موقع “دار العلوم ديوبند” بقلم : أ. د/ محمد بلاسي
أكاديمي – خبير دولي، عضو اتحاد الكتَّاب
المعلّقات : مصطلح أدبي يطلق على مجموعة من القصائد المختارة لأشهر شعراء الجاهلية ، تمتاز بطول نفَسها الشعريّ ، وجزالة ألفاظها ، وثراء معانيها ، وتنوع فنونها ، وشخصيّة ناظمها.
وقد أطلق الرواة والباحثون على هذه المجموعة من قصائد الشعر الجاهلي أسماء أخرى، إلا أنها أقل ذيوعاً وجرياناً على الألسنة من لفظ المعلقات ، ومن هذه التسميات :
1- السبع الطوال : وهي وصف لتلك القصائد بأظهر صفاتها ، وهو الطول .
2- السُّموط : تشبيهاً لها بالقلائد والعقود التي تعلّقها المرأة على جيدها للزينة .
3- المذهّبات : لكتابتها بالذهب أو بمائه(1).
فقد ذكر القدماء أنه قد بلغ من كلف العرب بالشعر وتفضيلها له “أنْ عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم ، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة ، وعلقتها في أستار الكعبة” فمنه يقال : مذهبة امرئ القيس ، ومذهبة زهير … وقد يقال لها المعلقات ” . على حدّ تعبير ابن عبد ربه في العقد الفريد(2).
وأضاف البغدادي : “ذكر ذلك غير واحد من العلماء . وقيل : بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول : علقوا لنا هذه ؛ لتكون في خزانته”(3).
4- القصائد السبع المشهورات : علّل النحّاس ( ت 338هـ ) هذه التسمية بقوله : لما رأى حماد الراوية زهدَ الناس في حفظ الشعر ، جمع هذه السبع وحضَّهم عليها ، وقال لهم : هذه المشهورات ؛ فسميت القصائد السبع المشهورات لهذا .
5- السبع الطوال الجاهليات : أطلق ابن الأنباري ( ت 328هـ ) هذا الاسم على شرحه لهذه القصائد .
6- القصائد السبع أو القصائد العشر : الاسم الأول هو عنوان شرح الزوزني ( ت 486هـ ) . أما التبريزي ( ت 502هـ ) ، فقد عنون شرحه لهذه القصائد بـ : ( شرح القصائد العشر)(4).
هذا ؛ وعن التسمية بالمعلقات : فلعلها لم ترد لأول مرّة إلا في ( جمهرة أشعار العرب : لأبي زيد القرشي) ( حوالي منتصف القرن الثالث الهجري) ؛ حيث اختط القرشي لنفسه منهجاً في تصنيف القصائد المختارة ؛ فقد قسّمها إلى سبعة أقسام ، في كل قسم سبع قصائد . وقد جعل هذه الأقسام متدرجة مع طبقات الشعراء من الجاهلية إلى العصر الأموي ، فالقسم الأول يختص بالطبقة الأولى : وهي عنده أصحاب المعلقات ، وهم : امرؤ القيس ، وزهير ، والنابغة، والأعشى ، ولبيد ، وعمرو بن كلثوم ، وطرفة(5).
ثم وردت الإشارة إلى المعلقات بعد ذلك بحوالي قرن عندما حاول ابن عبد ربه (ت 328هـ) أنْ يقدّم شرحاً لهذه التسمية ؛ فذهب إلى أنّ العرب في الجاهلية قد عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها وكتبتها بماء الذهب وعلقتها في أستار الكعبة(6).
ومن ثم كانت هذه القصائد تسمى كذلك بـ”المذهبات”، إشارة إلى كتابتها بماء الذهب .
وذكر ابن رشيق في العمدة ، وهو ممن يوافق ابن عبد ربه في العقد الفريد في الرأي ؛ إذ يقول : “وكانت المعلقات تسمى “المذهبات”. وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر القديم، فكتبت في القباطي بماء الذهب ، وعلقت على الكعبة فلذلك يقال “مذهبة فلان” إذا كانت أجود من شعره . ذكر ذلك غير واحد من العلماء، وقيل كان الملك إذا استجيدت قصيدة لشاعر يقول : علقوا لنا هذه لتكون في خزانته”(7).
وذكر البغدادي في “خزانة الأدب” في معنى المعلقة ، قائلاً : “إنّ العرب كانت في الجاهلية يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض فلا يعبأ له ولا ينشده أحد حتى يأتي مكة في موسم الحج فيعرض على أندية قريش فإن استحسنوه روي وكان فخراً لقائله وعلق على ركن الكعبة حتى ينظر إليه”(8).
ولكن أبا جعفر بن النحاس (ت 338هـ) أنكر أنْ يكون سبب تسميتها بـ”المعلقات” أنها كانت معلقة بأستار الكعبة . وهو لذلك يسميها بـ”السبع الطوال” ويذكر أنّ حماد الراوية هو الذي جمعها(9).
أما المستشرق ( نولدكه ) فيقول في دائرة المعارف البريطانية : “إنّ قصة القول بأنّ هذه القصائد كتبت بماء الذهب ترجع إلى تسميتها بـ”القصائد المذهبات” وهي تسمية مجازية للدلالة على عظم أمرها ، وكذلك يجب أنْ نؤَوّل تسميتها بالمعلقات إلى هذا الأساس نفسه ، فمن المحتمل جدّاً أنْ تعني هذه التسمية أنّ هذه القصائد قد سَمَتْ إلى درجة خاصة مجيدة وأنّ هناك اشتقاقاً آخر من المادة نفسها ، وهو كلمة “عِلْق” ومعناها الشيء النفيس”(10).
ويرى الأستاذ كليمان هوار : “أنّ المعلقات جمع معلقة بمعنى القلادة ؛ بدليل أنهم يسمونها أيضاً ( السموط ) بمعنى العقود والقلائد”(11).
هذا ؛ في الوقت الذي احتدم الخلاف فيه حول : حقيقة المعلقات السبع من عدمه ؟ و وصل الأمر إلى أنْ أطلق الدكتور شوقي ضيف صيحة تقول : “أمّا ما يقال من أنّ المعلقات كانت مكتوبة ومعلّقة في الكعبة فمن باب الأساطير ، وهو في الحقيقة ليس أكثر من تفسير فسّر به المتأخرون معنى كلمة “المعلقات” فقد جاء في “العقد الفريد” أنّه بلغ من شغف العرب بالشعر أن (عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة وعلقتها في أستار الكعبة؛ فمنه يقال: “مذهبة امرئ القيس” و”مذهبة زهير” و”المذهبات السبع” وقد يقال لها “المعلقات”). ولو أنهم تنبهوا إلى المعنى المراد بكلمة “المعلقات” ما لجأوا إلى هذا الخيال البعيد ، ومعناها : المقلَّدات والمسمّطات ، وكانوا يسمون فعلاً قصائدهم الطويلة الجيدة بهذين الاسمين وما يشبههما(12).
أقول : ولعل اعتراض بعض المحدثين على حقيقة المعلقات السبع ؛ يعود إلى أمرين :
الأول : أنّ العرب لم يكونوا في جاهليتهم أمة كاتبة تبلغ بها معرفتها بالكتابة أنْ تسجل شعرها وتكتبه .
والثاني أنّ الكعبة لها من الاحترام والقدسية ما لا يبيح أنْ تعلّق فيها المدوّنات والمكتوبات(13).
وانبرى لهؤلاء الدكتور ناصر الدين الأسد حين ردّ على هذين الاعتراضين ، قائلاً : إنّ الجاهلية العربية عرفت الكتابة معرفة قديمة واسعة، واستخدمتها في جل شؤونها ، وكتبت بعض شعرها وأخبارها وأنسابها ، ودوّنتها في صحف وكتب ودواوين . فالقول – إذن – بأمّيّة الجاهلية فرض واهم يجب أنْ نسقط جميع ما رُتِّبَ عليه من نتائج باطلة .
وأما الشق الثاني من اعتراض المحدثين فهو كذلك لا يثبت للنظر والتحقيق ؛ إذ أنّ عرب الجاهلية كانوا يعلقون وثائقهم وكتاباتهم ذات القيمة في الكعبة لقداستها في نفوسهم ؛ وذلك إظهار لعلوّ مكانة هذه الوثائق والكتابات ولبيان قيمتها وخطرها .
وأوضحُ مثال على أنّ تعليق هذه الكتابات كان أمراً مألوفاً متعارفاً عند عرب الجاهلية ما ذكره محمّد بن حبيب عن حلف خزاعة لعبد المطلب ، قال : “وكتبوا بينهم كتاباً ، كتبه لهم أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة … ثم علقوا الكتاب في الكعبة”(14).
ومثل ثان : هذه الصحيفة التي كتبتها قريش حينما اجتمعت على بني هاشم وبني عبد المطلب ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم(15).
وقد بقيت هذه الصحيفة في الكعبة دهراً ، فلما أخرجوها بعد ذلك وجدوا أنّ الأرضة لم تَدَعْ في الصحيفة إلا أسماء الله(16).
بعد هذا كله ؛ فإننا لا نملك – كما يقول الدكتور ناصر الدين الأسد – وسيلة قاطعة للإثبات أو النفي ، ولا يجب أنْ نعتسف الطريق ونقتحم كما يقتحم غيرنا . وكلّ ما نستطيع أنْ نقوله : إنّ الاعتراض الذي قدّمه القدماء كاعتراض ابن النحاس ، والذي قدمه المحدثون ، لا يثبت – في رأينا – للتحقيق والتمحيص ؛ فإذا ما استطعنا أنْ ننفي هذا الاعتراض بقي القول الأول بكتابة المعلقات وتعليقها – سواء في الكعبة أو خزانة الملك أو السيد – قولاً قائماً ، ترجيحاً لا يقيناً ، إلى أن يتاح له اعتراض جديد ينفيه ، أو سند جديد يؤيده ويثبته(17).
وعلى أية حال ؛ فالمعلقات هي من خير شعر العرب وأدله على لغتهم وبلاغتهم و وصف حياتهم الاجتماعية ومناحيهم في الحياة ، عُنِي العلماء بجمعها وشرحوها شروحاً مختلفة ، مختصرة ومطولة ، كما عُنِي كثير من المستشرقين بترجمة بعضها إلى لغاتهم والتعليق عليها(18).
***
الهوامش :
(1) الموسوعة العربية العالمية : 14/ 140 ، الطبعة الثانية –مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع بالرياض ، سنة 1419هـ.
(2) العقد الفريد : ابن عبد ربه ( ت 328هـ ) ، تحقيق محمد سعيد العريان ، 6/ 119 ، ط. الاستقامة ، سنة 1940م ، وانظر؛ مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية : د. ناصر الدين الأسد، ص 169 ، الطبعة السابعة – دار الجيل ببيروت ، سنة 1988م .
(3) خزانة الأدب : للبغدادي ( ت 1093هـ ) ، 1/ 123 ، 124 ، المطبعة السلفية ، سنة 1347هـ .
(4) الموسوعة العربية العالمية : 14/ 140 .
(5) المصادر الأدبية واللغوية : د. عز الدين إسماعيل ، ص 66، 82 ، ط. دار النهضة العربية ببيروت ، د.ت .
(6) المرجع السابق : ص 66 .
(7) العمدة في محاسن الشعر وآدابه : ابن رشيق القيرواني (ت 463هـ ) ، تحقيق محيي الدين عبد الحميد ، سنة 1934م.
(8) خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب : للبغدادي ( ت 1093هـ ) ، 1/ 124 وما بعدها ، ط. السلفية 1347هـ.
(9) المصادر الأدبية واللغوية ، مرجع سبق ذكره ص 66 . وانظر ما بعدها تجد مزيداً من التفصيل .
(10) شرح المعلقات العشر : للزوزني ، ص 18 ، ط. دار مكتبة الحياة ببيروت .
(11) المصدر السابق والصفحة .
(12) العصر الجاهلي : د. شوقي ضيف ، ص 140 ، الطبعة الثامنة ـ دار المعارف ، د.ت .
(13) مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية : ص 170 .
(14) المرجع السابق : ص 171 . نقلاً عن ديوان حسان بن ثابت ( مخطوط بمكتبة أحمد الثالث : ورقة 15- 16 ) .
(15) سيرة ابن هشام : تحقيق مصطفى السقا وآخرين ، ص/ 375 ، 367 ، ط. مصطفى البابي الحلبي ، سنة 1936م.
(16) المصدر السابق : 2/ 16 . وانظر ؛ مروج الذهب : 3/ 404 ، الطبعة الثانية 1948م .
(17) مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية : ص 170 .
(18) شرح المعلقات العشر : للزوزني ، ص 21 .