً من مقاربة تاريخية، خاصة إذا استندنا على مقولة إن التقاليد والعادات المشتركة بين مجتمعين، هي حصيلة تراكم حضاري تمخض عن رصيد من الصلات التاريخية.
ولعل قراءة متفحصة في مجمل العادات والتقاليد التي يتميز بها المجتمعان العُمانيّ والمغربي تكشف عن تشابهها على عدة مستويات، سواء ما تعلق بالأزياء أو الأطعمة أو المخرجات الصوتية للهجات، أو على مستوى الأهازيج والفولكلور الشعبي، ناهيك عن عادات اجتماعية أخرى.
وللدلالة على صحة هذا الطرح، يكفي أن نقف على بعض العادات الاجتماعية التي استمرت حتى العصور الحديثة، ومن بينها عادة حمل الخناجر التي تعد عادة مشتركة بين أهل عُمان وقبائل الجنوب المغربي، إذ لا يلاحظ الباحث فرقاً بين شكل الخنجر المتجذر في بنية التراث العُماني ونظيره الراسخ في بيئة الجنوب المغربي[2].
الملاحظة نفسها تنطبق على بعض الأزياء، فالعباءة الزرقاء[3] والنعال التي يرتديها العُمانيون شبيهة بتلك العباءات التي يتميز بها أهل المغرب الجنوبي حتى من ناحية اللون الأزرق. أما الجلاليب والعمائم التي يلبسها أهل المغرب الشمالي، فهي متشابهة إلى حد أن أ؛د الدارسين[4] عبّر عن هذا التشابه في الشكل – وهو محق في ذلك – حين وصف العمائم المغربية بأنها “عُمانية الشكل”.
القاسم المشترك نفسه نلمسه كذلك في أزياء النساء، خاصة العباءة السوداء التي تلبسها خارج البيت كل من المرأة العُمانية ونظيرتها المغربية في الجنوب، إذ يشعر الزائر لمناطق المغرب الصحراوي، وهو يتتبع هذه الظاهرة كأن عينة من نساء المجتمع العُماني تعيش في المنطقة الجنوبية المغربية.
وثمة وجه آخر يعكس هذا التراث المشترك بين عُمان والمغرب، ويتمثل في تشابه لهجة أهل ظفار حالياً مع نظيرتها المغربية، إذ إن المخرجات الصوتية واستعمال المصطلحات العامية تكاد تكون متشابهة[5]؛ كما يمكن تلمس التماثل في العادات والتقاليد المغربية – العمانية في الفولكلور والرقصات الشعبية خاصة الرقصة المعروفة في جنوب المغرب باسم “الكدرة”، وهي رقصة تشبه تماماً إحدى أنواع الرقصات التي تؤديها النساء العُمانيات في الحركات والإيقاع[6]، مما يحمل على القول إن العادات العُمانية والمغربية في الزواج والأفراد والأعياد والمآتم ومختلف المناسبات الأخرى تكاد تكون متطابقة[7].
ويمكن – من غير عناء – ملاحظة تشابه أسماء العائلات المغربية والعُمانية الذي جاء انعكاساً للصلات الاجتماعية والثقافية من غير شك، فالاسم القبلي لبعض الأُسر العُمانية يوجد بوفرة في المغرب، ونسوق في هذا الصدد بعض الأسماء مثل أُسرة: الغساني والحارثي والعلوي والزواوي والسالمي والراشدي والحميري والشكيلي، وغيرها من الأسماء التي نجد صداها في كل من المغرب وعُمان[8]، بل إن أُسرة العزفي التي أسست في سبتة إمارة قوية تنحدر – إذا صحت فرضيات بعض الدارسين – من أُسرة قابوس بن النعمان بن المنذر[9].
وبالمثل لم يكن من قبيل الصدفة – بحكم ارتباط الأندلس بالمغرب وتبعيتها السياسية والحضارية له – أن تنتقل بعض الأسماء العُمانية ذات البعد التاريخي إليها مثل: المهلب بن أبي صفرة ويزيد بن المهلب[10].
ومن اللافت للانتباه كذلك أن عادة الصيد بالصقور لا تزال سائدة إلى اليوم في منطقة دكالة الواقعة في غرب المغرب الأقصى. ويذكر أهالي هذه المنطقة أن هذه العادة ترجع في جذورها إلى قبائل القواسم الذين ينحدر أصلهم منهم. ومعلوم أن القواسم كانوا يستوطنون عُمان منذ العصر الأموي، ويحدد المؤرخ العُماني سالم بن حمود السيابي[11] مناطق تجمعاتهم بعُمان في ملتقى وادي سمائل وفي نفعاً بوادي منصح في جبال الحجر، كما استقروا في فلج الحجر بوادي رسيل وفي صحم بالباطنة وأراضي وادي الميح، وفي بندر جصة جنوبي مسقط، ومع بني علي في صور وجعلان، وهذه قرينة أُخرى على العادات المشتركة التي أفرزها الانصهار الاجتماعي.
وبالمثل، فإن تشابه أسماء بعض المناطق تؤكد التشابه في أنماط العيش، ففي مسقط مثلاً توجد مقاطعة حمرية، وهو الاسم نفسه الذي تحمله إحدى المقاطعات الحضرية في مدينة مكناس المغربية[12]. ويمكن للطوبونيميا – إذا أحسن توظيفها – أن تضيء مساحات كبيرة من هذا الجانب.
إن هذا القاسم المشترك بين العادات والتقاليد في المجتمعين العُماني والمغربي المعاصرين، يستلزم البحث عن الجذور التاريخية التي حددت معالمها وأعطتها قوة الاستمرارية، فكيف نفسر ذلك انطلاقاً من مقاربة تاريخية؟
غني عن القول إن العروبة والإسلام شكلا الإطار المرجعي والوعاء المشترك الذي نسج خيوط هذه القاعدة التي تسترعي انتباه كل دارس سبر غور المجتمعين العُماني والمغربي على السواء. لكن مع الإقرار بفاعلية تلك القاعدة الصلبة التي لا يختلف فيها اثنان، لا تعوزنا القرائن لإثبات ما تمخض عن الخصوصية التاريخية للبلدين من عادات متشابهة، ويخيل إلينا أن هذا التشابه ما كان ليحدث لولا التواصل التاريخي الذي بصم صيرورة البلدين، وتميز بالاستمرارية عبر الحقب التاريخية، لذلك نكاد نجزم أنه من الصعب تفسير هذا الرصيد المشترك من العادات من غير الإقرار بأهمية التواصل الحضاري بمختلف أشكاله ودلالاته المعبرة.
واستناداً إلى مجموعة من المعطيات التي تثبت أشكالاً متعددة من التواصل التاريخي، نرى أن هذه العادات والتقاليد، إنما جاءت إفرازاً لهذا التواصل الحضاري؛ فقد سبق أن أثبتنا في دراسات سالفة أن العلاقات الثقافية كانت على أشدها بين بلاد المغرب (المغرب العربي حالياً) وعُمان، وأن المذهب الإباضي أدى دوراً مهماً في ارتباط البلدين، حيث تطوع مجموعة من علماء الإباضية لنشر الإسلام في بلاد المغرب، فانبثوا في الجبال والواحات وعاشوا بين أحضان القبائل المغربية.
كما أن بعضهم استقروا في حواضر المغرب والأندلس، وصحبوا معهم عائلاتهم حتى أصبحت الأُسر الأزدية من البيوتات المشهورة في الأندلس والمغرب، وأنجبت العديد من الشخصيات العلمية التي طارت شهرتها في الآفاق. وفي هذا الصدد يذكر ابن الأبار بعضاً منهم كأبي الحسن علي بن أحمد أبي قوة الأزدي الذي استوطن مراكش[13]. وقد تمخض عن هذه العلاقات الثقافية نشوء مدرسة عُمانية – مغربية لها توجهات فكرية مشتركة، كان أقطابها يتبادلون الزيارات العلمية بين المنطقتين، مما أدى إلى التزاوج والانصهار والاندماج الكلي، وهو عامل مهم يفسر أُسس هذه العادات المشتركة بين المجتمعين المعاصرين المنوه بهما[14].
وبالمثل أدت الصلات الاقتصادية بين البلدين دوراً أساسياً في إفراز ظاهرة العادات المشتركة بينهما، ولا غرو فقد رحل التجار العُمانيون إلى بلاد المغرب محملين بمختلف البضائع، ومنهم من آثر الاستقرار في بعض الحواضر المغربية كتاهرت وسجلماسة وورجلان وغيرها، مصطحبين معهم عائلاتهم، فتكونت بذلك جاليات عمانية انصهرت مع أهالي المغرب خاصة في مدينة تاهرت[15]، وبذلك وقع الاندماج بين المغاربة والعُمانيين، وهو اندماج لا نشك أنه شكل محطة ميلاد عادات وتقاليد مشتركة.
أما على مستوى التواصل الاجتماعي بين البلدين، فثمة من القرائن والحجج الدامغة ما يكشف النقاب عن مساهمة هذا العامل في ميلاد عادات وتقاليد عُمانية مغربية مشتركة، واستمرارها حتى اليوم حية نابضة في المجتمعين العماني والمغربي. فقد بدأت خيوط هذه العلاقات الاجتماعية تتشكل منذ التاريخ القديم، إذ تشير النصوص والروايات القديمة إلى حملة قادها أحد فراعنة مصر وهو الفرعون “سنوسرت الأول” إلى بلاد البخور التي يرجح الباحثون أن تكون ظفار، عاد بعدها ومعه جنود هذه المنطقة ليغزو بها الصحراء الغربية لمصر (صحراء المغرب العربي)، ويبدو أن عرب ظفار الذين شكلوا القوة الضاربة في حملة الفرعون المصري استقروا في هذه الأصقاع البربرية، وامتزجوا بأهاليها منذ تلك الفترة الموغلة في القدم[16].
ومع ظهور الإسلام اتخذت هذه العلاقات بعداً روحياً واجتماعياً عظيم الأهمية، فمنذ انطلاق الشرارة الأولى للفتوحات الإسلامية ببلاد المغرب، بدأت قبائل الأزد العمانية تتدفق عليها قصد المساهمة في حركة الجهاد[17]. وحسبنا أن ما لا يقل عن ألف وأربعمائة منهم شاركوا في فتح إفريقية حسب تقدير المؤرخ ابن عبد الحكم[18]. وبعد انتهاء الفتوحات العسكرية، طاب المقام لبعضهم، فآثروا المغرب والأندلس موطناً، وفضل معظمهم الاستقرار في سجلماسة وتاهرت وجبل نفوسة[19]، مما ساهم في تمازج العادات الاجتماعية لكلا الشعبين منذ هذه المُدة الباكرة.
وبظهور المذهب الإباضي، شب عود الصلات الاجتماعية بين البلدين، وزاد صلابة وتجذراً. ولا غرو فقد أولى المغاربة اهتماماً كبيراً لإخوانهم العُمانيين المقيمين آنذاك بالبصرة – المركز الأُم للتنظيم الأباضي – فشدوا الرحال إليهم رغبة في استيعاب المذهب الإباضي، مما ساهم في تدعيم الصلات الروحية والاجتماعية بين البلدين. كما رحل بعض شيوخ الإباضية العُمانيين إلى بلاد المغرب للتدريس بها، ونشر الدعوة الإباضية في تلك الأصقاع[20].
وزادت استماتة الدولتين الأُموية والعباسية في قمع المذهب الإباضي من تعميق العلاقات الاجتماعية بين عُمان والمغرب، ذلك أن سياسة البطش التي مارستها الدولتان معاً ضد أتباع المذهب، جعل هؤلاء يلتجئون إلى المناطق البعيدة وضمنها المغرب[21]، فأتاح لهم ذلك فرصة تاريخية مكنتهم من الالتقاء والتواصل مع أهالي المغرب.
من البدهي إذن أن تترتب عن هذه الصلات الاجتماعية عادات وتقاليد متشابهة تعكسها رمزية التعابير التي درج العمانيون على استعمالها في مراسلاتهم مع أهل المغرب مثل تعبير “إخواننا من أهل المغرب” أو “أصحابنا من أهل المغرب”[22]، وهي تعبيرات تترجم التشارك في العقلية والعادات.
وباستنادنا إلى كتب الرحلات التي تعد وثيقة مهمة في تتبع جذور العادات العُمانية المعاصرة، نجد أن ابن بطوطة الذي زار عُمان خلال القرن 8 هـ/ 14م قد فطن إلى هذا القاسم المشترك بين المجتمعين العُماني والمغربي في العادات والتقاليد. وأعتقد أن هذا الرحالة المغربي كان – وهو يرصد توجهات المجتمع العُماني أثناء رحلته – حريصاً كل الحرص على استنباط أوجه الشبه بين العادات المغربية والعمانية. وهذا الحرص في حد ذاته ينهض قرينة على أن ظاهرة التشابه هذه أصبحت مثيرة للانتباه. ففي كل مناسبة كان الرحالة المغربي يشم فيها ما يربط المغرب بُعمان، نجده ينبه إليها ويؤكد عليها، وكأنه باحث سوسيولوجي متمرس أنيطت به مهمة القيام بدراسة مقارنة للعادات السائدة في المجتمعين المذكورين. وقد وصل بحرصه ودأبه على تتبع الجزئيات والتفاصيل المبنية على المشاهدة العيانية ودقة الملاحظة إلى خلاصة أوجزها في جملة واحدة ولكنها معبرة عن التشابه بين العُمانيين والمغاربة في مجال العادات والتقاليد، وتتجلى في قوله عن أهل ظفار:
“وهم أشبه الناس بأهل المغرب في شؤونهم”[23]، وهو نص غني عن كل بيان ويعكس مدى قدرة الإنسان على تجاوز مشكلة بعد المسافات، ذلك أن وجود بلدين أحدهما في أقصى المحيط وآخر في أقصى الخليج لم يحل دون إفراز عادات وتقاليد مشتركة. ومن قراءة نصوص الرحلة تبرز معالم هذه العادات العُمانية – المغربية المشتركة والتي وقف ابن بطوطة على خطوطها العريضة حسب ما يلي:
– تشابه طريقة تزيين البيوتات أو ما يمكن أن نعبر عنه “بديكور” المنازل، إذ سجل الرحالة المغربي أن المغاربة والعُمانيين اعتادوا وضع سجادات على جدران غرفهم لاستعمالها لأداء الصلاة، وفي ذات الوقت جعلوها مظهراً من مظاهر الزينة وتجميل البيوت[24]، ومعلوم أن “الديكور” في الحواضر الإسلامية ارتبط دائماً بالشعارات الدينية، ولا تزال عادة وضع السجادات والزرابي على الحائط موجودة إلى اليوم في بعض البيوتات المغربية والعُمانية على السواء.
– وفي المنحى نفسه يأتي كذلك تزيين جدران المنازل أو المساجد بالقاشاني العُماني الذي أكد ابن بطوطة أنه يشبه تماماً الزليج المغربي[25]. ويعكس هذا التشابه وحدة الرؤية الفنية لدى المغاربة والعُمانيين. ولا تزال صناعة الزليج من أهم الصناعات التقليدية بالمغرب حتى الوقت الراهن، إذ يتم استعماله في تزيين المنازل[26]، وتتنافس العائلات الثرية عادة في استعماله بكثافة في المنازل الفخمة حالياً.
– التشابه في الأطعمة: وهي ظاهرة أُخرى لاحظ ابن بطوطة أنها تشكل قاسماً مشتركاً بين البلدين، فذكر منها على الخصوص الذرة والأسماك، خاصة سمك السردين والسمك المعروف في عُمان باللخم، وهو شبيه بالسمك المسمى في المغرب بحصى اللبان[27].
وقد يكون للجغرافيا دور في هذا التشابه إذ أن كل من عُمان والمغرب يتميزان بسواحل بحرية طويلة مما يجعل السكان يعتمدون على صيد الأسماك. والمغرب معروف بوفرة سمك السردين على طول سواحله الأطلسية والمتوسطية، كما تتميز عمان بسواحلها الممتدة عبر الخليج وبوفرة أنواع الأسماك بها حتى صار يضرب المثل بها في كثرية السمك[28]، لذلك فإن وجبة السمك تعد من الوجبات المفضلة حتى اليوم لدى المجتمعين العُماني والمغربي.
– التشابه في أسماء الجواري والخدم حيث نقف من خلال كلام ابن بطوطة، وكأن المجتمعين العماني والمغربي قد اتفقا – بطريقة عفوية – على تلقيب الخدم بأسماء مشتركة، وهذه ظاهرة لاحظها الرحالة المغربي حينما نزل بظفار بمنزل خطيب مسجدها الأعظم وهو عيسى بن علي فذكر عنه أنه “كان له جوار مسميات بأسماء خدام المغرب إحداهن اسمها بخيتة والأخرى زاد المال”[29].
– التشابه في الكلام الدال على تنبيه المخاطب: وهو ما أشار إليها ابن بطوطة عند حديثه عن لهجة أهالي قلهات، مؤكداً أنهم يصلون آخر كلامهم بمصطلح ((لا)) [30]. ورغم أنه عد ذلك مظهراً من عدم فصاحتهم، فالحقيقة أن لفظ ((لا)) في عقب الكلام هو إشارة للتنبيه والإصرار على الفعل من جانب المخاطب (بالكسر) تجاه المخاطب (بالفتح)، وهي الصيغة المستعملة نفسها في الدارجة المغربية التي يتوخى منها الشخص تنبيه المستمع إلهي والتأكيد عليه، وتلك قرينة أخرى على التشابه في العادات بين الشعبين، والتفاعل الاجتماعي الذي حدث بينهما على مر العصور.
– بيد أن أهم وجوه الشبه التي استنبطها ابن بطوطة تتجسد في الأصل العرقي المشترك بين العُمانيين والمغاربة، إذ لاحظ – بدقة العالم الأنتروبولوجي – أن تشابه العادات بين المغاربة والعُمانيين تؤيد النظرية الافتراضية القائلة إن سكان المغرب البربر يرجعون في أصولهم العرقية إلى قبائل حمير اليمنية التي ينتمي إليها أزد عُمان أيضاً[31].
ولعل أهمية هذا الاستنتاج الذي وصل إليه ابن بطوطة يؤكد الوحدة الجنسية للشعبين، ويدحض الافتراءات والمزاعم الباطلة التي روجت لها المدرة الأوروبية حول الأصل السالتي للبربر المغاربة، ونفي أي حس وطني أو وحدة عرقية لديهم، ساعية بذلك إلى طمس الهوية العربية للمغرب وإضفاء المشروعية الحضارية على توجهاتها الاستعمارية[32]. انطلاقاً من هذه الوحدة الجنسية، تأتي مشروعية التساؤل الذي طرحه أحد الباحثين[33] عن مغزى الشبه بين قبيلة “بالشحوح” الضاربة في شمال عُمان، وقبيلة “الشلوح”، وهم سكان الأطلس المتوسط بالمغرب، إذ للطائفتين معاً ميزات مشتركة، وإن كان هذا الاجتهاد في حاجة إلى دراسة سوسيولوجية وتاريخية متعمقة للبرهنة عليه بدقة أكثر.
والراجح أن الظروف التي مر بها ابن بطوطة في عُمان لم تسمح له باستقصاء عادات أُخرى تدخل في عداد القواسم المشتركة بين العُمانيين والمغاربة، ذلك أن إقامته القصيرة فيها لم تمهله الوقت الكافي للوقوف على الشاذة والفاذة، وربما يكون قد اختصر ما لاحظه من أوجه التشابه، شفعينا في هذا الافتراض قوله إن أهل ظفار “أشبه الناس بأهل المغرب في شؤونهم”. ولعل مصطلح “شؤونهم” تجعل الباحث يستنتج أن هذا المعنى الذي جاء في صيغة الجمع يشمل كل أُمور الحياة، من بينها ما ذكره بالواضح، ومنها ما سكت عنه على أنه أمر مألوف بالنسبة لمجتمعين عربيين إسلاميين.
قصارى القول إن المجتمعين العماني والمغربي يشتركان في مجموعة من العادات والتقاليد على المستوى الاجتماعي، وعلى مستوى العلاقات، وهي ظاهرة حاولنا في هذه الدراسة تفسيرها انطلاقاً من مقاربة تاريخية تستند إلى معطيات التواصل الاقتصادي والثقافي والاجتماعي التي شكلت الإطار التاريخي لميلاد تلك العادات، واستمرت ثابتة في المجتمعين إلى مشارف العصور الحديثة.
الهوامش:
[1] منشورات وإشارة التراث القومي والثقافة، مسقط، 1991م.
[2] عبد الهادي التازي: الصلات التاريخية بين المغرب وعُمان، مسقط، 1983، منشورات وزارة التراث القومي والثقافة: ص18.
[3] تعرف باسم “الدشداشة” في عُمان.
[4] محمد بن سليمان أيوب: صفحات مطوية من تأثير الحضارة العُمانية في المغرب، حصاد ندوة الدراسات العُمانية، مسقط، نوفمبر، 1980م، المجلد 4: ص54.
[5] لاحظت من خلال معايشتي للإخوة العُمانيين أن لهجة أهل ظفار- خاصة أهل صلالة- أقرب فهماً واستيعاباً للمغاربة وأكثر قرباً من اللهجة المغربية الدارجة.
[6] أتاح لنا التلفزيون العُماني فرصة مشاهدة فلكلور الرقص العُماني، ومن مقارنة الحركات والإيقاعات توصلنا إلى هذا الاستنتاج.
[7] محمد بن سليمان أيوب: م، س: ص54.
[8] لاحظنا ذلك من خلال القيام بجرد للأسماء القبلية للطلبة العُمانيين الذين تشرفنا بتدريسهم في جامعة السلطان قابوس، فتبين بوضوح تماثل أسمائهم مع أسماء العائلات المغربية.
[9] عبد الهادي التازي: م، س: ص21.
[10] الضبي: بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، تحقيق إبراهيم الإبياري، طبعة القاهرة- بيروت، 1989، دار الكتاب المصري- دار الكتاب اللبناني.
[11] عُمان عبر التاريخ، مسقط، 1986، (ط2)، ج1: ص67.
[12] توجد هذه المنطقة بمدينة مكناس في القسم الذي يعرف بالمدينة العصرية.
[13] المقتضب من تحفة القادم، طبعة القاهرة ولبنان، 1302هـ/ 1982م، ج1: ص160.
[14] انظر التفاصيل في كتابنا: التواصل الحضاري بين عُمان وبلاد المغرب: دراسات في مجالات الثقافة والتجارة والمجتمع، مسقط 2000، منشورات جامعة السلطان قابوس: ص12- 42.
[15] رجب محمد عبد الحليم: الإباضية في مصر وعلاقتهم بإباضية عُمان والبصرة، مسقط: ص216.
[16] محمد سليمان أيوب: صفحات مطوية من تأثيرات الحضارة العُمانية في المغرب، بحث نشر ضمن أعمال ندوة حصاد الدراسة العُمانية، مسقط، نوفمبر 1980، مجلد 4: ص45.
[17] نفسه: ص50.
[18] فتوح مصر وأخبارها، ليدن 1920: ص183- 184.
[19] محمد سليمان أيوب: م، س: ص50.
[20] انظر التفاصيل عند: إبراهيم القادري بوتشيش، التواصل الحضاري بين عُمان وبلاد المغرب: ص20 وما بعدها.
[21] محمد سليمان أيوب: م، س: ص50.
[22] انظر: أبو جابر، محمد بن جعفر الأزكوي، كتاب الجامع، تحقيق: جبر محمود الفضيلات، مسقط، 1994، ج4: ص261.
[23] تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق: محمد علي المنتصر، منشورات مؤسسة الرسالة (دون ذكر تاريخ أو مكان الطبع): ج1، ص287.
[24] المصدر نفسه والصفحة نفسها.
[25] نفسه: ص296.
[26] عبد الهادي التازي: الصلات التاريخية بين المغرب وعُمان. بحث نشر ضمن أعمال ندوة حصاد الدراسات العُمانية، مسقط، نوفمبر 1980: مجلد 3، ص217.
[27] نفسه، ص215.
[28] يقول الأصمعي: ريف الجزيرة وما يليها لأنها تعدل في الخصب بلاد عربايا وفي التمر البصرة وفي السمك عُمان. انظر: ابن الفقيه، مختصر كتاب البلدان، طبعة بريل، ليدن، 1967: ص135.
[29] ابن بطوطة: م، س: ص287.
[30] نفسه: ص296.
[31] نفسه: ص287.
[32] CAMPS: L’origine des berberes, Paris 1981, P. 16- 17- 19.
[33] عبد الهادي التازي: الصلات التاريخية، م. س: ص20.
* بحث في المؤتمر العلمي الثالث بعنوان التحولات في المجتمع العماني الحديث عمان: 2005