رصيف 22ـ محمدو ولد أبوه
أُطلق على موريتانيا لقب “بلاد المليون شاعر” لأول مرة في تحقيق صحفي أجرته مجلة “العربي” الكويتية في إبريل عام 1967. ويعتبر مصدر هذا العنوان الذي لقي زخماً إعلامياً كبيراً، اندهاش زوار البلاد بفصاحة الموريتانيين وتضلعهم من اللغة العربية، وخبرتهم بالشعر نظماً وإنشاداً. وقد أثار هذا الأمر اهتمام العديد من الباحثين وعزّز دور “العلماء الشناقطة” الذين هاجروا إلى المشرق خلال القرون الماضية.
لقب “بلاد المليون شاعر” يحمل مبالغة كبيرة، لا بل أنّه بات يسبّب بعض الحرج لكبار أدباء البلاد الذين يرون أن هذا الاسم يحمّل البلاد أكثر مما تحتمل. مع ذلك، ما زال عشرات الباحثين والمحدثين من حين لآخر، يطرقون باب أسباب ولع الموريتانيين بالشعر وخلفيات هذه الظاهرة التي تصل حد تقديس الشعر واعتباره “الركن السادس” من أركان حياة المجتمع الموريتاني المتدين.
يعتبر الشعر الفن الأول بين الموريتانيين وأغلب سكان البلاد من متذوقي الشعر وناظميه. لم يتجلَ ذلك في الناحية الفنية والإبداعية فقط، بل إن الشعر كان الوعاء الذي سهّل للموريتانيين الأوائل حفظ العلوم الشرعية والسيرة النبوية، وتاريخ العرب وأنسابهم. أغلب “محاظر البلاد” (الجامعات العلمية البدوية) التي تخرّج منها أشهر علماء شنقيط (منطقة في موريتانيا) تمكنّت من إرساء منهج تعليمي خاص يقوم جانب أساسي منه على دراسة العلوم الشرعية واللغوية عبر الشعر، وبرع في ذلك مئات العلماء من أمثال علامة الشيخ لمرابط محمذن ولد متالي (1800)، ومحنض باب الديماني (1771).
في ظل هذا المنهج (منهج الأنظام) الذي ما زال قائماً في أكثر من 8 آلاف “محظرة” في البلاد، تصدّر الاهتمام باللغة العربية نحواً وصرفاً الذائقة المنهجية التعليمة في موريتانية. بلغ اهتمام أحد أكبر علماء البلاد، العلامة ولد متالي، بعلوم اللغة حدّ إصداره فتوى في أهمية منحها الأولوية على عبادة الله سبحانه وتعالى، فقال: “تعلم اللغة شرعاً فضل/ عن التخلي لعبادة الجلي/ يؤخذ ذا من قوله وعلما/ آدم الأسماء الزم التعلما”. هذه الفتوى لم تجد من يعارضها، بل عززها العديد من العلماء كالعلامة محمد سالم ولد عدود (2007)، الذي كان يوصف بأنه “مكتبة تسير على قدميها” والذي أكّد مرات عدة أن معرفة أسرار الفصحى جزء من الدين الإسلامي الذي لا سبيل إلى فهمه من دونها.
جاءت هذه الفتوى لترسّخ قاعدة قائمة لدى الموريتانيين وهي الانشغال بدراسة وتدريس علوم اللغة التي أصبح التبحر فيها من شروط الفتوّة، ويدخل ضمن صيانة العرض والكرامة في مجتمع النخوة البدوي.
في حديث مع “رصيف22″، يقول الباحث الاجتماعي محمد محمود ولد سيدي حي، وهو الأمين العام لوزارة الشؤون الاجتماعية في الحكومة الحالية، إن “اهتمام المجتمع الموريتاني بالشعر فرضته الطبيعة الشفاهية للمجتمع البدوي القديم الذي كان الشعر وسيلته لحفظ المتون والعلوم والفتوى، نظراً لانعدام وسائل التوثيق الأخرى في ذلك الزمن”.
في حين رأى الشاعر حسني ولد شاش أن هجرة العرب الموريتانيين من شبه الجزيرة العربية منذ مئات القرون فرضت عليهم التمسك بالهوية العربية. كان الشعر بطاقة تعريف “البيضان” (العرب الموريتانيين)، ووثيقة تؤكد هويتهم من حيث النسب والثقافة. “أجاد الموريتانيون الانتماء شعراً إلى أمتهم، كما لم يفعل أي من عرب الأطراف” يقول ولد شاش، مذكراً بأن الشعر الشنقيطي عرف قمة إبداعه في الفترة التي وصمت بعصر الانحطاط في المشرق العربي.
لم ينس ولد شاش الإشارة إلى مسلكيات اجتماعية لاتزال متّبعة وهي ما عزّز دور اللغة العربية وبالتالي الشعر. فلا يتحدث كبار السن من نساء ورجال بغير الفصحى، وهذا ما ساهم في تفصيح أجيال من الموريتانيين.
هوس بالشعر بدون حدود:
إذا كان بعض علماء البلاد فضّلوا تعلم اللغة شرعاً على التفرغ لعبادة الله، فإن بعض قبائل البلاد تعتبر أن نظم الشعر فريضة اجتماعية على كل فرد من أبنائها. فعلى سبيل المثال، يندر اليوم أن تجد فرداً واحداً من قبيلة “الحسنيين” لا يجيد نظم الشعر أو يعرف أوزانه ويحفظ أمهات القصائد. وتنتشر معرفة الشعر بكثرة في قبائل العلويين، وأولاد ديمان، والعقوبيين، وغيرهم.
رافق الشعر المحطات الكبرى في حياة الأمة الموريتانية، لا سيما في المجتمع البدوي القديم الذي شكّل الشعر لديه خط دفاع متقدم في معارك القبائل. وتاريخياً، ابتكرت المرأة الموريتانية لوناً شعرياً خاصاً بها عُرف باسم “التبراع”، وهو ومضة شعرية ذات بعد دلالي هائل.
أما خلال العصر الحديث، فمن المعروف أن الشعر تصدّر المقاومة الثقافية ضد الاحتلال الفرنسي. وكان الفرنسيون قد وضعوا عيوناً خاصة لرصد الإنتاج الشعري المقاوم، وقاموا بسجن الشعراء الذين سخروا في قصائدهم من قتلى الاحتلال على يد المقاومين.
أما أولى حكومات الاستقلال (1960)، برئاسة الرئيس الراحل المختار ولد داداه، فكانت تضمّ العديد من الشعراء. وكان ولد داداه يبدأ الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء بمناقشة آخر القصائد التي قالها الشعراء الموريتانيون فيما يحكي كل وزير عما سمع من جديد الشعر، ويتم التركيز على القصائد التي تهجو الرئيس والحكومة، وخاصة ما أنتجه شعراء حركة “النهضة” التي كانت أخطر الحركات المناوئة للنظام وقتذاك. يروي الشاعر الكبير ناجي محمد الإمام، الملقب بـ”متنبي موريتانيا”، أن اثنين من وزراء ولد داداه كانا مناوئين لنظامه، وكان كل منهما يقرأ قصائد الآخر في مجلس الوزراء دون أن يسمي القائل. وكان الرئيس داداه يتغاضى عن ذلك.
رياض أطفال خاصة بالشعر:
وهناك ظاهرة أهملها جميع الباحثين عن أسباب الأهمية التي يحظى بها الشعر في موريتانيا، وهي ما يمكن أن نطلق عليه مجازاً “رياض أطفال خاصة بالشعر”. لفتت هذه الظاهرة انتباهنا ونحن في ضيافة حي بدوي في أعماق الريف الموريتاني. فعلى “أزويرت السكر”، في مقاطعة “كرسمين” جنوب غربي البلاد، يقوم معلمو أطفال البدو الرحل بالتهجئة للأطفال عبر قصائد الشعر، فيتعلم الطفل حروف الأبجدية عبر حفظه قصائد منتقاة، وغالباً ما تكون قصائد من عيون المديح النبوي كالبردة والهمزية.
وما إن يتعلم الطفل حروف التهجئة حتى يكون قد حفظ قصائد غنية معنى ولغة، وهو ما يساهم بشكل رئيسي في تهيئة ذوقه الشعري ويجعله يتدرب على الموسيقى الشعرية، والصور البلاغية بدون أن يدري.
يبدأ الطفل الموريتاني في هذه الأحياء المرتحلة علاقته بالشعر وهو في سن مبكرة. ولا غرابة إذا وجدت طفلاً في الخامسة من عمره يحفظ قصيدة طويلة مثل “الميمية” لابن قيّم الجوزية. ليس الطفل محمد المامي (5 سنوات) الوحيد الذي يتعلم التهجئة بهذه الطريقة الفريدة، وإن كان أداؤه في الفيديو التالي دون مستواه الاعتيادي، وذلك بسبب حرجه من آلة التصوير.
كان هذا الأسلوب في التهجئة للأطفال الذي بدأ يتراجع بشكل كبير، لا بل ندر اليوم وجوده، منتشراً بين قبائل العلم والشعر، ويرجح أنه ساهم في تحضير الذائقة الشعرية لأجيال من الأطفال الموريتانيين عبر القرون.
عندما نسأل المدرسة “متو” (60 عاماً) عن سبب اختيار قصائد الشعر للتهجئة للأطفال، تقول إن هذه هي الطريقة المتعارف عليها في قبيلتها، وسببها الحرص على أن يتعلم الأطفال نطق كلمات الفصحى بشكل سليم قبل أن يبدأوا بحفظ القرآن الكريم.
https://www.youtube.com/watch?v=XIwApjxi9ls