شيئا فشيئا تضيق الخيارات المتاحة أمام رئيس الحكومة المعين عبد الإله بنكيران، عبر اختيار الأحزاب الصغرى لما يعتبره كثيرون “سلوكا انتحاريا” تحت وطّأة الخيارات الخاصة لقادتها، والحسابات السياسية غير الدقيقة لمعطيات المشهد. وهكذا، وبعد أن كان دخول الاتحاد الدستوري، أو الحركة الشعبية، أو الاتحاد الاشتراكي كفيل بتأمين الأغلبية العددية الكافية لتمرير برنامج الحكومة المرتقب في البرلمان، بعد تأمين تواجد حزبي الاستقلال والتقدم والاشتراكية، إلى جانب العدالة والتنمية فيها، جعل “الفيتو” الذي رفعته هذه الأحزاب، صراحة أو مداورة، هذه المهمة التي كانت تبدو يسيرة في أعقاب جولة المشاورات الأولى لتشكيل الحكومة، أمرا في غاية التعقيد والصعوبة.
وإذا كان سلوك الاتحاد الدستوري مفهوما، وإن كان مستغربا، حيث فضل التفاوض مع قيادة حزب التجمع الوطني للأحرار بدلا من بنكيران من أجل دخول الحكومة، عبر الحديث عن فريق برلماني واحد، وخوض المفاوضات لدخول الحكومة كفريق وليس كأحزاب، فإن ما حصل في حالة الحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي أمرا أكثر غرابة.
الحركة الشعبية التي اعتادت دخول مختلف الحكومات المتعاقبة، “إشتراكية كانت أو استقلالية أو تكنوقراطية أو إسلامية”، وبعد أن رحبت مبدئيا بدخول الحكومة حتى قبل أن تجرى الانتخابات ويعرف هوية الفائزين فيها؛ ورغب ترحيبها بالدخول في أعقاب جولة المباحثات الأولى مع رئيس الحكومة المعين، عادت “لتلصق” نفسها بحليفي الماضي البعيد، الأحرار والدستوري، والتي شكلت مجتمعة “كتلة الوفاق” في مواجهة “الكتلة الديمقراطية” المشكلة من أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية. ومصدر الاستغراب، أو لنقل مصادره، تعود إلى أن الأحرار وحليفه الدستوري لم ينبسو ببنت شفة تعليقا على محاولة ارتباط الحركة الشعبية بهم، بل ولم تصدر عنهم كلمة ترحيب واحدة بمن يخطب ودهم، ويذكرهم بماضي تحالفهم، فأصبحوا كما تقول العرب “كالمنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى”. أضف إلى ذلك أن الحزب يعيش على إيقاع خطر داخلي حقيقي يهدده بالتفكك، وبالتالي التلاشي، وكان ممكنا، نظريا على الأقل، أن تستخدم المناصب الحكومية وسيلة لإسكات المعارضين وإيجاد تسوية معهم.
أما الاتحاد الاشتراكي، فقصته أكثر تشعبا وغرابة. فبعد أن تنكر لصورته التقليدية باختيار التحالف مع حزب الأصالة والمعاصرة، حزب المعارضة الرئيسي، منذ ما قبل الانتخابات المحلية، واكتوى مرتين بنتائج هذا التحالف؛ وبعد أن رفع لواء “نحن مع الاستقلال داخل أو خارج الحكومة”، وتنكر له مع بدء المشاورات لتشكيل الحكومة، معلنا وفاة الكتلة الديمقراطية التاريخية، الميتة سريريا منذ عقد على الأقل، بقي سلوكه مطبوعا بالمراوحة غير المبررة للكثيرين، ما بين تسهيل جهود تشكيل الحكومة، ووضع العصى في دواليبها، ولم يخرج بموقف واضح يحسم أمر دخوله فيها. الحزب العتيد الذي يجر وراءه إرثا يساريا لم يبق له أثر يذكر، ورضوخا لرغبات قيادته وزعيمه إدريس لشكر، بقي متشبثا بعلاقاته الجيدة مع غريم العدالة والتنمية حزب الأصالة والمعاصرة، وكال الغزل للقطب الجديد الممثل في التجمع الوطني للأحرار، وأعلن في آخر خرجاته أنه سيبقى في المعارضة حتى لو دخل الحكومة!!! الأغرب هي التبريرات التي تسوقها قيادة الحزب من أجل تسويق موقفها الغامض، الذي يكادون يكونون الوحيدين الذين يعتقدون أنه “غموض إيجابي”. فحجة الحزب بأنها لن تعلن الموافقة على المشاركة في الحكومة قبل أن تعرف برنامجها والقطاعات التي ستسند إليها، موقف يجمع غالبية المحللين على غرابته، حيث أنه من غير المعقول أن يخوض رئيس الحكومة المكلف عبد الإله بنكيران في هذه التفاصيل مع حزب لا يدري إن كان سيدخل الحكومة أم لا، إذ أن بديهيات التفاوض تقول بأن هيكل وبرنامج الحكومة المقبلة يقتصر تحديده على الأغلبية التي حسمت أمر مشاركتها، ولا يتم مع المعارضة! كما أن إعلان المشاركة في الحكومة لن يعتبر “زواجا كاثوليكيا”، ويحرمهم بالتالي من خيار الطلاق معها في حال اصطدمت بقناعاتهم وبرنامجهم.
أضف إلى ذلك أن الوضعية الداخلية للاتحاد الاشتراكي لا تقل تأزما عن سابقه الحركة الشعبية، وأن مستقبله برمته يوجد أمام علامة استفهام كبيرة، بسبب توزع أنصاره التقليديين ما بين حزب اليسار الاشتراكي الموحد، وبين من اختار الاعتزال والجلوس في المنزل، هذا دون الحديث عن حرب الأجنحة والتيارات المستعرة في أوساط من تبقى داخل قيادة الحزب. وعمليا، يدفع الحزب اليوم غاليا، ثمن تغاضيه عن محاسبة قيادته، وتحديدا زعيمه لشكر بعد الإخفاق المدوي في الانتخابات الجماعية والتشريعية، وتجاوزه عن كل الأزمات التي أدخله فيها بسبب خياراته الفردية، وآخرها أزمة “خدام الدولة”.
مجمل القول، أن الأحزاب الصغرى برفضها دخول الحكومة، والعمل على تعديل برنامجها من الداخل، اختارت أن تلقي بنفسها في المجهول، بما يحمله ذلك من مخاطر عالية “للتجمد بردا في صقيع المعارضة”! وهكذا، لا يبقى أمام بنكيران عمليا سوى خيار التجمع الوطني للأحرار، منفردا أو بمعية الاتحاد الدستوري، وهي معركة عض أصابع أخرى، إذا ما أراد لمهمته أن تكتمل، وللحكومة المغربية الجديدة أن تتشكل بعد طول انتظار، مع ما يتطلبه ذلك من تنازلات مؤلمة متبادلة.