العربية، هي اللغة التي بها أكْتُب، وهي اللغة التي بها أُدَرِّسُ، وليست هي مصدر معرفتي الوحيد. ثمة ما أقرأه في لغاته الأصلية، وثمَّة ما أذهبُ إليه عبر الترجمة، حِرْصاً مِنِّي على معرفة الآخرين، وعلى الاقتراب منهم، والإفادة من معارفهم، بنوع من الحوار والمراجعة، والنقد، وليس بالأخْذ، والتَّبَعِيَّة، أو الطَّاعة العمياء. فمعرفةُ الآخر، هي معرفةٌ بالذات.
أدْرَكْتُ، مثل غيري، مِمَّن اعْتَنَوْا بِكُتُب التراث، وماضي الثقافات الإنسانية، أنَّ معرفة حاضر ثَقافةٍ، أو ُلغَةٍ ما، رهِينٌ بمعرفة ماضي هذه الثقافة، وهذه اللغة. لا لُغَةَ بدون تاريخ، وأعني تاريخ اللغة المعرفي، وتاريخها الجمالي. كما أنَّ لا لغةَ تبقى هي نفسها، لا تتغيَّر، ولا تتبدَّل، فكل اللُّغَاتِ تعرف انتقالاتٍ، وتنمو، وتكبُر، وتَنْتَعِش، أو تَسْتَضِيفُ، في تعبيراتها، وفي تراكيبها، مفردات، وتعابير، وتراكيب، من لُغاتٍ أخرى، ولا توجد لغة مُنْغَلِقَة على نفسها، مُكْتَفِيَة بذاتها، لأنَّ لغةً بهذا المعنى، هي لغة مَيِّتَة، لا حياة فيها.
حين نزل القرآن في شبه جزيرة العرب، لم ينزل بِلُغَةٍ عربية صافيةٍ، خَالِيَةٍ من التأثير الخارجي لِلُغاتِ الجِوار، بل إنه أدْخَلَ في خطابه، وفي تعبيراته، ما كان سائداً من ‘دَخِيلٍ’، مما كانت العرب تستعمله، في التداول العام، وفي لغة التَّخاطُب، بما في ذلك، ما كان من تنوُّع لَهَجِي، عند القبائل، سواء، في نُطْقِها للحُروف، والكلمات، أو في ما كانت تحتمله بعض العبارات، من معانٍ ودلالاتٍ. لم يأتِ القرآن بلغةٍ لا يعرفُها الناس، أو بلغة نزلَتْ عليهم من السماء، لو حَدَثَ هذا، لَبَقِيَ القرآن دون قارِيءٍ.
لسان العرب
فسياقات التواصُل، وشُروطُه، كما يعرفها المُتَعَلِّمُون اليوم، هي نفسها التي استجاب لها القرآن، لأنه توخَّى التواصل، لا القطيعةَ والانفصال، بدليل قوله في مطلع سورة يوسف ‘آلر تِلْكَ ءايَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ، إنَّا أنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ’، أي بلغة الإنسان العربي، وهي اللغة المُنتشرة، والسَّائدة، التي كان الناس يتداولُونها، في معاملاتهم التجارية، أو في أسواقهم، بما فيها سوق عكاظ، الذي كان فضاءً للمنافسة والتَّباري الشَّعْرِيَيْنِ، بين شعراء القبائل المختلفة.
وإذا كان أبوعبيدة معمر بن المُثنَّى التميمي [ت. 210 هـ]، في كتابه ‘مَجاز القرآن’، قال ‘إنَّما أُنْزِلَ القرآن بلسان عربي مبين، وتِصْدَاقُ ذلك في آيةٍ من القرآن، وفي آية أخرى: ‘وما أرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ بِلِسانِ قَوْمِه’[4.14]، فلم يَحْتَجِ السَّلَف ولا الذين أدْرَكُوا وَحْيَه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه لأنهم كانوا عَرَبَ الأَلْسُن، فاسْتَغْنَوْا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه، وعمَّا فيه مِمَّا في كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص.
وفي القرآن مثل ما في الكلام العربي من وجوه الإعراب، ومن الغريب، والمعاني ‘، فذلك ليُؤَكِّدَ أنَّ العربيةَ التي نزل بها القرآن، هي العربية نفسُها التي بها أَنْشَد الشُّعراء قَصائِدَهُم، وهي نفسها لغة الأمثال، ولغة الخُطَب، أو الخطابة، وهي ‘كلام العرب’، بدليل قوله، إذا اسْتَعْصَى عليكم شيء في القرآن فعودوا للشَّعر الجاهلي. وهذا يكشف طبيعة العلاقة اللغوية التي تجمع بين القرآن، وبين الشِّعر، وغيره مما ابْتَدَعَهُ العرب من تَعْبيراتٍ. ما يختلف فيه القرآن عن الشِّعر، وعن غيره من هذه لتعبيرات، هو الأسلوب. أو الطريقة التي بها صاغ تعبيراته، فلا هو شعر، ولا هو نثر، ما وضع قارئَه، آنذاك، في حَرَجٍ، هذا القاريء الذي كان ألِفَ لغة الشِّعر، ومجازاته، وما فيه من أوزان وإيقاعات، وحتى الطريقة التي كان يُلْقَى بها في الأسواق.
عربية اخرى
الاختلاف، هو اختلاف في الأسلوب، أو في ما كان سَمَّاه عبد القاهر الجرجاني في كتابه ‘دلائل الإعجاز′، بنظرية ‘النَّظْم’ التي هي نظرية تهتم بالتركيب، وليس باللفظة المفردة، في ذاتها. فالجملة في القرآن، كما يذهب إلى ذالك الجرجاني، يصعُب تفكيكُها، أو تعويض بعض عناصرِ بنائها، بغيرها مما يكون في معناها، لأن حدوث هذا، سَيُفْضِي إلى انهيار المعنى الثَّاوي في الجملة، أو في الآية. يقول الجرجاني، في معرض جوابه عمن افْتَرَض أنه يسأل عن مصدر هذا الإعجاز ‘وَبَهَرَهُم أنَّهُم تأمَّلُوه سورةً سورةً، وعُشْراً عُشْراً، وآيةً آيةً، فلم يَجِدُوا في الجميع كَلِمَةً يَنْبُو بها مَكَانُها، ولَفْظَة ينكر شانُها، أو يُرَى أنَّ غَيْرَها أصْلَح هناك أو أشْبَه، أو أحرى وأخْلَق، بل وجدوا اتِّساقاً بَهَر العُقول، وأعْجَزَ الجمهور، ونظاماً والْتِئاماً، وإتْقاناً وإحْكاماًô ‘. هذا البناء ‘المُحْكَم’، هو ما مَيَّز القرآن، عن غيره، وجعله كتاباً مُعْجِزاً، أي مُخْتَلِفاً عن غيره، في ما حَفَل به من كلام. فهو بهذا المعنى ليس عربيةً أخرى، غير العربية التي يعرفها الناس، بقدر ما هو إضافة، وتنويع، في قَلْبِ العربية نفسها، وخُروج بها عن المعروف والسَّائد، إلى ما هو جديد، مُدْهِش، وخَلاَّب. لهذا اتُّهِمَ النبي بالسَّحْر، واعْتُبِر الوحي سِحْراً. ولعلَّ في قول النبي، إنَّ من البيان لسحرا، ما يكشف ‘غواية’ اللغة، و’فِتْنَتَـ’ ها، أو كما قال الجاحظ، في مقدمة كتابه ‘البيان والتبيين’، ‘اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذ بك من فِتْنَة القَوْل’، مُدْرِكاً، غواية اللغة وفتنتَها، حين تكون مُحْكَمَةً، ومبنيةً بطريقة، أو بأسلوب جديد، هو إضافة، وتنويع، وليست تكراراً واستعادةً.
هذا ما يمنع اعتبار اللغة العربية، لغة القرآن، وَيُجَنِّبُنا تقديسها، كمقدمة لقتلها وتجميدها داخل قوالب ثابتة، لا تقبل الإضافة والإبداع، أو تحويلها إلى قُرْآنٍ في قَلْب القرآن. وهو ما كان فَعَلَه الهُنود القُدَامَى، باللغة السنسكريتية، وهي لغة الهند القديمة المُدَوَّنَة في كتب البراهمة، حين عَدُّوها مُقَدَّسَةً، وأخْرَجّوها من سياقها الدنيوي ـ البشري. فهذه اللغة، كما هو معروف، هي أصل اللغات الهند أوربية، أو ما سُمِّيَ باللغات الآرية، في مقابل اللغات السامية، وبينها العربية، وهي التَّسْمِيَة التي كان أطلقها المستشرق الألماني شلوتزر سنة 1781.
إذا كان الإسلام، في مُجْمَلِه، جاء ثورةً على الماضي، وعلى ما كان في ‘الجاهلية’ من تقاليد وعاداتٍ، وثار ضد اللغة نفسها، أو ضد طريقةٍ في استعمال اللغة، أؤ توظيفها، بالأحرى، فهو فتح بهذا العمل الثوري العظيم، أفقاً أمام المسلمين، وغير المسلمين، ممن قاوَمُوا الإسلام، ورفضوا الدُّخول فيه، ليبحثوا لنفسهم عن أساليب أخرى، وعن مجازات جديدة، تخرج بهم عن العام، الذي لا يكون سوى تقليدٍ وتكرار.
هذه هي العربية التي بها كَتَبَ الجاحظ، في ما بعد، وبها كَتَب أبوحيان التوحيدي، خصوصاً في عمله الاستثنائي ‘الإشارات الإلهية’، رغم أنّ أبا حيَّان اتُّهِم بالكُفْر والزندقة! وهي العربية التي كتب بها المعري، وأبو نواس، والمتنبي، وأبوتمام، وكتب بها ابن عربي كتابه الكبير ‘الفتوحات المكية’. ثمَّة كتبٌ كثيرة، في التراث العربي القديم، لا تزال حيَّةً، لا تحتاج سوى لِتَحْيِينِها، ووضعها رَهْنَ إشارة قُرَّاء العربية، في المدارس، كما في الجامعات، وهذا ما فعله الغرب نفسه مع سقراط، الذي اسْتعادَه تلميذه أفلاطون، ومع أفلاطون نفسه، وأرسطو، وغيرهم، ممن فتحوا أمام هذا الغرب طُرُق المعرفة، وأتاحوا له تطوير فكره، ومناهجه، وساهموا في تغيير العقل الغربي، الذي كانت هَيْمَنَتْ عليه الكنيسة، وساهمت في تَخَلُّفِه، وانغلاقه لِقُرونٍ، حين احْتَكَرَت تأويل النص الديني، وحَصَرَتْ معانيه، في ما يصدر عن الكنيسة، دون غيرها.
ادونيس والنثر العربي
أُعْجِبْتُ كثيراً بكتاب ‘ديوان النثر العربي’ للشاعر الصديق أدونيس، الذي هو مختارات من النثر العربي القديم، وهو كتاب من أربعة أجزاء، اسْتَغْرقَ أكثر من أَلْفَيْ صفحة، ويُغَطِّي مرحلة واسعة من النثر العربي، بما فيه أقوال وخُطَب الخلفاء، وما قبلهم. فحالما سَلَّمَنِي أدونيس هذا الكتاب، تركتُ كل شيء خلفي، وتفرَّغْت لقراءته، لأسْتَكْشِف كيف يقرأ الشاعر النثر، وما الزاوية التي منها يَنْظُر لكلامٍ هو غير الشِّعر. ما اختاره أدونيس، وهو قليل، قياساً بما بَقِيَ ثاوياً في الكُتُب القديمة، وأدونيس كان واعياً بهذا، وصرَّح به، في مقدمة الكتاب، فيه مُتْعَةٌ لا تُضَاهَى، وهو اكتشاف آخَر لِلُّغَة العَربيةِ، التي هي لغة حَيَّة، مليئة بالمُفاجآت، وفيها من الصور والمجازات، ما لا يمكن حَصْرُه، حتى في الكلام العادي، أو ما قد يبدو لنا أنه كلام عادي، ومألوف. فهذا الكتاب، هو جواب على كثير من الأسئلة المُتَشَكِّكَة في قيمة العربية، وفي التنوُّعات، والإضافات الكثيرة التي حَدَثَتْ فيها، فهي لغة، كما يمكن تَلَمُّس ذلك، في هذا الكتاب، وفي المصادر الأساسية، لمن يقرأها، أكبر من مُسْتَعْمِليها، وأوسع من رؤيتهم، التي ضاقتْ بهم لينظروا إليها بأنها عاجزة عن الخلق والإضافة، أو هي ‘كلام الله’ الذي لا يجوز للإنسان مَسُّهُ، وتَعْدِيلُه، جَهْلاً بما بين اللغة والأسلوب من فُرُوق.
مفردات فقدت صلاحياتها
ثمَّة في العربية ما لم يعد مُسْتَعْمَلاً من مفردات، وتعابير، بحكم سيرورة اللِّسان، وثمَّة في العربية ما صار ‘كلاسيكياً’، أي لغةً تاريخية، مثل لغة موليير وراسين في الفرنسية، التي باتت تحتاج لمعاجم خاصة لقراءتها، وفَهْمِها، مثل معجم LITTRE ، وحتى سياقاتُها الجمالية، لم تعد هي نفس السياقات التي تُسْتَعَمَل اليوم، نظراً لطبيعة التطوُّر، و’سُنَّة الحياة’ التي تفرض هذا النوع من الانتقال والسيرورة، وما يظهر من تعبيراتٍ، ومفاهيم، لم تكن معروفةً من قبل.
من يُواكِب التاريخ الجمالي لِلُّغَة العربية، ويقرأها في سيرورتها التاريخية، بَدْءاً من الشِّعر الجاهلي إلى اليوم، ليس في ما هو سائد من نصوص مدرسيةٍ، أو ما يقرأه التلاميذ والطلبة، مما هو مفروض عليهم من مقررات، بل في النصوص الإبداعية التي نَأَتْ بنفسها عن التعبيرات، والمجازات الباردة والميتة، وفتحَتْ، مثلما فعل القرآن نفسه، طُرُقاً جديدة في التعبير، وفي التفكير، وطريقة النظر، أيضاً، سيكتشف ما حَدَث في العربية من انتقالاتٍ، وما عَرَفَتْه من تَطَوُّر، ومن إضافات، كانت بدأتْ منذ ما قبل مجيء الإسلام، بكثير، وهو ما يعود به طه باقر، إلى مرحلة الأكديين، وما كان اسْتعارَهُ منهم السومريون من مفردات. ما يعني أنَّ العربية كانت، دائماً، مفتوحة على كل ما يجري في محيطها، وخارجه، وعلى اللغات التي كانت تنتمي لنفس العائلة اللغوية، أو كانت تشترك معها في كثير من خصائها المُمَيِّزَة لها.
اشتقاق المعاني
فالعربية، مثلاً، هي بين اللغات المُتَصَرِّفَة، التي يَتَغَيَّر فيها الأصل الواحد، ويتحوَّل إلى صُوَر عديدة للدلالة على المعاني المختلفة. وهي بعكس اللغات الأُحادية، التي لا تتعدَّى كلماتُها المقطع الواحد، ولا أثَرَ فيها للِتَّغَيُّر تَبَعاً للمعاني. وأيضاً، قياساً، ومقارنةً باللغات المَزْجِيَة التي يدخل ألفاظها بعض التغيير، بما يحدث فيها من ربْطِ لفظة بأخرى، وإلصاقها بها، تدل أوْلاهُما على أصل المعنى، والثانية على المعنى المُضاف إليه. وإضافة إلى طابعها الإعرابي، الذي كان ابن مضاء القرطبي، في الأندلس، بين أهم من دَعَوْا للتخَلِّي عنه، فهي لغة اشتقاقية، يَتِمُّ فيها، دائماً العودة للأصل، وإلى المعنى الكلي الذي تُؤدِّيه المادة الأولى التي منها اشْتُقَّت جميع المعاني الجزئية. وقد لُوحِظ، يقول بعض الباحثين، أنَّ اللغات أول ما تكون إجماليةً، ثم إذا أخذت تترقَّى، مالَتْ إلى التفصيل. وللعلوم في اللُّغات تأثير يميل بها إلى الجهة التفصيلية.
لا يمكن لمن يدرس تاريخ العربية، في علاقتها باللهجات التي كانت موجودةً قبل اليوم، وبينها لهجة قريش، ولهجة تميم، مثلاً، أن يتجاهَل، ما حَدَث في الشِّعر الجاهلي من وَحْدَةٍ في اللِّسان، رغم ما كان بين القبائل من اختلاف، في بعض مواطن النُّطق، واستعمال بعض الحروف، مثل العين والنون، فقد رُوِيَ عن لهجة هُذيل والأزد وقيس والأنصار، وهُم جميعاً، يمانيون، عدا هُذيل، أنهم كانوا يجعلون العين الساكنة نوناً، إذا جاورت الطاء، وفي هذا المعنى، كان الحسن البصري وابن محيض يقرأون ‘إنَّا أعطيناك الكوثر’، بـ ‘إنَّا أنْطَيْناك الكوثر’، وهو ما سُمِّي، بـ ‘الاستنطاء’. فالشِّعر الجاهلي، جاءَ خارج هذه الاختلافات، وجاء بلغة عربية فصيحة، وهي ليست لا لغة قريش، وحدَها، ولا لغة تميم، فاللغة العربية، كما يقول الدارسون، ‘ليست لغة قريش ولا لغة غيرها من القبائل العربية وإنما هي اختيار لا شعوري من لغة هؤلاء وهؤلاء حدث من احتكاك كثير من أفراد هذه القبائل في مواسم الحج والتجارة. والأسواق الأدبية المختلفة فنتج عن هذا الاحتكاك الكبير بين القبائل ذلك الكيان اللغوي الذي عرفناه باسم اللغة الفصحى وهي اللغة المشتركة بين أدباء هذه القبائل جميعاً ينظمون بها شعرهم ويُعَبِّرون بها عما يجيش في صدورهم في ساعات الجد كمواقف الخطابة مثلاً’.
مواسم اللغة
فالشِّعر الذي جاء مُوَحَّداً، هو تعبير عن هذا الانشراح الذي اتَّسَمَتْ به العربية، في قبولها لِما كان يدخُل سياقاتها التعبيرية، والتركيبية. يقول السيوطي، في ‘المُزْهِر’ وهو من علماء اللغة، رواية عن الفرَّاء ‘كانت العرب تحضر الموسم في كل عامٍ وتحُج البيتَ في الجاهلية وقُرَيْشٌ يسمعون لُغاتِ جميع العرب فما اسْتَحْسَنُوه من لغاتِهم تكلموا به فصاروا أفْصَح العرب خَلَتْ لغتهم من مُسْتَبْشَع اللُّغات ومُسْتَقْبَح الألفاظ’.
في هذا ما يُشير لتاريخٍ، طويل، وعميق، من الحوار، والإنصات، والتَّفاعُل، الذي وَجَد القرآن أنَّه هو واقِع لِسان العرب، بما في ذلك ما دخل على العربية من كلام غير عربي، في أصله، كما أحْصَى، الدكتور إبراهيم إنيس هذه الألفاظ، وهي موجودة في القرآن، نفسه، في كتابه ‘الأصوات اللغوية’، اعتماداً على المصادر القديمة التي دَوَّنَتْ هذا ‘الدخيل’، وما عاد به طه باقر في كتابه ‘من تراثنا اللغوي القديم ما يُسمَّى في العربية بالدخيل’ للأصل الأكدي، على اعتبار الأكدية من اللغات ‘السامية’، من حيث الأصل. وفيه ما يُشير، أيضاً، لحركية العربية، وديناميتها، وقابليتها لاسْتِدْخال، ما ليس فيها من ألفاظ، وتعابير، واقتراض ما تحتاجُه، كما كانت هي نفسها تمنح لغيرها من اللغات الأوربية، بعض ما احْتَاجَتْه في التعبير، سواء في اللغة الفرنسية، أو في اللغة الإنجليزية، وهذا ما تُثْبِتُه المعاجم الغربية نفسها، في العودة بالكلمات لأصولها.
إنَّ نظرية الانغلاق، والانفصال عن الجوار، وعن الحضارات، والثقافات الأخرى، لا يمكنها أن تُنْتِج معرفةً حَيَّةً مُتَجَدِّدَةً، لأنَّ اللغات، والثقافت، والمعارف، والعلوم، تَغْتَنِي بعلاقتها ببعضها، وبما تعقده بينها من لِقَاءٍ. وهذا، كان بين ما أعطى ذريعةً لمن يدعون للتدريس بالعامية، لاعتبار اللغة العربية لغة ‘إرهاب’، ولغةً جامدَةٍ، لأنّنا نعتبرها، جَهْلاً، لغة القرآن، دون أن نفصل بين اللغة في عمومها، وبين الطريقة أو الأسلوب في خصوصيته، وفرادته. فكما حَمَلت العربية الشِّعر الجاهلي، وحملت لغة الأمثال، كما جمعها الميداني، في ‘مجمع الأمثال’، وحملت لغة الخطابة، والفكر والفلسفة، ولغة التجارة، والحساب، حملت لغة القرآن، باعتبارها كلها تُغْنِي اللسان العربي، وتجعل منه لساناً حيّاً، مُتَجَدِّداً.
لا تُوجَد عندنا دراسات في التاريخ الجمالي للغة العربية، ثمة أمور نقرأها، هنا وهناك، مُتَفَرِّقةً، فيها تلميح لهذا المعنى، لكن الدراسة والبحث المُتَخَصِّصَيْن، لم يوجدا بعد، والشُّعراء والكُتَّاب، ممن في ألسنتهم بَلَل اللغة، يعرفون مواطن الجمال في هذا التاريخ، لكنهم ينقلونه، بطريقتهم، إلى ما يكتبونه من نصوص، وروايات، وقصص، لأنَّ البحث في هذا الموضوع يتطلَّب تفرُّغاً كاملاً، لوضع اليد على حقيقة هذه اللغة، وعلى ما فيها من قُدرة على الخلق، وعلى وضع ما يبدو فيها عاجزاً عن البقاء، جانباً، مثلما عابَ النُّقَّاد على المتنبي استعماله ما نَبَا على اللِّسان، من ‘حُوشِيِّ’ الكلام، مثل كلمة ‘مُسْتَشْزِرات’، رغم شهادتهم بشعريته العظيمة، وبقدرته على نحت أسلوب في الشِّعر، شغل النَّاس، وملأ الدُّنيا.
كان الحسن الثاني، في حوار مع عثمان العمير، عن جريدة الشرق الأوسط، تحدَّث، لهذا الأخير ‘عن ضرورة الحفاظ على اللغة العربية’ مُشيراً إلى كتاب كان يقرأه وهو في مقتبل العمر، وهو كتاب ‘رَنَّات المَثالِثِ والمتاني في روايات الأغاني’، باعتباره كتاباً كان ضمن ما قرأه، أو كان ضمن ما قرأه في مقررات الدراسة، وهو مختارات من الشعر والنثر العربيين القديمين، في إشارة منه لمتانة عربيته، التي اكْتَسَبَها بهذا النوع من النصوص القديمة. وهذا الكتاب، حين حَصَلْتُ على نسخة منه، وجَدْتُ فيه نصوصاً عربية عميقة، وذات دلالات في اختياراتها، وهي بين المختارات التي تساعد على تقوية اللسان العربي في لحظة من لحظات التكوين، وهذا لا علاقة له بالسلفية اللغوية، أو الفكرية الجامدة، التي لا تؤمن بحركية المعرفة، وتطورها، لأن الجامعات، والمؤسسات التعليميمة، إبَّان هذا لتاريخ، كانت تفرض على طُلاَّبِها هذا النوع من المصادر، من مثل ‘نهج البلاغة’ لعلي بن أبي طالب، وكتاب ‘الأمالي’ لأبي علي القالي، و’منتهى الطلب في أشعار العرب’ لابن ميمون، التي كانت تُدَرَّس وفق طُرُق، كانت لها فائدتُها، آنذاك، في صَقْل أذْوَاق الناس، وتربيتهم على عَذْبِ الكلام، وفصاحته.
‘ كاتب مغربي
لا أدعو، اليوم، لتدريس العربية بطريقة القُدماء، بل أدعو لوضع هذه النصوص رَهْن إشارة الأجيال الجديدة، وتَشْذِيبِها، من بعض ما يمكنه أن يعوق وصولَها لهم، دون نحو، ودون بلاغة، أعني دون هذه الدروس التي كثيراً ما لاتُفِيد، في وصول اللغة لقارئها، أو تقتل رَغْبَتَه في الاستزادة، والاستمرار. فالنصوص، بما فيها من مجازات، وما فيها من تخييلات، وصور، كافية، وَظِيفِياً، لتضع القاريء أمام هذه الظواهر اللغوية، ليكون تَعَلُّمُه دون حاجة للقاعدة. فمحمود سامي البارودي، وهو من شعراء ‘النضة العربية’ الذي كتب شعره بمعايير الشِّعر العباسي، بشكل خاص، لم يكن يعرف قواعد العربية، لكنه لم يكن يَلْحَنُ، أو يَغْلَط فيها، فهو اكتفى بقراءة، وحفظ النصوص القديمة، واستيعابها في سياقاتها التعبيرية الجمالية، دون إكراهات القواعد النحوية، أو البلاغية، التي كثيراً ما لا تُفْضِي لشيء، لِما فيها من عَنَتٍ، وفق ما كان إشار إليه طه حسين، حين تكلَّم عن مناهج تدريس النحو، وبينها حفظ الألفية، في الأزهر.
من يضع العربية في قارُورَة ويُغْلِق عليها، مُعْتَبِراً ما قاله القدماء هو اللغة، فهذا تفكير ساذج، لم يَخُض أصحابه العربية في مصادرها الإبداعية، التي احْتَفَت بالإضافة والتجديد، وعلى رأسها القرآن، ككتاب مُدْهِش في لغته، وهذه معجزته الكُبْرَى. العربية هي لغةُ تداوُل، واستعمال، وكل ما نستعمله ونتداوله، قابِل للإضافة والابتكار. وهذا ما يجعلني، شخصياً، أعتبر العربية أرضاً واسعةً، أتَحرَّك فيها بحرية، وكُل ما يُواجِهُنِي فيها من قيود، أحرصُ على تدليله، بالبحث في هذه اللغة العظيمة، وبقراءة ما تحقق فيها من تراكُمات، في الرواية، كما في الشِّعر، وفي كتب التراث القديم. فلغة أدونيس، مثلاً، ليست هي لغة دوريش، أعني أسلوبَ كتابةِ كُلٍّ منهما، وليست هي لغة السياب، ولا لغة الماغوط، أو لغة أحمد المجاطي، أو محمد المختار الكنوني، ولا هي لغة جبران خليل جبران، الذي كان صَرَخ في وَجْه من اسْتَهانوا ببعض استعمالاته اللغوية، في مقاله الشهير، ‘لكم لغتكم، ولي لغتي’. فكل كاتِبٍ، هو أسلوب، والأسلوب، كما في المثل الفرنسي، هو الرجل، وهو طريقة في التعبير، فيها إضافة، وفيها ابتكار، وزيادة، وهذا ما لا نَنْتَبِه له، لأنَّ المدرسةَ، والجامعة أعْمَتَيَانِنا على رؤية خيوط العنكبوت الموجودة في نص كل شاعر، وكاتب، وما تَحْفَل به من حِياكَة، لا تتكرَّر في غيرها. الخلل، إذن، هو خَلل في طريقة النظر، وفي طريقة قراءة النصوص، وفي ما نفرضه على النصوص من أحكام، سابِقةٍ على قراءتنا لها، لأننا عادةً ما نقرأ ما في رؤوسنا، لا ما هو مكتوب على الورق.
العربية لغة علم ومعرفة، وأذكر، حين كنتُ أدرسُ في بغداد، وهذا ما يحدث في أكثر من بلد عربي، أن كلية الطب، والهندسة، والعلوم الصِّرْفَة، كانت تُدَرَّس بالعربية. والجميع يعرف ما كان حَقَّقَه العراق، آنذاك، من تقدم في تعليمه، وما كان فيه من عقول، قبل أن يستعملها النظام العسكري، في غير ما وُجِدَتْ له. وأمريكا، ومعها إسرائيل، عَمِلَتا على سرقة هذه العقول، ومَنْ رفَضَ، من هؤلاء، تَمَّ اغْتِيالُه. هؤلاء درسوا في جامعات بغداد، ودرسوا هذه العلوم باللغة العربية، وكانت اللغات الأجنبية. الأخرى، ضمن مقرراتهم الدراسية، حتى لا يكونوا خارج سياق التطورات العلمية، كما تَحْدُثُ في الغرب. فهل الخلل في اللغة، أم في طُرق تدريسها، وفي من يُدَرِّسُونها، ممن يُعانون مشاكل في التكوين، هُم أنفسهم، وفي استهانة الدولة نفسها بهذه اللغة، وتَرْكِها عُرْضَةً للإهمال، خصوصاً حين لا يتم استعمالُها في سوق الشُّغل، وفي الإدارات، رغم أنها لغة البلاد الرسمية، وهذا ما ينطبق على الأمازيغية، أيضاً؟
الدارجة المغربية، أو العامية خَرَجتْ من العربية، وليست العربية هي التي خرجَتْ من العامية، كما تَوَهَّم أحد الزَّجَّالين، وهي عربية فيها ‘لَحْن’، أي خَضَعَتْ لِتَكْيِيفٍ فَرَضَه التَّداوُل المحلي العام. الكلمات غير العربية، في الدارجة المغربية، يعرفها الجميع، وهي دخلت اللِّسانَ المغربيّ مع دخول الحماية الفرنسية، واحتلال الإسبان لشمال المغرب، لكن ‘الفصيح في العامية’، كثير، وهذا كان كان أحْصَاه، واسْتَخْرَجَه باحثون مغاربة، من العارفين بأسرار العربية، والعامية، معاً، وألَّفُوا فيه أعمالاً، مثل الشاعر الراحل محمد الحلوي. والفصيح في العامية موجود في عامية ‘الهلاليين’، وخصوصاً سكان سهل الشاوية، أو أهل فاس، أو في المناطق الجنوبية، وفي شمال المغرب، وهذا يحتاج مِنَّا، فقط، أن نُنْصِت لِما يَتَلَفَّظ به هؤلاء، لندرك حضور الفصيح في العامي، وطبيعة اللُّحْمَة التي تَشُدُّهُما إلى بعضهما، ما يجعل من استعمال عبارة ‘اللغة الأم’ بإطلاقها على العامية، دون العربية، أمر غير دقيق، ويحتاج لمراجعة فاحِصَة، بالعودة لتاريخية العلاقة بين الفصيح والعامي.
في الزَّجَل المغربي، أو الشِّعر ‘المكتوب’ بالعامية عند الفنان الراحل الطيب لعلج، أو الذي كتبه حسن المُفتي، أو الشاعر أحمد لمسيح، أو غيرهما من الزجاليين المعاصرين، وحتى ما كتبه عبد الرحمن المجدوب، وهو ما ينطبق على شعر الملحون، وكلام الغيوان، وجيل جيلالة، كثير من الكلام الفصيح، ما يُشير لعلاقة العامية المغربية بالعربية، التي بقيت في مَنْأًى عن احتلال العثمانيين الأتراك للمغرب، الذين عَطَّلّوا العربية في المشرق العربي، وساهموا في التَّخلُّف الفكري والثقافي، في العالم العربي، وها هُم اليوم يدخلون إلى بيوتنا بجيوش افتراضية، لا نراها سوى في ‘حريم السلطان’.
لا أحدَ يمكنه أن يتنكَّر لهذا التَّنَوُّع التعبيري، حتى لا أقول اللغوي، في الثقافة المغربية، فكل ‘لسان’ هو إضافة، وهو إغناء لـ ‘اللغة الأم’ التي هي العربية التي خرجت منها العامية، ومنها خرجت كل المعارف التي كانت سبب ما بلغه العرب في مجالات العلوم المختلفة، مثل الرياضيات، والطب، والفلك، والهندسة، وعلم البصريات، والرَّيّ.. ما الذي حدث لتصير هذه اللغة التي انتجت كل هذا، عاجزة اليوم عن الانتاج والابتكار؟ فكما أشرتُ، في الفقرة أعلاه، فالعربية اغتنتْ باللهجات، وتوسَّعت بالحوار مع اللغات والثقافات المجاورة، وهو ما عبر عنه القرآن نفسه، عملياً، فكيف أصبحت اليوم تعاني هذا الفقر، ليس في إبداعات الكُتاب والمفكرين والشعراء، بل في مجالات العلوم، وفي التفنيات الحديثة؟ أليس هذا ناتج عن خطأ بشري، سببه الإنسان، لا اللغة، وأعني، من يعملون على تقديس العربية، وتحويلها إلى سماء، والذين يزدرونها ويعملون على تمريغها في وَحَل اللِّسان الدَّارج، الذي هو لسان العامَّة، مما لا هو عربي، ولا هو دارج، في كثير من الأحيان، مثل لغة الإشهارات المكتوبة في الفضاء العام، وهو ما كان سمَّاه الفنان الساخر بزيز بـ ‘العرنسية’؟
لِنَعُد إلى ذواتنا، وننظر في مرآتنا، ونتأمَّل ما الذي وقع لنصير بمثل هذا الاستخفاف، في كل شيء، فنحن في حاجة لنعرف أنفسنا، بقراءة ماضينا، ليس في ما تقوله لنا فضائيات الجنة والنار، بل في المصادر المُتاحَة، والتي تحتاج منا لنُنْصِتَ لها بهدوء، ودون انفعال، ونقرأها باعتماد السياقات التي ظهرت فيها، وأسباب نزولها، ونعمل على اختبار راهنيتها، أو قدرتها على الحياة معنا، أو البقاء في ماضيها الذي مضى وانتهى. فمن لا يستطيع أن يقرأ بهذا الصبر، والرَّوِيَّة، عليه ألا يحشر نفسه في ما لا علم له به، من الطرفين، الذي يتغوَّل باستعمال الدين كذريعة لأخفاء عجزه وجهله، وشَحْن عقول الناس بالخُرافات والأساطير الفارغة، والذي يتغوَّل بالاستقواء بالغير على هشاشة وضعف الذات التي لا تزال تعاني أعطاب ‘الانحطاط’ و’التراجع′.