بقلم: عبد الله محمدي*
أنهى العاهل المغربي الملك محمد السادس جولة أفريقية جديدة قادته إلى أربع محطات في غرب ووسط أفريقيا، قضى خلالها أكثر من ثلاثة أسابيع وهو يلتقي قادة الرأي ورجال السياسة والدين والاقتصاد، يدشن ويضع أسسا لمشاريع في أربع بلدان في القارة السمراء هي السنغال وغينيا بيساو ثم كوت ديفوار والغابون.
انتقل ملك المغرب من داكار واجهة السياسة والأعمال في غرب أفريقيا، وأكثر مدن شبه المنطقة نمواً اقتصادياً؛ إلى غينيا بيساو التي قضى فيها ليلتين في زيارة شكلت تحديا للدولة الصغيرة التي كان رؤساء الدول إذا زاروها يكتفون بلقاء الرئيس في المطار لبضع ساعات ثم يعودون من حيث أتوا، فلا أحد من هؤلاء الرؤساء يرغب في قضاء أمسية واحدة في مدينة بيساو التي تفتقر لأبسط صفات العاصمة.
لم يجد الغينيون ما يصفون به الملك أكثر دلالة من كونه الرجل الذي جعل الثقة في بلادهم ممكنة، وهي الخارجة من سنوات من الانقلابات والتخلص من الرؤساء ببساطة عند بوابة القصر. ورغم الإصلاحات السياسية التي شهدتها بلادهم اخيرا إلا أن العالم ظل يفرض عليهم عزلة غير منصفة، حتى لاحت لهم بقعة ضوء في آخر النفق مع زيارة العاهل المغربي لبلادهم.
أشهر المغرب سلاحه الفعّال: الدين والاقتصاد اللذين جعل منهما أسس سياسته الأفريقية، وقِوام إستراتيجيته للتعاون جنوب-جنوب الطامح إلى خلق شراكات رابحة تخرج بالقارة السمراء من نمطية التبعية والتهميش إلى روح المبادرة والسيادة الاقتصادية.
الأسس التي وضعها الملك محمد السادس لهذه الإستراتيجية أقنعت الأفارقة بقدراتهم الكامنة، فالخطاب الذي ألقاه في ابيدجان عام 2014 كان الحد الفاصل بين زمن ظلت فيه أفريقيا تنتظر ما يقدمه لها الآخرون، ومستقبل تختار فيه بنفسها الطريق الذي ستسلكه نحو النهوض، عبر نموذج مبتكر وأصيل للتنمية.
أنهى ذلك الخطاب عهد النماذج والتصورات التي كانت تأتي، منذ ستينات القرن الماضي من خارج القارة، لتعيد إنتاج مفاهيم تنموية ماضوية ظلت عاجزة عن مسايرة تطور ونمو القارة، وقدّم الخطاب نموذجاً تنموياً يدعو القارة إلى التخلص من رواسب الماضي، واستعادة ثقتها في إمكاناتها ومواردها، وفي ما تزخر به من كفاءات بشرية متوثبة.
أفريقيا لم تعد قارة مستعمرة، هي العبارة التي استخدمها الملك محمد السادس وهو يتحدث أمام مئات رجال الأعمال والمستثمرين وصناع القرار، قبل أن يؤكد أن أفريقيا أصبحت قارة حية، ليست في حاجة لمساعدات إنسانية، بقدر حاجتها لشراكات ذات نفع متبادل ولمشاريع التنمية البشرية والاجتماعية؛ مشيراً إلى أن القرن الجديد يجب أن يكون قرن انتصار الشعوب على آفات التخلف والفقر والإقصاء والإرهاب، وكل ما يقف أمام تحقيق التنمية
يستند النموذج التنموي المغربي على تاريخ طويل من الروابط المتينة مع بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، فالتجار المغاربة عندما دخلوا هذه الأرض كانت بضاعتهم أكثر من مجرد سلع تباع وتشترى، فحملوا على أكتافهم الإسلام إلى هذه البقاع؛ وكانوا خير سفير لقيمه السمحة وتعاليمه العادلة، ونجحوا في كسب قلوب السكان المحليين قبل أن يكسبوا ولاءهم الذي تحول إلى تقدير كبير وامتنان لا محدود لسلاطين المغرب.
تعززت هذه الروابط مع ظهور الطرق الصوفية، ووصولها إلى قلب القارة الأفريقية قادمة من مدينة فاس، العاصمة الروحية للمغرب، فأصبح المغرب قبلة لملايين الأفارقة الباحثين عن دروس التربية وتهذيب النفوس، والمتعطشين لاستنشاق عبق تاريخ طويل من الحضارة الإسلامية، فكان حلم كل أفريقي يدخل مدينة عتيقة بالمغرب أن ينقل جزء من هذه المدينة إلى بلاده، فلا أحد يتفاجأ إذا صادف جزء من (فاس) في دكار، أو هبت عليه رائحة (مكناس) في باماكو، أو عانق بصره شيء من ألوان (مراكش) في ليبروفيل ؛ إنه المغرب الآخر الذي آمن به الأفارقة.
الطمأنينة التي ورثها الأفارقة من التصوف القادم إليهم من المغرب، اهتزت في السنوات الأخيرة بسبب التطرف والإرهاب الذي تغلغل في بعض المجتمعات بسبب الفقر والجهل، فكان لا بد من دواء ناجع لهذا المرض، وهو ما وجده الأفارقة في الانفتاح على النموذج المغربي في تدبير الشأن الديني الذي حقق نجاحا كبيراً في ترسيخ وسطية الإسلام ومعالجة آفة التطرف الديني.
وفي إطار سياساته المنفتحة على القارة الأفريقية وإيمانه بأن الخبرات ليست للاحتكار، افتتح المغرب قبل اشهر معهد محمد السادس لتكوين الأئمة ليصبح قبلة للأفارقة وحتى العرب، ففي ساحته تجد الشاب المالي الذي يطمح إلى زرع المحبة في قلوب أبناء وطنه المشتت، والإيفواري الحالم بتعريف أبناء وطنه بسماحة الدين الإسلامي، والغيني الذي يحلم أن يكون خطيباً مفوهاً قادراً على أن يقارع بالحجة أباطرة الفكر الأصولي المتغلغلين في مجتمعه.
لقد شكل المعهد الجديد امتداداً للدور المغربي في نشر إسلام وسطي، وهو الإسلام الذي طالما شكل المغرب مركز إشعاعه، منذ أن بدأت الدروس الرمضانية التي تعد ملتقى للنخب وقادة المسلمين في أفريقيا، وفرصة سنوية لنقاش هموم المسلمين ومشاغلهم، واستحضار النماذج المضيئة في التاريخ الإسلامي.
ان البعد الأفريقي للمغرب والاستفادة منه شكل ايضا موضع اتفاق شامل بين المغاربة بمختلف أطيافهم بسبب الانعكاس الملموس للسياسة الأفريقية للمغرب على اقتصاده، حيث فتحت جولات الملك لرجال الأعمال المغاربة ومن ورائهم كبرى مفاصل الاقتصاد المغربي، أبوابا للحصول على نصيب وافر من السوق التي تتصارع دول الغرب والشرق للظفر بنصيب منها.
في هذه الأجواء المفعمة بالنجاح في السياسة والاقتصاد والأمن الروحي، وبينما كان محمد السادس في واجهة الإعلام الأفريقي كمشجع وحافز على التغيير والإنماء في اجزاء من القارة، انتقل الإعلام الفرنسي بثقله إلى الرباط ليملأ الفضاء بقصة الفتيات عاريات الصدور اللواتي ظهرن فجأة في واحد من أكثر الأماكن قدسية وتقديرا لدى المغاربة، صومعة حسان حيث يرقد على بضع خطوات الملكان الراحلان الحسن الثاني ووالده محمد الخامس.
هل كان لظهور فتيات الفيمن علاقة بالسياسة والاقتصاد؟!!
من دون النزوع إلى نظرية المؤامرة العزيزة على قلوب العرب، نكتشف أن الإعلام الفرنسي لم يكف عن ان يخرج من أضابيره قضية كلما حل الملك بأفريقيا.
احتاج هذا الإعلام لما يعكر صفو جولة انتزعت من المستعمر السابق دورا حساسا وحاسما، هو بناء الثقة مع شريك جديد يعلن سلفا نظرية جديدة مفادها أنه يعني المرابحة بدل الإلغاء.
في أبيدجان التي توصف بأنها باريس أفريقيا، انتزعت الشركات المغربية واحدا من أكثر المشاريع جاذبية، هو مشروع حماية وتثمين خليج كوكودي، ذلك الشريط المائي الآسن الذي يقسم عاصمة ساحل العاج الى نصفين، الذي ستحوله الأيادي المغربية إلى واجهة بحرية جميلة ستشكل متنفسا ومركزا للسياحة والأعمال.
تعددت مشاريع كهذه في السنغال وغينيا بيساو والغابون، ووجد الاقتصاد المغربي أن أفريقيا هي امتداده الطبيعي، فيما احتضنت البلدان الأفريقية المستثمرين المغاربة ووجدت فيهم ألفة لم تعرفها طيلة عقود من التعامل مع شركات قادمة من وراء المحيطات والبحار ظلت بالنسبة لهم مجرد أجسام غريبة.
*كاتب صحفي/”مجلة الخليج”